النفس اللوامة
فرحان العطار



جاءت دعوة القرآن صريحة بالحث على تأمل النفس والتبصر فيها: (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) إذ أنها من آيات الله العظيمة الدالة على وحدانيته وربوبيته، كما جاءت أقسام هذه النفس في القرآن، ليراجع كل مسلم نفسه، ويرى مدى قربه من ربه وبعده منه.
إذ قسم القرآن النفوس إلى نفس أمارة بالسوء ونفس لوامة ونفس مطمئنة، ولكن الفرق يكمن في طريقة مجيء كل واحد من هذه الأقسام، وأسلوب القرآن في عرضها وتقريرها، فجاءت النفس المطمئنة ببشارة الملائكة عند الموت للمؤمن.
وحقيقة الطمأنينة: السكون والاستقرار، فهي التي قد سكنت إلى ربها وطاعته وأمره وذكره، ولم تسكن إلى سواه، فنفوس الملائكة مطمئنة، وهذه النفس المبشرة مطمئنة، وضدها النفس الأمارة بالسوء، وجاءت في القرآن على لسان امرأة العزيز حين اعترفت بذنبها وخطئها.
ولكن النفس اللوامة جاءت بطريقة مختلفة عن هذين القسمين، وبتقرير عجيب ينبغي الوقوف عنده والتأمل، إذ جاءت على النحو التالي:
1- أن الله أقسم بها، فقال - تعالى -: (والنفس اللوامة).
2- قرن القسم بها القسم بيوم القيامة، ولا شك بأن هذا القسم له دلالاته وأهميته البالغة، إذ تولى الله - عز وجل - تقرير هذا القسم من النفوس، و بهذا الأسلوب والطريقة، مما يفتح أمامنا آفاقا واسعة لتأملها ودراستها، فالنفس اللوامة كامنة في قرار الإنسان و أعماقه، فعندما تغيب المواعظ والخطب، ويختفي الأصحاب والأصدقاء، ويوصد المرء باب غرفته، وينقطع الإنسان عن الأسباب الخارجية، فإن النفس تبدأ حينئذ في القيام بمهمتها، وتنتفض لتدب في مسارب النفس و سراديبها، وتهمس في الأعماق بصوت خافت، ولكنه مزعج يهز الضمائر، ويوقظ المشاعر، وذلك حين يخطأ الإنسان الطريق، ويبتعد عن ربه ومولاه.
ولعل كل واحد منا يعرف قصة أو قصصاً عن أُناس اهتدوا بسبب هذه النفس اللوامة، التي ما زالت بصاحبها حتى أرجلته عن مركب الهوى، وانتظمته في سلك الطائعين بفضل الله ومنته، وكم من مبتلى بذنب أو بذنوب، فإذا انقضت هذه الآثام وغابت، حضرت حينئذ هذه النفس، فأوجعته بسوط تأنيبها، وأقضت مضجعه من حر لهيبها، فيتمنى حينئذ ما تمنته البتول: (ياليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسيا).
وهذا الذنب هو الذي قال فيه ابن القيم في المدارج: "فالذنب قد يكون أنفع للعبد إذا اقترنت به التوبة من كثير من الطاعات".
وهذا معنى قول بعض السلف: قد يعمل العبد الذنب فيدخل به الجنة ويعمل الطاعة فيدخل بها النار قالوا: وكيف ذلك؟ قال: يعمل الذنب فلا يزال نصب عينيه إن قام وإن قعد وإن مشى ذكره فيحدث له انكسارا و توبة واستغفارا وندما، فيكون ذلك سبب نجاته، ويعمل الحسنة فلا تزال نصب عينيه، إن قام وإن قعد وإن مشى، كلما ذكرها أورثته عجبا وكبرا ومنة، فتكون سبب هلاكه، فيكون الذنب موجبا لترتب طاعات وحسنات ومعاملات قلبية، من خوف الله والحياء منه، والإطراق بين يديه منكسا رأسه، خجلا باكيا نادما، مستقيلا ربه.
وكل واحد من هذه الآثار، أنفع للعبد من طاعة توجب له صولة وكبرا، وازدراء بالناس، ورؤيتهم بعين الاحتقار ولا ريب أن هذا الذنب خير عند الله وأقرب إلى النجاة والفوز، من هذا المعجب بطاعته، الصائل بها، المان بها وبحاله على الله - عز وجل - وعباده " ا. هـ.
فالنفس اللوامة لا تزال بصاحبها تأطره على الحق أطرا، وحيث أن كل نفس لوامة، حتى نفوس الكافرين، فهذا فرعون وأعوانه قال الله - عز وجل – فيهم: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم) فلابد لهذا اليقين من صرخة، وإن خالفها الهالكون: (فإنهم لا يكذبونك و لكن الظالمين بآيات الله يجحدون) ولذا فإنه حري بالمؤمن أن يتأمل هذه النفس، ويستفيد منها، ويوظفها التوظيف السليم في سيره إلى ربه.
وقبل أن أذكر بعض النقاط التي تساعد المرء في الاستفادة من هذه النفس، فسأذكر بعض الحقائق التي تميزت بها، و التي تحمل منهجاً للمسلم في حياته، قد انطوت عليها نفسه وتبطنتها، ولكن الغفلة والبعد قد حجباها عنه، ومن هذه الحقائق:
1- الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، حيث تبنت النفس اللوامة مبدأين أصيلين:
أ - اللوم على عدم المبادرة إلى فعل الخير، فهي تلوم الداعية في تقصيره من إبلاغ الدعوة، وتلوم الموظف المقصر في عمله، والتاجر في تجارته.. إلخ.
ب*- تلوم على فعل المعاصي والخطايا، وتذكره بحرمتها وخطورتها حتى يقلع من تلقاء نفسه.
2- المثابرة والجد، حيث تجتهد هذه النفس بأداء رسالتها والتذكير بها، وإن خفت صوتها أحياناً لكنها لا تموت، وفي هذا رسالة لكل مسلم وللدعاة خاصة بالمثابرة والجد وعدم الانقطاع في إصلاح النفس والنفوس ورحم الله أبا الطيب حين يقول:
وما كل هاو للجميل بفاعل *** وما كل فعال له بمتمم.
3- العمل بصمت وبدون ضجيج، بعيداً عن وهج الإعلام وبريق الشهرة، بل لأجل نجاة النفوس، ورضا ربها - عز وجل -.
4- مخاطبة النفوس والغوص في أعماقها، وذلك من خلال الكلمة الصادقة والوقت المناسب، والطريقة المقنعة، حيث أن النفوس هي مكمن التغيير: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).
فهذه حقائق وتصورات لا بد أن نعيها جيداً، حيث تضمنت مشروعاً ضخماً في جوهره وحقيقته، سهلاً ميسرا للعمل به وتذكر حقائقه، ولذلك فلابد من الاستفادة القصوى من هذه النفس اللوامة، وهذه بعض الأفكار والمقترحات:
أولاً: لابد من استشعارها والشعور بحضورها.
ثانياً: تعزيز هذا الحضور وتفعيل دوره.
ثالثاً: توسيع نطاق حضورها و تعدد مجالاته، فإذا كانت تلوم على المعاصي مثلاً فهناك اللوم على عدم المبادرة إلى فعل الخير كما سبق، و الكسل في أداء الواجبات وإن قام بها، كما أن المعاصي كثيرة والتركيز على ذنب أو ذنبين من بين الذنوب الكثيرة الأخرى نوع تقصير، فليستحضر ما يفعله من ذنوب، ويجعل له من نفسه واعظ.
رابعاً: يعتبر الوقت عاملاً مهما وفاعلا، وهو يختلف من نفس إلى أخرى، فحين يخطر اللوم على بال الإنسان على ذنب فعله، يختلف عن آخر يتذكر هذا الذنب ويتأسف من حصوله بعضاً من الوقت ثم ينساه، إلى آخر قد أثقل كاهله الذنب وأقض مضجعه.. الخ فلابد من تفعيل عامل الوقت وزيادته.
خامساً: النتيجة لما سبق والتفعيل الإيجابي له، وذلك بالتوبة الصادقة وكراهة الذنب وبغضه، والمبادرة إلى عمل الخير، وتعظيم الله - عز وجل - وتعظيم أمره، فتتحول المعصية إلى طاعة، وحب الذنب إلى بغض، والتقاعس والكسل إلى مبادرة، حتى يرتقي الإنسان بعد ذلك إلى درجة النفس المطمئنة.
فهذه النفس اللوامة نعمة من - عز وجل -، تظل بها جذوة الإيمان حية، وإن غطتها الذنوب مع تعاقب السنين، فهي حاضرة حية فاعلة مؤثرة.
ولهذا قال ابن القيم في كتابة "إغاثة اللهفان" عند ذكره معالجة أمراض القلب بسبب الشيطان: "وهذا الباب من أهم أبواب الكتاب وأعظمها نفعاً، والمتأخرون من أرباب السلوك لم يعتنوا به اعتناءهم بذكر النفس وعيوبها وآفاتها، فإنهم توسعوا في ذلك، وقصروا في هذا الباب، ومن تأمل القرآن والسنة وجد اعتناءهما بذكر الشيطان وكيده ومحاربته أكثر من ذكر النفس، فإن النفس المذمومة ذكرت في قوله: (إن النفس لأمارة بالسوء).
واللوامة في قوله: (لا اقسم بالنفس اللوامة) وذكرت النفس المذمومة في قوله: (ونهى النفس عن الهوى) وأما الشيطان فذكر في عدة مواضع، وأفردت له سورة تامة، فتحذير الرب - تعالى - لعباده منه جاء أكثر من تحذيره من النفس، وهذا هو الذي لا ينبغي غيره، فإن شر النفس وفسادها ينشأ من وسوسته، فهي مركبه وموضع شره، ومحل طاعته.
وقد أمر الله - سبحانه - بالاستعاذة منه عند قراءة القرآن وغير ذلك، وهذا لشدة الحاجة إلى التعوذ منه، ولم يأمر بالاستعاذة من النفس في موضع واحد، وإنما جاءت الاستعاذة من شرها في خطبة الحاجة في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ونعوذ بالله من شرور أنفسنا و سيئات أعمالنا)) ا. هـ.
فالنفس ليست كالشيطان، كما يصورها البعض، وأنها عدو ما من صداقته بد، بل نحن أمام آية من آيات الله، ونعمة من نعمه، تلوم على فعل المعاصي والسيئات وتلوم على التقصير في الطاعات وهذا جانب مهم، بل منارة من منارات السير إلى الله ينبغي الوقوف عندها طويلاً والاستفادة منها كثيراً، والعمل على إحيائها وتعاهدها، وهي جانب واحد فقط من جوانب النفس البشرية التي أمرنا الله بالتفكر فيها: (وفي أنفسكم أفلا تبصرون)