القياس النحوي بين التجريد العقلي والاستعمال اللغوي
الكاتب د. حسن منديل حسن العقيلي
الخلاصة:
البحث محاولة لدراسة القياس النحوي في ضوء النظام اللغوي الاستعمالي للعربية ، الذي ينأى عن النظام العقلي المنطقي التجريدي التعليمي ويتقاطع معه كثيراً. وقد درس النحاة – ولاسيما المتأخرون منهم – القياس في ضوء النظام العقلي لذلك أهدرت مواد لغوية ، وأضيفت أخرى خارجة عن النظام اللغوي الاستعمالي للعربية.
تناول القياس كثيرٌ من الدارسين القدامى والمعاصرين([1]).ولا نريد هنا تناول القياس تناولاً تقليدياً فنبدأ بالقياس لغة ثم اصطلاحاً ثم نكرر ما قاله الدارسون من ذكر أركان القياس وأنواع العلل وغير ذلك. ولسنا ملزمين باستقصاء دارسيه وأرائهم به كل الإلزام وإنما نتناول القياس على وفق منهج نقدي ، وفي ضوء نظام العربية. حيث تختلف نتائج البحث ومساراته بحسب الهدف والمنهج وطريقة التفكير، فيضيق او يتسع او يكون تقليدياً او أصيلاً.
تناول النحاة النظام اللغوي للعربية في ضمن مباحث القياس النحوي وتوسعوا فيه بمنهج عقلي ولاسيما لدى المتأخرين. على الرغم من الفارق الكبير بينهما ، فالنظام اللغوي للعربية أكثر دقة وأقرب إلى واقع اللغة العربية (النصّ القرآني). والقياس النحوي يهدر مواد لغوية كثيرة ويضيف أخرى خارجة عن النظام اللغوي والاستعمال ، داخلة في النظام العقلي المنطقي المعياري التعليمي. والقياس جزء من نظام العربية إلا ان النحاة جعلوا نظام اللغة العربية قسماً من أقسام القياس النحوي ، ثم انحرفوا عنه كما سنرى.
ومصطلح القياس عام ، تشترك فيه علوم مختلفة ، حيث تتغير مفاهيمه تبعاً للمادة العلمية التي يتناولها ، والغاية منها ، كالفقه الذي يستخدمه لاستنباط الحكم الشرعي وإصدار الفتيا. وكذلك الفلسفة والمنطق لانضباط المادة العلمية على وفق نظام عقلي محكم([2]).
لذلك نجد له أكثر من فهم في مصادر اصول النحو تبعاً للمنهج والهدف ، والأهم من ذلك انّ اللغة العربية لا تخضع له خضوعاً مطرّداً وتتقاطع معه كثيراً من هنا ظهرت إشكالات لدى النحاة اضطروا إلى تأويلها أو الانقسام حولها بين متشدد ومتسامح ، لأنهم بَنُوه على المنطق العقلي ، والعربية لها منطقها ونظامها الخاص بها.
القياس "استنباط مجهول من معلوم"([3]) سواء في اللغة او غيرها ، لذا عرّفه اللغويون والنحاة بأنه "حمل غير المنقول على المنقول إذا كان في معناه"([4]).
والفهم العام له اليوم هو "محاكاة العرب في طرائقهم اللغوية وحمل كلامنا على كلامهم في صوغ المادة وفروعها وضبط الحروف وترتيب الكلمات وما يتبع ذلك من إعلال وإبدال وإدغام وحذف وزيادة..."([5]) فهو معيار لضبط حركة الاستعمالات اللغوية الجديدة وعدم خروجها عن سنن الفصحى ، واللغة تحتاج إليه في تطورها لتراكيب التطور الحاصل بمناحي الحياة التي تنعكس على اللغة.
وتتم عملية القياس اللغوي والنحوي على مراحل:
1- رصد الظواهر اللغوية وتصنيفها بحسب تماثلها في التركيب الاعرابي او الصيغ الصرفية ، وتقرير القاعدة اعتماداً على استقراء الغالب في السماع.
2- استبعاد الصيغ التي لم ترد في السماع ولو كانت موافقة للقياس النظري.
3- اعتبار ما خرج من القاعدة المطرّدة سماعاً منقولاً ،لا يقاس عليه مثل الشاذ والنادر وما دعت إليه الضرورة الشعرية([6]).
لذلك نجد مفاهيم كثيرة للقياس في الموروث النحوي ، يخلطون بينها وبين مستويات اللغة المختلفة ، يتوسعون به ويضيقّون بحسب المادة اللغوية التي اختلفوا فيها وبحسب المناهج المختلفة التي تناولوه في ضوئها. اختزلها المتأخرون في منهجين واسعين من غير تحديد دقيق هما: المنهج البصري الذي يمثل الاتجاه العقلي المتشدد في المادة اللغوية التي هي أساس القياس. يقابله المنهج الكوفي الأقل تشدداً في ذلك.
وقد استخلص المعاصرون أقساماً أخرى من القياس لدى القدامى واحتمالاته منها حمل غير المنقول على المنقول من اللغة ، ومنها قياس المشابهة في الأحكام ، والقياس المجازي لدى الفقهاء([7]).
وذكر بعض الدارسين أقساماً للقياس تبعاً للاستعمال ، والعلة الجامعة ، والمعنى واللفظ ، والوضوح والخفاء. وأكّد على التمييز بين القياس اللغوي والقياس النحوي واخذ على الدارسين خلطهم بين النوعين([8]). وصنفه آخر إلى: القياس العام (الأصلي) والقياس النظري (التعليلي)([9]).
وعلى كثرة هذه التقسيمات لا نجد بينها تصنيفاً يبني على التفريق بين اللغة الفنية واللغة الايصالية والعلمية لأنهم حدّدوا لأنفسهم حدوداً وأهدافاً ومسارات أهمها التحديد الزماني والمكاني للمادة الخام التي يبني عليها القياس في ضوء نظرة قدسّية اللغة والخشية على لغة القرآن من التغير والانحراف. معتمدين على المنطق العقلي المجرّد المتمثل في الاطرّاد وانعكاس القاعدة على مواد اللغة جميعها. وفصله أحياناً عن السماع في الدراسة ، "لا يوجد القياس النحوي مستقلاً في الذهن عن السماع لأنه لا يتصوّر احدٌهما إلا اقترانه بالآخر"([10])
ويمكن تصنيف الأنواع الكثيرة للقياس النحوي ومفاهيمه المتعددة والتسميات المختلفة في الموروث اللغوي والنحوي على اتجاهين او نزعتين ظلتا مستمرتين لدى الدارسين منذ نشأة النحو حتى عصرنا:-
النزعة العقلية والنزعة اللغوية وكلتاهما قصرتا في تمثيل واقع اللغة. ونضيف نزعة ثالثة تمثل واقع اللغة وتربط القياس بالنظام الاستعمالي الذي يختلف عن القياس العقلي ، وتدرسه في ضوء النصّ القرآني ونظامه المعجز. يمكن ان نطلق عليها التسميات الآتية تمييزاً لها:
تجريد القياس ، والقياس اللغوي ، وتصحيح القياس (قياس النظام). الأول: أقرب يبدوا إلى النحو ، والثاني اقرب إلى اللغة وروايتها ، والثالث شامل للغة والنحو البلاغة.
1- تجريد القياس([11]): أي تجريده عقلياً سواء اتفق مع الشواهد الواردة او تقاطع فهو أقوى من الشاهد وهو قيمٌ على اللغة ، يهدر منها ويضيف إليها. لذلك طعنوا على فصحاء العرب وشعرائهم([12]) في ضوئه.
نسبت هذه النزعة أولاً إلى ابن أبي اسحق الحضرمي 117هـ ومن تبعه ثم إلى البصريين نسبة عامة تقابل الكوفيين عامة ، او عدّوها الفارق الأساس بين المذهبين النحويين البصري والكوفي وهي غير دقيقة كما أثبت البحث النحوي المعاصر([13]).
وظهرت هذه النزعة واضحة لدى أبي علي الفارسي (377هـ) القائل "لأن أخطيء في خمسين مسألة مما به الرواية أحبّ إليّ من ان اخطيء في مسألة واحدة قياسية"([14]) ، والمازني (247هـ) القائل "ما قيس علي كلام العرب فهو من كلام العرب"([15]) ، وابن جني (392هـ) الذي كان أكثر اهتماماً بالقياس وتوسعاً حيث "كان مولعاً بالقياس كثير الأخذ به ، داعياً إليه ، القائل: "لا تسرع إلى إعطاء اليد بانقاض بابه والقياسَ القياسَ"([16]). وان كان يشير إلى مذهب أبي عمرو بن العلاء (154هـ) ومن تبعه أحياناً نحو قوله: "وان شذّ الشيء في الاستعمال وقوى في القياس كان استعمال ما كثر استعماله أولى وان لم ينته قياسه إلى ما انتهى إليه استعماله"([17]).وصرّح بإبطال القياس عند تعارضه مع السماع.
وتسود هذه النزعة لدى غالب المتأخرين فعدّوا النحو هو القياس ومزجوه بمناهج دخيلة ولاسيما الفقه والمنطق والفلسفة ، واستمر ذلك في عصرنا متمثلاً بالمتشددين في حركة التصحيح المعاصر ([18]).
2- نزعة نسبوها إلى أبي عمرو بن العلاء وبعض تلامذته ومن تبعهم (175هـ) كانوا أكثر عناية باللغة وروايتها وجمعها وتنظيمها والقياس على الأعم الأغلب ، ولا تحكم القياس ولا تعد ما خالف القياس لحناً او خطاً وإنما لغات تحفظ ولا يقاس عليها او سماعاً لا يُرد([19]).
ولا يبتعد المعاصرون عن النزعتين في تفريقهم بين ما سموه بالقياس النحوي والقياس اللغوي وانكروا الخلط بينهما([20]). ويبدو ان الذي ساد لدى المعاصرين (القياس اللغوي) وتحت تسميات مختلفة نحو (القياس الطبيعي) وهو التي تتسع به اللغة لتواكب التطور الاجتماعي والعلمي، فهو استنباط مجهول من معلوم مما لم يذكره القدماء في المعاجم([21]). أي اتخذوه وسيلة من وسائل تنمية اللغة ربما لحاجتهم إلى التعريب وتوليد ألفاظ جديدة ووضع المصطلحات أكثر من حاجتهم إلى وضع قواعد النحو ساد هذا النوع في ضوء قياس كلامنا على كلام العرب. وسمّاه الدكتور تمام حسان بـ (القياس ألاستعمالي) وقال: "انه تطبيق عملي وهو انتحاء كلام العرب ومحاكاته"([22]) وسمّاه د. محمد حسن (قياس الأنماط)([23]) وأقرب تسمياته إلى مضمونه يبدو (القياس الاشتقاقي الصرفي) واللغوي ، قال الزعبلاوي عنه: هذا بحث ظريف خاض فيه الباحثون إذ لم يصرح الأئمة الأوائل بقياس اشتقاق..."([24]). إذن هو قياس تبعاً لحاجة التطور لكنهم جمعوا فيه بين النزعتين العقلية وكثرة المنقول ، وليس على وفق نظام العربية الاستعمالي.
3- قياس النظام:
هو قياس الخليل بن احمد الفراهيدي (170هـ) او فهم الخليل للقياس ومنهجه في تحليل النصّ القرآني وتفسيره له ولاسيما فيما يبدو خروجاً عن القياس النحوي المجرد ، لذلك قالوا عنه انه صحح القياس بعد أن جرده الحضرمي (117هـ) أي ان الحضرمي فصله عن النصّ وواقع العربية الاستعمالي في ضوء نظامها.
الخليل لا يحكم القياس العقلي ولايجرّده من نظام النصّ القرآني ، ولا يقيس على الكثير كما فعل أصحاب نزعة السماع إذا كان خارجاً عن نظام العربية كالنسب إلى قريش بغير ياء وسماه معدولاً ويقيس على القليل الشاذ إذا كان موافقاً لنظام العربية وان لم يرد به السماع او ورد بخلافه ويتخذه أصلاً يقيس عليه. فالقضية ليست سماعاً ورواية ولا كثرة او قلة عددية([25]).
وبهذا شادّ (النحو) واستقام بناؤه واكتمل على يده. ومازلنا نردد أقواله وآراءه في كثير من الدراسات النحوية. ذلك انه درس العربية في ضوء الفهم الإسلامي لها معتمداً على المأثور في لغة القرآن وقدسيتها وربطها بالقرآن والشريعة والعقيدة الإسلامية.
ولا يعني هذا انه لم ترد له أقيسة كما لدى النزعة الأولى لكنه يفرق بينها وبين نظام العربية لذلك توصل احد الباحثين المعاصرين إلى أن الخليل كان لا يسير على وتيرة واحدة في أقيسته([26]).
فهو قياس أقرب إلى نظام اللغة العربية الخاص بها مبني على المشابهة وحمل الكلام بعضه على بعض ، كالتشبيه له طرفان ووجه شبه وعلة جامعة. لذلك سماه النحاة المتأخرون قياس العلة والطرد والشبه. وقد أشار الدكتور تمام حسان إلى قريب من هذا حيث قال: "ان القياس كالمجاز اللغوي بحاجة إلى علاقة تربط بين طرفيه إما ان تكون عقلية (كالمجاز المرسل) او تخيليه كما في (الاستعارة) ، فالعلاقة العقلية في القياس (مناسبة) العلة او (اطراد) الحكم والعلاقة التخيلية إنما تكون هي (الشبه) بين المقيس والمقيس عليه"([27])
لذلك ذكر النحاة المتأخرون أركاناً تشبه أركان التشبيه سموّها (أركان القياس)([28]) وهي المقيس عليه والمقيس (او الأصل والفرع) والعلة الجامعة بينهما. والحكم وهو ليس مطلوباً دائماً. ولتعدد أوجه التشبيه وأنواعه وجدنا القياس أيضاً متعدداً.
لكنهم اختلفوا في بعض شروط المقيس عليه والمقيس([29]) ، قال د. تمام حسان: "شرط المطرد في السماع ألا يكون شاذاً في القياس وألاّ يحفظ ولا يقاس عليه. وإذا اطرد المقيس عليه في القياس ، وقلّ في السماع جاز القياس عليه ترخصّاً في كثرة المسموع وذلك كأن تقيس على النسب إلى شنوءة (شنئي) فتقول في حلوب (حلبي). وإذا كثر في السماع وخالف القياس لم يجز أن نقيس عليه كما في (قرشي) وسلمي وثقفي ومغزى هذا ان موافقة القياس في هذا المجال أولى من كثرة السماع فإذا عرفنا هذا فهمنا السبب في قول النحاة ، وان النحو هو القياس"([30]).
ثم ذكروا شروطاً لكل ركن وتفصيلات وفروعاً ، واختلفوا في كثير منها خلافاً جدلياً عقلياً غير مبني على الواقع الاستعمالي متأثرين بالفقه والمنطق والجدل ولاسيما في العلة فأصبحت غاية في دراساتهم النحوية نحو لم رفع الفاعل ونصب المفعول ولِمَ لم يعكس الأمر ، ولم بنيت بعض الأسماء. وقسموها على أقسام ثلاث العلة القياسية التي هي اقرب لنظام العربية في حمل الكلام بعضه على بعض والعلة التعليمية التي هي تقرّب اللغة للتلاميذ تربط السبب بالمسبب. والعلة الجدلية التي تنأى عن الواقع الاستعمالي وتدخل في علوم عقلية مجردة لذا يكثر فيها الخلاف والنفض فيدخلون في جدلٍ حولها لهذا سميت جدلية.
نحو: لِمَ نَصَبَتْ (إنَّ) الاسم بعدها ورفعت الخبر بعدها. فيقال في العلة التعليمية ، (إنّ) تنصب الاسم بعدها في لغة العرب وبهذا ربط بين السبب والمسبب ويقال في العلة القياسية: لمشابهة (إنّ) الفعل من وجوه إلا انها فرع بالعمل لذا تقدّم منصوبها على مرفوعها. اما العلة الجدلية فكل ما يختلفون فيه حولها فيدخل في باب الجدل([31])
وبنوا هذا الجدل على أسس نظرية العمل التي فلسفوها ووضعوا لها شروطاً وقوانين تحكمت في نظام اللغة وإن كانت هي في الأصل جزء من هذا النظام إلا أن النحاة نأوا عنه ودرسوا العمل النحوي في ضوء المنطق الأرسطي والتدخل في واقع الاستعمال اللغوي. فطبقوا قواعد المنطق الأرسطي على اللغة نحو قولهم: لا يجوز الجمع بين العوض والمعوض في مثل (أبتِ) بحذف ياء المتكلم ، و(اللهم) بحذف ياء النداء وغير ذلك.
وقسموه على ثلاثة أقسام: قياس علة وقياس طرد وقياس شبه "ذلك أن القياس إما أن تراعى فيه العلة وإما ألاّ تراعى فيسمى (قياس شبه) كإعراب الفعل المضارع واسم الفاعل لمشابهته في مطلق الحركات والسكنات وفي تعاقب المعاني عليه. وهذه روعيت العلة فإما أن تكون مناسبة سمي (قياس علة) كرفع نائب الفاعل بعلة الإسناد، و إلا (فقياس طرد) كبناء (ليس) لاطراد البناء في كل فعل غير متصرف([32]).
وهذا السبب يبدو الذي حمل فيه المعاصرون على النحو وأقيسته وعلله. فمنهم من ابطل القياس ومنهم من دعا إلى إلغاء نظرية العامل ومنهم دعا إلى إلغاء العلل النحوية جملة ً وتفصيلاً ومنهم أبقى على العلة التعليمية.
ولاسيما أصحاب التيسير النحوي المعاصر الذين يضيقون ذرعاً بالتعليل النحوي فقدّموا مئات المحاولات والدراسات تحت تسميات مختلفة: إصلاح النحو وتيسيره وإحيائه وتجديده وتهذيبه وغير ذلك.
ولاسيما في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي وجلّها اليوم مهمل ذلك إن الغالب منها لم تعالج النحو في ضوء نظام العربية الاستعمالي ، ونظام القرآن الكريم ومنها الدعوات التي دعت إلى (النحو القرآني)([33]) .
ومنهم المتأثرون بالمناهج الغربية الحديثة ولاسيما: المنهج الوصفي الذي لا يقرّ بالجانب العقلي في الدراسات اللغوية فألغوا التعليل ونظرية العمل وغير ذلك ، ثم تراجعوا بعد ذلك بظهور النظرية التوليدية التحويلية التي بنيت على العقل بدراستها للغة([34]).
ومن الدارسين المتذمرين من القياس النحوي الدكتور إبراهيم أنيس الذي حمل على القياس النحوي. قال: "ولست أعرف مصطلحاً من مصطلحات الدراسة اللغوية العربية قد أُسمي فهمه وأسيء استعماله بقدر ما أسيء فهم واستعمال مصطلح القياس"([35])
وكان على الدارسين المعاصرين أن يميّزوا بين الدخيل في دراسة القياس وبين ما هو يمثل نظام العربية. ويصحّحوا الانحراف الذي لحق بدراسة القياس ، ويدرسوه في ضوء نظام العربية الشامل ، الذي ينأى عن الخلط الشديد الذي نجده في كتب النحو وأصوله والمشكلات الكثيرة التي يعاني منها النحو كقضية الاطراد والشذوذ والكثرة والقلة التي لم تحدد وكان كثير من النحاة ومنهم المتأخرون لم يطمئنوا اليها كابن هشام (761هـ) لما فيها من غموض أوقعت الباحثين في حيرة واضطراب ، أهي عددية او أمر (ذاتي نسبي) ناهيك عن عدم جدواها([36]). فأقرّوا بما سموه بـ (القياس المهجور) أو (المتروك) وهو ينافي الكثرة العددية بل السماع والرواية ، وكان كبار النحاة يقيسون على التحليل والشاذّ كيونس بن حبيب (182هـ) والأخفش الأوسط (225هـ) ومنهم المتشددون في القياس كالمبرد (285هـ) والفارسي (377هـ).
والقياس النظري الذي نسبوه إلى الكوفيين ، وهو قياس من غير شاهد أو أصل (مقيس عليه) يقاس عليه([37]). كتجويزهم العطف بلكن في الإيجاب حملاً على (بل) كقولنا (جاء عمرو ولكن خالد) وقد يكون ذلك من افرازات التنافس الشديد بين البصريين والكوفيين. وعدّه الشيخ الخضر حسين من الاجتهادات العقلية وعرّفه الدكتور محمد المختار ولد أباه: "هو إلحاق اللفظ بنظير غير مماثل أو بنظير غير مسموع كقياسهم ترخيم المركب المرجي على الأسماء المنتهية بتاء التأنيث..."([38]).
والذي أراه أن قضية الكثرة والقلة أمر متعلق بحاجة المجتمع في الاستعمال فان بعض المواقف الخطابية اليومية الحياتية أكثر وروداً واستعمالاً من غيرها. وهي قضية لا تميز بين اللغة التواصلية والإبداعية. كما سنجد في قياس النظام.
وكان أبو زيد الأنصاري وهو أحد شيوخ سيبويه يجعل الفصيح والشاذ سواء فضلاً عن أبي عمرو والأصمعي كما مرّ بنا. وقد أدرك المتأخرون ذلك فذهبوا إلى إن الشاذ ليس هو الخارج عن سنن نظام العربية وليس بتفرّده او قلّته فلا يقاس عليه إنما هو الخارج عن سنن القياس العقلي المنطقي كحذف نون التوكيد في قول الشاعر:
اضرب عنك الهموم طارقها ضربك بالسيف قونس الفرس([39])
فقد يقاس على القليل والنادر والشاذ لموافقته القياس ويمتنع على الكثير لمخالفته القياس([40]). وقال الأشموني: "ان الكثير الوارد لا يصلح للقياس عليه"([41]).
إن دراسة القياس في ضوء نظام العربية يجنبنا أيضاً المشكلات الناجمة عن الاستقاء اللغوي وخلافهم في كونه ناقصاً او تاماً ولهذا أثرٌ كبير في أقيسة النحو لأنها مبنية على الاستقراء والرواية والجمع فأوقعهم في خلاف وتشعب.
فضلاً عن ان جمع المادة والاستقراء خلط بين مستويات لغوية عدّه كاللهجات والقراءات والشعر وما سموّه: اللغة في حال السعة والاختيار مما أوقعهم في خلط شديد اصطدم معها القياس واضطربت قواعدهم فاضطروا إلى اللجوء إلى التأويل والتعليل والخلاف النحوي والجدل ، وتسميات مختلفة كاللحن والضرورة والعدول عن الأصل والخروج عن القياس النحوي والشذوذ والمجاز واللهجات والقراءات وغير ذلك.
وقد جمع المستشرق نولدكه كتاباً كبيراً في الخروج عن قواعد النحو واللغة([42]) وكذلك الدكتور عبد الفتاح الدجني بلغ كتابه أكثر من ستمائة صفحة في الشذوذ النحوي.
وقد اتخذوا القياس معياراً نقدياً ، فكثرت مصطلحاتهم في تقسيم اللغة ومستوياتها كالمردود والمقبول والتضعيف والوجه والكثير والغالب والقبيح والشاذ والخبيث وغير ذلك([43]).
حمل المعاصرون حملاً شديداً على هذا النوع من القياس الذي هو أقرب إلى أنظمة العربية. فقد سمّاه أنيس بـ (الصوغ القياسي) وقال: انّه صناعة نحوية ، وسخر منه ، ورأى انه "لا يمت للقياس النحوي الحقيقي بصلة لأنها من علل النحاة المخترعة التي ادعوا ظلماً وتجنياً"([44]) وانه مجرد مشابهة أسرف النحاة المتأخرون في استعماله إسرافاً كبيراً حتى عدّوا النحو كله قياساً([45]).
وكان عليه أن يميّز بينه وبين الصناعة المنطقية التي شوهته وانحرفت به ، وان يصحح مسار هذا الانحراف. بدلاً من المهاجمة الشديدة على النحاة ونعتهم بأقسى النعوت من غير تحقيق علمي رصين. ففي هذا النوع من القياس تكمن أسرار العربية ونظامها المعجز ، وان دارس العربية لابد أن ينطلق من النصّ القرآني المرتبط بنظام العربية المبني على المشابهة والتعلق والارتباط.
وسمّاه الدكتور تمام حسان بـ (قياس الأحكام والأصول)([46]). وسمّاه الدكتور محمد مختار ولد اباه بـ (القياس التعليلي) وقال: "هو ما يرد للتنبيه على علة الحكم مثل قول النحويين ان النص المضارع أعرب قياساً على الاسم لمشابهته له في احتمالات"([47]).
وكثير من الدراسين المعاصرين أطلقوا عليه تسمية (القياس) النحوي ونسبوه إلى الحضرمي وقد تسرب إلى النحو من المتكلمين والفقهاء([48]). وهو خلط بين منهج تجريد القياس العقلي وبين قياس النظام الذي يبنى على حمل الكلام بعضه على بعض وتعلق بعضه برقاب بعض.
خلاصة المشكل في رأينا: - مبني على أساسين:
أولاً: المزج بين المنطق وواقع الاستعمال
ثانياً: قضية السماع (الأنموذج اللغوي)
أما المشكل الأول فثمة فارق بين الواقع والمنطق العقلي ، نلحظ هذا في كثير من المواقف الحياتية ، فالمنطق مثلاً فكرة إن العرب كانوا أهل فصاحة وبيان وان لغتهم لا تختلف عن لغة القرآن الكريم ، ذلك إن الله تحدّاهم بأن يأتوا بمثل القرآن او بسورة مثله ، ولا يصح التحدي – منطقياً- إلا إذا كانوا مبرزين فيما تحدّوا به. لكن الواقع والتحقيق العلمي اثبت غير ذلك كما سنرى.
يتبع