الدعاء والتوكل نافعان في الدنيا والآخرة

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه، أما بعد:

فإن التوكل والدعاء من أعظم والعبادات والقربات التي يتقرب بها العبد إلى خالقه ومولاه، ومن سر ذلك أن عماد التوكل والدعاء الافتقار إلى الله تعالى واللجأ إليه سبحانه، مع يقين القلب أن الله على كل شيء قدير وأنه أحاط بكل شيئا علما، وأنه لا يعجزه شيء، وتلك غاية العبودية، والإقرار لله بالألوهية والربوبية.
ولكن نفع هاتين العبادتين ليس محصورا في أمر الآخرة وثوابها فقط، وإنما هو شامل كذلك لتحصيل المصالح الكثيرة في الدنيا، وحصول الخيرات للعبد، ودفع المضار عنه، يقول تعالى :
{ أليس الله بكاف عبده}، ومن يقيم التوكل والدعاء على وجههما فهو من أعظم الناس قياما بوصف العبودية، أي أنه أحق الناس بكفاية الله وحفظه في الدنيا والآخرة.
وهذا نقل نفيس للعلامة ابن مفلح المقدسي الحنبلي رحمه الله، يجمع فيه كلاما نفيسا لشيخ الإسلام وابن عقيل الحنبلي وغيرهما من علماء الإسلام، ليقرر به عموم نفع الدعاء والتوكل في أمري الدنيا والآخرة، فقال رحمه الله تعالى:
" قال الشيخ أيضا – يعني شيخ الإسلام ابن تيمية - : ظن طائفة أن التوكل لا يحصل به جلب منفعة ولا دفع مضرة، بل كان مقدورا بدون التوكل فهو مقدور معه، ولكن التوكل عبادة يثاب عليها من جنس الرضا بالقضاء، وقول هؤلاء يشبه قول من قال إن الدعاء لا يحصل به جلب منفعة ولا دفع مضرة، بل هو عبادة يثاب عليها..... إلى أن قال: الذي عليه الجمهور أن المتوكل والداعي يحصل له من جلب المنفعة ودفع المضرة ما لا يحصل لغيره، والقرآن يدل على ذلك، ثم هو سبب عند الأكثرين وعلامة وأمارة عند من ينفي الأسباب، ويقول إن الله يفعل عندها لا بها، ويقولون ذلك في جميع العبادات.... وذكر كلاما كثيرا، واحتج بالآيات المشهورة .
وذكر في التحفة العراقية أن التوكل واجب باتفاق أئمة الدين.
وقال في شرح مسلم: قال العلماء رحمهم الله استعاذته صلى الله عليه وسلم من هذه الأشياء لتكمل صفاته في كل أحواله، وشرعه أيضا تعليما لأمته.
وفي هذه الأحاديث دليل لاستحباب الدعاء والاستعاذة من هذه الأشياء المذكورة وما في معناها، وهذا هو الصحيح، والذي أجمع عليه العلماء وأهل الفتاوى في الأمصار في كل الأعصار، وذهب طائفة من الزهاد وأهل المعارف إلى أن ترك الدعاء أفضل استسلاما للقضاء.
وقال آخرون منهم: إن دعا للمسلمين فحسن، وإن دعا لنفسه فالأولى تركه. وقال آخرون منهم: إن وجد في نفسه باعثا للدعاء استحب وإلا فلا.
ودليل الفقهاء ظواهر القرآن والسنة في الأمر بالدعاء وفعله، والإخبار عن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين بفعله.
وقال الشيخ تقي الدين في مواضع: أعمال القلوب كمحبة الله ورسوله، والتوكل على الله وإخلاص الدين له، والشكر له والصبر على حكمه، والخوف منه والرجاء له، وما يتبع ذلك واجب على جميع الخلق، مأمورون باتفاق أئمة الدين، لا يكون تركها محمودا في حال أحد وإن ارتقى مقامه، والذي ظن أن التوكل من المقامات العامة ظن أن التوكل لا يطلب به إلا حظوظ الدنيا وهو غلط، بل التوكل في الأمور الدينية أعظم...
قال: وأما الحزن فلم يأمر الله به ولا رسوله، بل قد نهى عنه في مواضع، وإن تعلق بأمر الدين كقوله:
{ ولا تهنوا ولا تحزنوا }، { لا تحزن إن الله معنا }، { فلا يحزنك قولهم }، { لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم }.
وذلك لأنه لا فائدة فيه، وما لا فائدة فيه لا يأمر الله به، نعم! ولا يأثم به صاحبه إذا لم يقترن بحزنه محرم، وقد يقترن الحزن بما يثاب صاحبه عليه ويحمد عليه، فيكون محمودا من تلك الجهة لا من جهة الحزن، كالحزين على مصيبة في دينه، وعلى مصائب المسلمين عموما، فهذا يثاب عليه على قدر ما في قلبه من حب الخير، وبغض الشر وتوابع ذلك، ولكن الحزن على ذلك إذا أفضى إلى ترك مأمور من الصبر والجهاد وجلب منفعة ودفع مضرة نهي عنه، وإلا كان حسب صاحبه رفع الإثم عنه من جهة الحزن، وأما إذا أفضى إلى ضعف القلب واشتغاله به عن فعل ما أمر الله به ورسوله كان مذموما ومردودا عليه من تلك الجهة، وإن كان محمودا من جهة أخرى.
وأما المحبة له والتوكل عليه والإخلاص له فهذه كلها خير محض وهي محبوبة.
ومن قال إن هذه المقامات تكون للعامة دون الخاصة، فقد غلط إن أراد خروج الخاصة عنها، فإن هذا لا يخرج منها مؤمن قط، إنما يخرج عنها الكافر والمنافق، وذكر كلاما كثيرا.
وقال ابن عقيل في الفنون: العقلاء يعلمون أن الاحتراز لا يقدح في التوكل، وأن دقيق الحيل من الأعداء يدفع بلطيف التحرز والمبالغة في التحفظ، وروى الخلال في الجامع في آخر الجنائز عن سعيد بن المسيب أن سلمان الفارسي وعبد الله بن سلام رضي الله عنهما قال أحدهما لصاحبه: إن لقيت ربك فأخبرني ما لقيت، وإن لقيته قبلك أخبرتك، فذكر سعيد أن أحدهما توفي فلقي صاحبه في المنام، فقال له الميت: توكل وأبشر فإني ما رأيت مثل التوكل.
وروي فيه أيضا في التجارة والتكسب: أخبرنا محمد بن أحمد بن منصور قال: سأل المازني بشر ابن الحارث عن التوكل، فقال: المتوكل لا يتوكل على الله ليكفى. ولو حلت هذه القصة في قلوب المتوكلة لضجوا إلى الله بالندم والتوبة، ولكن التوكل يحل بقلبه الكفاية من الله فيصدق الله عز وجل فيما ضمن.
ولم يذكر الخلال ما يخالف كلام بشر لا من عنده ولا من عند غيره، فبشر رحمه الله يقول من توكل ليكفى لم يخلص التوكل لله، فيقدح فيه ويكون لغير الله، ونظيره من اتقى الله ليجعل الله له مخرجا، ومن اتقى الله ليجعل له فرقانا، ومن تواضع ليرتفع.
ولهذا قال عليه السلام ""وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله"، ولهذا قال بعضهم لبعض من تواضع ليرتفع: لا يرتفع بالتواضع. أي: لا يقصد هذا. وهو نظير الكلام المشهور: من أخلص لله أربعين يوما نطق بالحكمة. وفعل بعض الناس له لينطق بالحكمة وأنه لم ينطق بها، وسأله بعض المشايخ عن هذا فقال له: لم تخلص إنما فعلت هذا لأجل هذا. وهذا الكلام "من أخلص لله" يروى عن مكحول عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا". [الآداب الشرعية لابن مفلح (2/265-268)].
رزقنا الله وإياكم حسن التوكل والدعاء، ولزوم ذلك في السراء والضراء.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
منقول