ظاهرة الترادف في اللغة العربية ( دراسة في القرآن و عند أبي هلال العسكري)
الكاتب فوزي فهيم حسن
الجزء الثانى من البحث
المبحث الثالث : الفروق اللغوية عند العسكري :
نريد أن نقف في هذه الدراسة عند نقطة تحديد موقف العام من قضية الترادف , وبهذا البحث أحاول عرض آراء اللغويين عن مفردات مترادفة , و أوجد َ أبو هلال العسكري فروقا لها ومنع الترادف عنها , لذلك سنخلص بعدة آراء في كل مفردة ما إذا كان قد نجح صاحبنا بإيجاد الفروق أم قصّر في ذلك .
ومن الملاحظات التي وجدت على كتابه :
1. أنّه يقر ّ بوجود التقارب الدلالي بي لفظ ولفظ , ولكن هذا التقارب لا يعني التطابق , بل يعني أنّ ثمّة مساحة دلالية للتمايز .
2. يُطلق على الأسماء المجرّدة مثل الفطنة و الذكاء وغيرها مصطلحَ المعاني .
3. وهو يركّز دائما على إيجاد دالّ واحد بدلالة خاصة تميّزه عن غيره .[118]
واعتمد في كتابه على عدد من المعايير و الاعتبارات لتحديد الفروق , وكانت على النحو الآتي :
1. اختلاف الاستعمال اللغوي .
2. اختلاف صفات المعنَيين .
3. اختلف مايؤل إليه المعنيان .
4. اختلاف الحروف التي تعدّ بها الأفعال .
5. اختلاف النقيض .
6. اختلاف الاشتقاق .
7. صيغة اللفظ .
8. حقيقة اللفظين في أصل اللغة .[119]
وسنعرض الآن نماذج للفروق عند أبي هلال العسكري , مع دراسة لتلك المفردات في معاجم اللغة و المقارنة بين آرائه وآراء ألئك العلماء اللغويين .
- الفرق بين الجمال و البهاء:
الجمال :
الجمال البهاء و الحسن , لقوله تعالى :{ و لكم فيها جمالٌ حين تريحون وحين تمرحون }[120] , وابن سيده يقول : الجمال يكون في الفعل و الخلق , وقال ابن الأثير : الجمال يقع على الصور و المعاني .[121] والجمال في الحسن الخلْق والخلُق[122] , وهو صفة تلحظ في الأشياء وتبعثُ في النفس سروراً ورضىً[123] , وقول الأصفهاني بأنّ الجمالَ الحسنُ الكثيرُ وله ضربان :
أحدهما : جمالٌ يخصّ الإنسان في نفسه أو بدنه أو فعله .
الثاني : ما يوصل منه إلى غيره , وعلى هذا الوجه ما رُوي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم :"إنّ الله جميلٌ يحبّ الجمال" تنبيهاً أنه من يقتص الخيرات الكثيرة , فيجب من يختص بذلك"[124] .
البهاء :
فقد ذُكر بأنه الأنس[125] وبأنه المنظر الحسن الرائع المالئ العين[126] . ويُقال شيءٌ بهيٌ , إذا علا العين حسنه وروعته[127] والبهاءُ الناقة التي تستأنس إلى الحالب , وهو من بهأت به أي أنس به[128][129] . فهم من قال : أنّ البهاء : الجمال
وقد عرّف أبو هلال العسكري الجمال بأنه ما يشتهر ويرتفع به الانسان من الأفعال والأخلاق ومن كثرة المال والجسم , وليس هو من الحسن في شيء وأصل الجمال في العربية العظم وسمي الجمل جملاً لعظم خلقه , أما البهاءُ فهو جهارة المنظر , ويقال : رجلٌ بهي , إذا كان يجهر المنظر , وليس هو في شيء من الحسن والجمال , فقال : شيخٌ بهي , ولا يُقال غلامٌ بهي[130].
- الفرق بين البديهة والروية :
البديهة :
البديهة والبداهة : أول كلّ شيء أو ما يُفاجأ به[131] ومنه أول جري الفرس[132] فالبديهة : الابتداء[133] ويقال :"لك البديهة" أي لك أن تبدأ وهي الارتجال في الكلام[134] وسداد الأمر عند المفاجأة , وهي لمعرفة يجدها الإنسان في نفسه من غير إعمالٍ للفكر , ولا علم بسببها , فالبديهة : فطنة أو مبدأ يسلم بهما , لأنهما واضحان بذاتهما ولا يحتاجان إلى برهانٍ كالمبادئ العقلية والأوّليات والضروريات[135] , والبديهي هو الذي لا يتوقّف حصوله على نظرِ ٍ وكسب , سواء احتاج إلى شيءِِ آخر من حدْسٍ أو تجربة , أو غير ذلك , أو لم يحتاج فيرادف الضروري , وقد يُراد به مالا يحتاج بعد توجّه العقل إلى شيءٍ أصلاً , فيكون أخصّ من الضروري , لتصوّر الحرارة والبرودة , وكالتصديق بأنّ النفي لا يجتمعان ولا يرتفعان[136] , ويقول ابن دريد في ذلك أنّ البديهة :أن تُنشأ كلاماً ما لم تستعدّ له[137].
والروية:
هي أن تنتظر ولا تعجل في الأمر , وهي التفكير في الأمر[138] ولذلك فهم من قال : إنها خلاف البديهة[139].
وتفريق أبي الهلال العسكري بينهما هو أنّ : البديهة أوّل النظر , ويقال عرفته على البديهة أي في أوّل أحوال النظر , وله في الكلام بديهة حسنة إذا كان يرتجله من غير فكرٍ فيه , وأنّ الروة فيما يقال بعضهم آخر النظر , والبديهة أوله , ولهذا يقال للرجل إذا وصف بسرعة الإصابة في الرأي بديهته كروية غيره , ويقول بعضهم أنّ الروية طول التفكير في الشيء , وبديهة القول ما يكون من غير فكرٍ فيه , فهذا إذن خلاف الروية , إشباع الرأي والاستقصاء في تأمّل[140].
- الفرق بين العلم والبصيرة:
العلم :
العلم : نقيض الجهل[141] , وعلمه : عرفه حقّ المعرفة[142] , والعلم إدراك الشيء بحقيقة , واليقين والمعرفة , وقيل العلم يقال للإدراك الكلّي والمركّب , والمعرفة تقال للإدراك الجرئي أو البسيط , ويطلق العلم على مجموعة مسائل وأصول كلية تجمعها جهةٌ واحدة[143] , والجرجاني يقول : "العلم : هو الاعتقاد الجازم للواقع , والعلم هو إدراك الشيء على ما هو به , وقيل هو وصول النفس إلى معنى الشيء"[144]
والأصفهاني أيضاً يقول :" العلم:إدراك الشيء بحقيقته وذلك ضربان:أحدهما : إدراك ذات الشيء , والآخر : الحكم على الشيء بوجود شيء وهو موجودٌ به ,أو نفي شيء , وهو بنفيٍ عنه"[145] .
أما البصيرة :
فهي قوّة القلب المدركة , والفطنة , وهي أيضاً : العقيدة والبصيرة والثبات بالدين[146] , فهي اسمٌ لما اعتقد في القلب من الدين وحقيقة الأمر , والبصيرة : العبرة , يقال : أمالك بصيرة في هذا ؟ أي عبرة تعتبر بها , وأنشد قيس بن ساعدة :
في الذاهبين الأوليـــــــــ ـــــن من القرون لنا بصائـــــــــــ ــر[147]
والبصيرة أيضاً : قوة الإدراك والفطنة والعلم والخبرة , ويقال : "فعلَ ذلك عن بصيرة" عن عقيدة , والبصيرة : الحجة والرقيب والعبرة , وكلّ مااتخذ جُنّة[148] , والبصيرة عند الجرجاني : " قوة للقلب المنوّر بنور القُدُس يرى بها حقائق الأشياء وبواطنها , بمثابة البصر للنفس يرى بها صور الأشياء وظواهرها , وهي التي يسميها الحكماء : " العاقلة النظرية , والقوة القُدُسية "[149] , أما أبو هلال العسكري , فقد فرّق بينهما , بأن البصيرة هي تكامل العلم والمعرفة بالشيء , ولهذا لا يجوز أن يسمّى الباري تعالى : بصيرة , إذ لا يتكامل علم أحدٍ بعظمته وسلطانه[150] , والعلم : هو اعتقاد الشيء على ما هو على سبيل الثقة[151].
- الفرق بين الفطنة والكيس والحَذِق:
الفطنة :
الفطنة كالفهم , وهي ضد الغباوة , ورجلٌ فطن أي بيّن [152] , والفطنة : الحذاقة[153] , وهي التنبّه بسرعة وحدّة الذهن[154] . وأيضاً هي المهارة , وفطن تبيُّن وعلم . والحذق والحذاقة : المهارة في كلّ عمل[155] , وقيل الحذق والقطع[156] , والرجل الحاذق في صناعته وهو الماهر , وذلك أنه يحذِقُ الأمر ويقطعه ولا يدع فيه متعلّقاً , وهو فصيح اللسان , وذلك أنه يفضّل الأمور فيقطعها[157] , وقيل حذق القرآن :أتمّ قراءته وقطعها[158] , ورجلٌ حذاقيّ : حديد اللسان[159] , أما الكيّس : فهو الخفة والتوقّد , والكيس : العاقل[160] , والكيس : خلاف الحمق[161] , والجود والعقل والغلَبة بالكياسة[162] , وسمّي ذلك أنه يضمُّ الشيء ويجمعه , فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : " الكيّس من دانَ نفسه وعمل لما بعد الموت" أي العاقل ومن حديث " وكان كيّس الفعل " أي حسنه[163][164] . , هذا كلّه كان من أقوال اللغويين المختلفة , أما رأي العسكري في التفريق بينهما هو أنّ الفطنة : هي التنبه عن المعنى , وضدّها الغفلة , ورجلٌ مغفّل : لا فطنة له , ويجوز أن يقال أنّ الفطنة ابتداء المعرفة من وجهٍ غامض , أما الكيس فهو سرعة الحركة في الأمور , والأخذ في ما يؤمر به ويترك الفضول وليس هو من قبيل العلوم , والحذق أصله حدّة القطع , يقال حذقه إذا قطعه , وقولهم : " حذق القرآن " معناه أنه بلغ آخره وقطع تعلّمه وتناهى في حفظه
نجد في رأي أبي هلال أنه يقتصر على ذكر معاني ودلالات الكلمة , دون أن يضع مكان الفرق بينهما بشكلٍ مباشر , ثمّ أنه لم يعترف بوجود بعض العلماء ولم يفرّقوا بين الفطنة والحذاقة[165] , فالفرق بينهما قليل ولا يحتاج للتبرير الممل , فمثلاً الفطنة ضدّ الغباوة بشكلٍ مباشر , وأجمع عليه أهل العلم[166] , أما الحذاقة والكياسة لا يعتبران بأنهما ضدّ الغباوة بشكلٍ مباشر وصريح.
- الفرق بين الجهل والحمق:
الجهل :
الجهل نقيض العلم[167] , وتقول العرب : جهلتُ الشيء إذا لم تعرفه , قال الله تعالى " يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف"[168], بينما هنا الجاهل بحالهم , وهو ضدّ الخبرة[169] , والجهل : اعتقاد الشيء بخلاف ما هو عليه[170] , وفعل الشيء بخلاف ما حقّه أن يفعل[171] , وأيضاً الجفى والتسافه , وفي التنزيل : "قالوا اتخذنا هزواً , قال أعوذ بالله , أن أكون من الجاهلين"[172] , والجهل ضياع الحق[173], والجهل قد يكون بالمعدوم , وهو ليس بشيء والجواب عنه أنه شيء في الذهن[174] , وتدلّ أيضاً مفردة الجهل على الخفة وخلاف الطمأنينة , فيقال : استجهلتْ الريح الغصن إذا حرّكته فاضطرب[175].
أما الحمق :
فهو ضدّ العقل وقلّته وفساده[176] , وحقيقة الحمق وضع الشيء في غير موضعه مع العلم بقبحه[177] , ويقال :"سرنا في ليالٍ محمقات" إذا استتر القمر بغيمٍ أبيض , فيسير الراكب ويظنّ أنه أصبح حتى يملّ منه أُخِذ اسم الأحمق , لأنه يغرُّك في أوّل مجلسه بتعاقله , فإذا انتهى إلى آخر كلامه تبيّن حمقه[178] , والحمق يدلّ على كساد الشيء والضعف والنقصان[179], والأحمق : الذي فيه بُلْغةٌ يطاولك في في حمقه , فلا تعثّر على حمقه إلا بعد مراس ٍ طويلة , والأحمق : الذي لا ملاوم فيه , ينكشف حمقه سريعاً فنستريح منه ومن صحبته , وقال الشاعر:
إنّ للحمق نعمة في رقاب النـــــــــ ـــــــاس تخفى على ذوي الألباب
معنى البيت مقدّم مسحّر , كأنّه قال: إنّ للحمق نعمةً في رقاب العقلاء تغيب وتخفى على غيرهم من سائر الناس لأنّهم أفطن وأذكى من غيرهم[180] , أمّا أبو هلال العسكري فقد فرّق بينهم لأنّ الجاهل يتصوّر نفسه بصورة العالم, ولا يجوز خلاف ما يعتقده وإن كان قد يضطرب حاله فيه لأنه غير ساكن النفس إليه , وأنّ الحمق هو الجهل بالأمور الجارية في العادة , ولهذا قالت العرب :"أحمق من دُغة" وهي امرأة ولدت فظنّت أنها أحدثت , فحمقتها العرب بجهلها بما جرت به العادة من الولادة , والجهل يكون بذلك وغيره , ولا يسمّى الجهل بالله حمقاً , وأصل الحمق الضعف , ومن ثمّ قيل : "البقلة الحمقاء"لضعفها , فقيل للأحمق : أحمقاً لضعف عقله[181].
- الفرق بين السمع والإصغاء:
السمع :
السمع :هو حسّ الأذن , وقول ثعلبة :"خلاله فلم يشتغل بغيره" , ولقوله تعالى"أو ألقى السمع وهو شهيد" , وتأتي كلمة سمعتُ بمعنى "أجبتُ" , ومنه قولهم :"سمعَ اللهُ لمن حمده" أي أجاب حمدَه , ولقوله صلّى الله عليه وسلّم :"اللهم إنّي أعوذُ بك من دعاءٍ لا يُسمع" , أي : لايُستجاب.[182]
والسمعُ هو إيناس الشيء بالأذن من الناس , وكلُّ ذي أذن , وأيضاً : الذكر الجميل , فيقال :"ذهب سمعُه في الناس" ,أي : قد ذهب صيتـُه[183] , وتأتي مفردة السمع أحياناً عن الفهم , وتارةً عن الطاعة , فتقول :"اسمع ما أقول , ولم تسمع ما أقول" , أي: لم تفهم , وقوله تعالى:"إذا تُتْلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاءُ لقلنا مثل هذا"[184] [185] , فالسمع الإصغاء والإنصات[186] .
أما الإصغاء :
فهو الإمالة بشكلٍ عام[187] , وتقول : أصغيتُ إلى فلان , إذا أملتَ بسمعكَ نحوه[188] , وأحسنتَ الاستماع إليه[189] , وقوله تعالى :" ولتصغـــــى إليه أفئدة "[190] , أي لتميل[191] , وأيضاً قوله تعالى:"إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما"[192].
أما رأي أبي هلال العسكري : فيتمثّل :أنّ السمع هو إدراك المسموع , والسمع أيضاً اسم آلة التي يستمع بها الانسان , والاصغاء: هو طلب إدراك المسموع بإمالة السمع إليه[193].
- الفرق بين الروح و المهجة و النفس و الذات :
الروح :
الروح في كلام العرب : النفخ [194], و الروح النفس الشيء الذي يقوم به الجسد وتكون به الحياة [195], وذلك لكون النفس بعض الروح كتسمية النوع من الجنس [196] , و الروح تدلّ على السعة و الفسحة و الإطراد , وأصل ذلك كلّه الروح , و الروح جبريل عليه السلام ,لقوله تعالى :" نزل به الروح الأمين "[197] , و الروح : روح الإنسان [198], ويقول الجرجاني :"الروح الإنساني هو اللطيفة العالمة المدركة من الإنسان , الراكبة على الروح الحيواني , نازل من علم الأمر , تعجز القول عن إدراك كنهه , وتلك الروح قد تكون مجرّدة , وقد تكون منطبقة في البدن[199] .
المهجة :
أما المهجة فقد أجمع عليها أنها دم القلب [200] , ولا بقاء للنفس بعد ما تُراف مهجتها , وقيل المهجة الدم[201] , وقيل مهجته خالص النفس[202] .
الذات :
وأما الذات فقال الفراهيدي :"عرف من ذات نفسه"كأنه يعني به سريرته المضمرة[203] , والذات النفس والشخص[204] , ومن ذات نفسه :أي طبعاً[205] .
النفس :
أما النفس فهي الروح الذي به حياة الجسد[206] , وتجري في كلام العرب على ضربين :أحدهما قولك : خرجت نفس فلان :أي روحه , وفي نفس فلان أن يفعل كذا وكذا أي في روعه , والضرب الآخر معنى النفس :معنى جملة الشيء وحقيقته , فتقول فلانٌ نفسه , وأهلك نفسه :أي وقع الإهلاك بذاته كلها وحقيقتها[207] , والنفس بمعنى الدم[208], بمعنى دفق نفسه,أي دمه[209], وفي الحديث "ما ليس له نفس سائلة فإنه لا ينحبس الماء إذا مات فيه"وهذا يدلّ على أنّ النفس تدلّ على الدم[210].
والنفس العقل الذي به يكون التمييز وهذه النفس تزول بزوال العقل[211] , والنفس أيضاً الجسد , ويقول الشاعر :
نُبئت أنّ بني سُحيم أدخلوا أبياتهم تامور نفس المنذر
والتامور :الدم , والنفس العين , يقال : أصابت فلاناً نفسٌ[212], ومن ثمّ فالنفس يعبّر بها عن الإنسان جميعه , وقال الزجاج :"تلك لكلّ إنسان نفسان , نفس التمييز ونفس الحياة"[213].
وأبو هلال العسكري كان له تفريقاً جيداً بينهم بأنّ الروح من قرائن الحياة , والحياة عرَض , والروح جسمٌ رقيق من جنس الريح , وقيل هو جسمٌ رقيق حساس وزُعم أنّ موضعها في الصدر من الحجاب والقلب وذهب بعضهم إلى أنها مبسوطة في جميع البدن , والروح والريح في العربية من أصل واحد , ولهذا يستعمل فيه النفخ , فيقال : نفخ فيه الروح , وسمي القرآن روحاً لأنّ الناس ينتفعون به في دينهم كانتفاعهم بالروح , وانّ المهجة خالص دم الإنسان الذي إذا أخرج خرجت روحه , وهذا ما أكّده الكثير من العلماء , وهو دم القلب والعرب تقول : سالت مهجهم على رماحنا , ولفظ النفس مشترك على الروح وعلى الذات ويكون توكيداً , والنفس أيضاً تتعدّد بمعنى الذات ما يصح أن تدلّ على الشيء من وجهه يختصّ به دون غيره , وإذا قلت : هو لنفسه على صفة كذا , فقد دللت عليه من وجهٍ يختصّ بد دون ما يخالفه , وأما الذات فكلّ شيءٍ ذات , وكلّ ذاتٍ شيء إلا أنهم ألزموا الذات الإضافة , فقالوا ذات الإنسان وذات الجوهر , ليحققوا الإشارة إليه دون غيره , ويعبّر بالنفس عن المعلوم في قولهم :"قد صحّ ذلك في نفسي ,أي قد صار في جملة ما أعلمه , ولا يقال صحّ في ذاتي"[214].
- الفرق بين الجود والكرم:
الجود :
الجود من الجيّد : وهو نقيض الرديء , وجاد الشيء جوّده وجوده , أي صار جيّدا , فقد جاد جودة وأجاد : أتى من الجيد في القول و الفعل , فقال الهذلي " جوادٌ يقوت البطن و العرق زاخر " ويقول أبو عُبيدة في هذا القول : " عرفُ فلان زاخر " إذا كان كريما , ومعنى زاخر أنّه تامّ في الكرم .[215]
و الجود التمتع بالشيء و كثرة العطاء [216]. و الجرجاني يقول : الجود صفة , وهي مبدأ إفادة ما ينبغي لا بعوض , فلو وهب واحد كتابه من غير أهله لغرض ٍ دنيوي أو أخروي لا يكون جوادا [217][218] . , وتقول رجلٌ جواد أي سخي
الكرم :
أمّا الكرم فهو نقيض اللؤم [219], ويكون في الرجل بنفسه , وإن لم يكن له إباء , ويستعمل في الخيل و الإبل و الشجر , وقال ابن الأعرابي : " كرُم الفرس أن يزقّ جلده ويلين شعره وطيب رائحته [220], وكرُم كرامة : أعطى بسهولة وجاد[221].
وقيل الكرم شرف الرجل [222], أو شرفٌ في الشيء نفسه أو شرف بخلق من الأخلاق [223], و الكرم إفادة ما ينبغي لغرض ما , فمن وهب المال لجلب منفعة أو دفع ضرر ٍ فليس بكريم , و الكريم هو الجواد الكثير الخير المعطي الذي لا ينفد عطاؤه , الجامع لأنواع الخير و الشرف [224].
أمّا العسكري فكان تفريقه بينهما هو أنّ الجود كثرة العطاء من غير سؤال , من قولك جادت السماء إذا جادت بمطر غزير, و الفرس الجواد: الكثير الإعطاء للجري [225] .
أمّا الكرم فيتصرف على وجوه عدة , فيُقال لله تعالى كريم , ومعناه أنّه عزيز , وهو من صفات ذاته , ويكون معنى الجواد المفضال , فيكون من صفات فعل الله عزّ وجلّ , والكريم الحسن في قوله تعالى : " من كلّ زوج كريم " [226], والكريم بمعنى المفضل في قوله تعالى : " إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم " [227], و الكريم أيضا السيد , ويجوز أن يٌقال : الكرم : هو إعطاء من يريد اكرامه أو كثير , و الجود قد يكون كذلك وقد لايكون [228] .
نجد من تفريقه أنه لم ينتبه إلى التفريق من ناحية الضدّ , فالجود من الجيد وهو نقيض الرديء [229] , و الكرم ليس كذلك فهو نقيض اللؤم وضده [230].
فلا يُعتبر الجود كلمة تناقض اللؤم مباشرة .
المصادر و المراجع :
1. معجم الوسيط , مجمع اللغة العربية , دار عمران ط 3 القاهرة ,
2. المقاييس في اللغة , تحقيق شهاب الدين عمر , دار الفكر . ط2 1998 , لأبي الحين أحمد بن فارس بن زكريا .
3. أساس البلاغة , محمود بن عمر الزمخشري , بيروت , دار صادر 1979 .
4. كتاب العين , الخليل بن أحمد الفراهيدي , بيروت , دار إحياء التراث العربي .
5. أدب الكاتب , ابن قتيبة , شرح الأستاذ علي فاعور , بيروت , دار الكتب العلمية . ط1 1988
6. كتاب التعريفات , الشريف الجرجاني , بيروت , دار الفكر , ط1 1998
7. مفردات ألفاظ القرآن , الراغب الأصفهاني , تحقيق صفوان عدنان داوودي , دار القلم (دمشق) ودار الشامية (بيروت) ط2 1997 .
8. لسان العرب , ابن منظور , دار صادر , بيروت , ط1 1990.
9. معجم متن اللغة , أحمد رضا , دار مكتبة الحياة , بيروت 1958.
10.الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية , اسماعيل بن حماد الجوهري , تحقيق : أحمد عبد الغفور عطّار , دار العلم للملايين , بيروت , ط2 1979
11. ظاهرة الترادف في ضوء التفسير البياني للقرآن الكريم , د طالب محمد الزبعي , منشورات جامعة فان يونس , بنغازي , ط1 1995 .
12. تهذيب اللغة , لأبي منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت:370هـ) تحقيق الأستاذ ابراهيم الابياري , دار الكاتب العربي , القاهرة 1967
13. القاموس المحيط , محمد الدين بن محمد يعقوب الفيروس آبادي (ت:817هـ) تحقيق: مكتب تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة , بيروت , ط2 1987 .
14. الألفاظ المترادفة المتقاربة المعنى , لأبي الحسن بن علي الرمّاني (ت:384هـ) تحقيق : د فتح الله صالح علي المصري , دار الوفاء , المنصورة , ط1 1987 .
15. الخصائص , أبو الفتح عثمان بن جنّي ( ت: 392) , تحقيق : عبد الحكيم بن محمد , المكتبة التوفيقية .
16. الترادف في اللغة , حاكم الزيادي , منشورات وزارة الثقافة و الإعلام , الجمهورية العراقية , 1980.
17. فصول في فقه اللغة , د رمضان عبد التواب , مكتبة الخانجي و القاهرة .
18. دراسات في فقه اللغة , د صبحي الصالح , دار العلم للملايين , بيروت 2009 .
19. الترادف في القرآن الكريم ( بين النظيرة و التطبيق ), محمد نور الدين المنجد , دار الفكر المعاصر ( بيروت) و دار الفكر ( دمشق) 1997 .
20 . الإفصاح في فقه اللغة , عبد الفتاح الصعيدي و حسن يوسف موسى , مطبعة دار الكتب المصرية , ط1 1929.
21. التحليل الدلالي في الفروق في اللغة لأبي هلال العسكري ( دراسة في البنية الدلالية لمعجمية العربية ) , د محي الدين محسب , دار الهدى للنشر و التوزيع .
22. المزهر في علوم الللغة وأنواعها , للسيوطي (ت:911هـ) تحقيق : محمد أبو الفضل إبراهيم وآخرون , مطبعة البابي الحلبي . ط1
23. الصاحبي في فقه اللغة , لابن فارس (ت:359هـ) , تحقيق : السيد أحمد صقر , البابي الحلبي , القاهرة .
24. البرهان في علوم القرآن , للزركشي ( ت: 794هـ) , تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم , دار المعرفة , بيروت , ط2 1972.
25. الإعجاز البياني للقرآن ومسائل ابن الأزرق , د عائشة عبد الرحمن , دار المعارف , مصر , 1971.
26. التفسير الكبير المسمى البحر المحيط , لأبي حيان الأندلسي ( ت745هـ) دار إحياء التراث العربي , بيروت .
27. علم الدلالة جون لاينز , ترجمة : حليم حسين فالح و كاظم حسين باقر , منشورات جامعة البصرة كلية الآداب 1980.
يتبع