المصلحة المرسلة: دراسة في نشأة المصطلح وتطور المفهوم
د. نعمان جغيم (*)
ملخص البحث:
موضوع المصلحة المرسلة من الموضوعات التي لقيت حظا وافرا من الدراسات المعاصرة، فضلا عن أنها حاضرة في كتب أصول الفقه التي تبعت مدرسة " الجويني- الغزالي " الأصولية، قديما وحديثا.
وعلى الرغم مما كتب حول المصلحة المرسلة إلا أن الجانب التاريخي لهذا المصطلح على أهميته لم ينل حظه من البحث.
وهذا البحث يهدف إلى دراسة نشأة مصطلح "المصلحة المرسلة " وتطوره، بغرض إظهار السياق التاريخي لظهوره، ومكانته في الفكر الأصولي، ومعرفة سبب الاضطراب الحاصل في نسبة الاحتجاج به إلى أصحاب المذاهب الفقهية.
أما منهج : البحث فيقوم على تتبع مواطن الحديث عن المصلحة المرسلة في الكتب الأساسية للمتقدمين من الأصوليين؛ سعيا للتعرف على زمن ظهور هذا المصطلح والتطور الذي خضع له، مع تخصيص ما كتبه الجويني والغزالي بالعرض والتحليل؛ لكون تلك الكتابات تمثل المادة الأساس لهذا الموضوع.
وأهم النتائج التي خلص إليها البحث : أن مصطلح "المصلحة المرسلة " نشأ وتطور في مدرسة الجويني -الغزالي الأصولية ( وانتشر بعد الغزالي عند الأصوليين الذين تأثروا بتلك المدرسة، و أنه لا وجود لمصطلح المصلحة المرسلة و ما يتعلق بها في أصول المالكية إلى عصر ابن العربي، و إنما دخل القول بالمصلحة المرسلة كتابات علماء المالكية الذين تأثروا بمدرسة الجويني -الغزالي الأصولية . وأن أهم سبب في الاضطراب الذي وقع في نسبة القول بالمصلحة المرسلة إلى أئمة المذاهب الفقهية يعود إلى إسقاط المفاهيم التي أنشأها المتأخرون على اجتهادات المتقدمين، والأثر السلبي للأمثلة التي نسبها الجويني إلى مالك، و الأمثلة التي ناقش الغزالي من خلالها موضوع المصلحة المرسلة.
مقدمة:
موضوع المصلحة المرسلة من الموضوعات التي لقيت حظا وافرا من الدراسات المعاصرة، فضلا عن أنها حاضرة في كتب أصول الفقه التي تبعت مدرسة " الجويني- الغزالي " الأصولية، أو التي كان لها تأثر بها، قديما وحديثا. وقد شاب الحديث عن المصلحة المرسلة في كتب الأصول شيء من الاضطراب ذكر في كتاب ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية، ولخص مظاهره في أمور أربعة:
أولها: قول الأصوليين في كتاباتهم إن الأخذ بالمصالح المرسلة مختلف فيه، ويرجح كثير منهم بطلان الأخذ به، مع اعتقاد المؤلف أن الجميع في الواقع يحتج بها، من عصر الصحابة إلى أئمة المذاهب الأربعة.
وثانيها: اختلاف كلامهم في الكيفية التي يأخذ بها الإمام مالك بالمصالح المرسلة: هل يقول بها بإطلاق " ما قرب منها وما بعد، أم أنه يقصر ذلك على ما كان ملائما للتصرفات الشرعية؟
وثالثها: الغموض حول المعنى المراد بالمصالح المرسلة.
ورابعها: اضطراب كلام الغزالي حول المصلحة المرسلة. ([1])
والدراسات المعاصرة التي تناولت موضوع المصلحة المرسلة كثيرة، سأقتصر على ذكر بعضها.
منها: ما ورد في كتاب تعليل الأحكام لأحمد مصطفى شلبي، وكتاب المصلحة في التشريع الإسلامي لمصطفى زيد، وكتاب ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية ، وكتاب نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي لحسين حامد حسان، ورسالة صغيرة، بعنوان : المصالح المرسلة لمحمد الأمين الشنقيطي، كما ستأتي الإشارة إلى بعض الدراسات الأخرى في متن هذا البحث.
وعلى الرغم مما كتب حول المصلحة المرسلة إلا أن الجانب التاريخي لهذا المصطلح، على أهميته، لم ينل حظه من البحث.
أسئلة البحث: تتلخص القضايا التي يناقشها هذا البحث في الأسئلة الآتية : كيف ظهر وتطور مصطلح المصلحة المرسلة ؟ ما موقع هذا المفهوم من الفكر الأصولي خارج مدرسة الجويني -الغزالي؟ ما أسباب الاضطراب الذي حصل في نسبة الاحتجاج بالمصلحة المرسلة إلى المذاهب الفقهية؟
أهداف البحث: يهدف هذا البحث إلى دراسة نشأة مصطلح "المصلحة المرسلة" وتطوره " بغرض إظهار السياق التاريخي لظهوره، وبيان مكانته في الفكر الأصولي، ومعرفة سبب الاضطراب الحاصل في نسبة الاحتجاج به إلى أصحاب المذاهب الفقهية. وينبغي التنبيه على أن هذا البحث لا يعنى بالحديث عن تعريف المصلحة المرسلة، ولا بالحديث عن أدلة القائلين بحجيتها والرافضين لها، والمناقشات التي دارت بينهما، ولا بتحديد ضوابطها.
كما لا يعنى بالحديث عن تطبيقات المصلحة المرسلة قديما وحديثا. فهذه جوانب استوفت حظها من الدراسة، ولست مهتما بالخوض فيها.
منهج البحث: يقوم منهج البحث على تتبع مواطن الحديث عن المصلحة المرسلة في الكتب الأساسية للمتقدمين من الأصوليين، سعيا للتعرف على زمن ظهور هذا المصطلح والتطور الذي خضع له، مع تخصيص ما كتبه الجويني والغزالي بالعرض والتحليل، لكون تلك الكتابات تمثل المادة الأساس لهذا الموضوع . وفي استعراض كتب الأصول سأقتصر على الكتب الأساسية، ولن أعرض لما ورد في الشروح والحواشي إلا إذا تضمنت مادة مهمة في إبراز تطور المصطلح، كما هو الحال في شرح القرافي على المحصول للرازي.
أما الدراسات المعاصرة : فسيكون التركيز فيها على تلك التي تضمنت نقدا وتوجيها لما كتب حول المصلحة المرسلة، سواء للاقتباس منها أو للتعقيب على بعض ما ورد فيها من أفكار.
أما الدراسات التي لا يتوافر فيها هذا الأمر، فهي لا تعنيني في هذا البحث.
خطة البحث: يشتمل البحث على مقدمة ؛ وسبعة مطالب:
المطلب الأول: أصل مصطلح المصلحة المرسلة.
المطلب الثاني: المصلحة المرسلة عند الأصوليين في عصر الجويني -الغزالي.
المطلب الثالث: المصلحة المرسلة عند الجويني والغزالي.
المطلب الرابع: تحليل موقف الغزالي من الاحتجاج بالمصلحة المرسلة.
المطلب الخامس: تقييم عرض الغزالي لموضوع المصلحة المرسلة.
المطلب السادس: الموقف من المصلحة المرسلة بعد الغزالي.
المطلب السابع: نسبة الاحتجاج بالمصلحة المرسلة إلى المذاهب الفقهية.
خاتمة في نتائج البحث.
المطلب الأول: أصل مصطلح " المصلحة المرسلة"
يرجع أصل الحديث عن المصلحة المرسلة إلى مبحث "الاستدلال" عند الإمام الجويني في كتابه البرهان، وقد عرف الاستدلال بقوله : " هو معنى مشعر بالحكم، مناسب له فيما يقتضيه الفكر العقلي، من غير وجدان أصل متفق عليه، والتعليل المنصوب جار فيه." ([2]) وهو قريب من التعريف الذي أعطي فيما بعد للمصلحة المرسلة.
وقد استخدم الجويني ضمن مبحث الاستدلال مصطلحات : " الاستصلاح"، و"المعاني المرسلة"، و"الرأي المرسل". ولم يرد فيما كتبه مصطلح "المصلحة المرسلة " ولا "المناسب المرسل ". فمن عباراته التي ورد فيها مصطلح "الاستصلاح" قوله في بيان مذاهب العلماء في الاحتجاج بالاستدلال : "الثاني: جواز اتباع وجوه الاستصلاح والاستصواب، قربت من موارد النص أو بعدت " إذا لم يصد عنها أصل من الأصول الثلاثة : الكتاب، والسنة، والإجماع ." ([3]) ومن عباراته التي ورد فيها مصطلح " المعاني المرسلة " قوله : "ومن تتبع كلام الشافعي لم يره متعلقا بأصل، ولكنه ينوط الأحكام بالمعاني المرسلة، فإن عدمها التفت إلى الأصول مشبها." ([4]) ومن عباراته التي ورد فيها مصطلح " الرأي المرسل " قوله : " وصرح بأن ما لا نص فيه، ولا أصل له، فهو مردود إلى الرأي المرسل، واستصواب ذوي العقول." ([5]) ومن هذه العبارات وضع الغزالي اصطلاح "الاستدلال المرسل " في كتابه المنخول، حيث عقد بابا بعنوان : "الاستدلال المرسل وقياس المعنى "، ([6]) واستعمل في هذا الباب مصطلح "المصلحة المرسلة". ([7]) ولم يتعرض الغزالي في كتاب المنخول لتقسيمات المناسب، كما لم يذكر المناسبة ضمن مسالك العلة. ([8]) وإنما أورد المناسبة ضمن مسالك العلة وتعرض لتقسيمات المناسب في كتاب شفاء الغليل، وبعد ذلك في المستصفى. ففي كتاب شفاء الغليل تحدث عن أقسام المناسب، وجعل منه المناسب المرسل . ومما جاء فيه : " المناسب الملائم الذي لم يشهد له أصل معين، وهو الذي يلقب في لسان الفقهاء بالاستدلال المرسل، يعنى به الاعتماد على المعنى المناسب المصلحي الذي يظهر في الفرع، من غير استشهاد بأصل معين." ([9]) وجاء فيه أيضا: "أما المناسب المرسل إذا ظهر في نفس المسألة على مذاق المصالح، وهو الذي يعبر عنه الفقهاء بالاستدلال المرسل، وهو : التعلق بمجرد المصلحة من غير استشهاد بأصل معين، فهذا مما اختلف فيه رأي العلماء. " ([10]) وفي هذين النصين نرى تسويته بين معاني : " الاستدلال المرسل "، والمناسب المرسل"، و المصلحة المرسلة ". أما في كتاب المستصفى فقد ناقش موضوع المصلحة المرسلة تحت مبحث " الاستصلاح" ضمن الأدلة الموهومة، ([11]) كما تحدث عن المناسب المرسل ضمن أقسام المناسبة في مسالك العلة. ([12])
وبهذا يتبين أن أصل المصلحة المرسلة هو مبحث الاستدلال عند الجويني . ويظهر من خلال ما وصلنا من كتب أصول الفقه أن الجويني هو أول من عقد مبحثا خاصا باسم " الاستدلال " وأعطاه معنى أصوليا خاصا، وربطه بالاستصلاح والرأي المرسل.
المطلب الثاني: المصلحة المرسلة عند الأصوليين في عصر الجويني- الغزالي
من أجل دعم فرضية أن نشأة وتطور مصطلح "المصلحة المرسلة" (الاستدلال المرسل) تم في مدرسة الجويني -الغزالي الأصولية ،([13]) نلقي نظرة في كتب الأصوليين السابقين أو المعاصرين للجويني والغزالي أو القريبين من عصرهما لنرى هل لمصطلح "المصلحة المرسلة / الاستدلال المرسل" وجود في تلك الكتب أم لا؟
إذا نظرنا في كتاب الرسالة للأمام الشافعي (ت 204 هـ) فإننا لا نجد فيه ذكرا لمصطلح " المصلحة المرسلة " وما يتعلق بها من اصطلاحات . وكذلك لا نجد شيئا من ذلك في كتاب الفصول في الأصول للجصاص الحنفي (ت 370 هـ)، دان كان قد تحدث عن المصلحة، مثل حديثه عن الفرق بين علل الأحكام وعلل المصالح، في ثنايا حديثه عن صفات العلة وكيفية استخراجها. ([14]) كما أنه لا يوجد شيء من ذلك في كتاب التقريب والإرشاد (الصغير) للباقلاني المالكي (ت 403 هـ) . ولا يوجد عند أبي الحسين البصري المعتزلي (ت 436 هـ) في كتاب المعتمد ذكر لمصطلح " المصلحة المرسلة " أو " المناسب المرسل ". وإن كان يوجد في كتابه حديث عن المصلحة، مثل حديثه عن كيفية ثبوت المصالح، وأنه لا يشترط في ثبوتها نص خاص، بل يمكن إثباتها بالاستدلال. ([15]) أما الاستدلال فقد عرفه بأنه : "ترتيب علوم يتوصل به إلى علم أخر . فكل ما وقف وجوده على ترتيب علوم فهو مستدل عليه." ([16]) وهو مختلف عن المعنى الذي ذكره الجويني . ولا نجد في كتاب الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم الظاهري (ت 456 هـ) ذكرا للاستصلاح أو المصلحة المرسلة . ولو كان هذا المفهوم شائعا في زمانه لذكره وتعرض له بالتقييم والنقد كما فعل مع مفهوم الاستحسان . كما لا نجد عنده ذكرا للاستدلال بمعناه الخاص عند الجويني، بل نجده بمعناه العام. ([17]) ولا نجد في كتاب العدة في أصول الفقه للقاضي أبي يعلى الفراء الحنبلي (ت 458 هـ) ذكرا للاستصلاح أو المصلحة المرسلة أو الاستدلال بالمعنى الذي ذكره الجويني، وإنما ذكر الاستدلال بمعناه العام، وهو طلب الدليل. ([18]) ولا نجد في كتب أبي إسحاق الشيرازي الشافعي (ت 476 هـ): التبصرة، واللمع وشرحه، ذكرا لمصطلح "المصلحة المرسلة " وما يتعلق بها من تقسيمات للمناسب، ولا ذكرا للاستدلال بالمعنى الذي ذكره الجويني، ([19]) وإن كان قد أشار إلى دور الاستدلال في ثبوت المصلحة. ([20]) وإذا نظرنا في كتاب : إحكام الفصول في أحكام الأصول لابي الوليد الباجي المالكي (ت 474 هـ)، نجد أنه ذكر الاستصحاب، والاستحسان، ولم يذكر الاستصلاح أو المصلحة المرسلة، كما أنه لم يعقد في كتابه بابا خاصا بالاستدلال، وعرفه بالتعريف العام. ([21]) كما لا نجد في كتاب الواضح في أصول الفقه لابن عقيل الحنبلي (ت 513 هـ) ذكرا للاستصلاح أو المصلحة المرسلة. ([22]) وحتى ابن العربي (ت 543 هـ) المنظر لمفهوم الاستحسان عند المالكية، لم يورد ذكرا للمصلحة المرسلة وما يتعلق بها من مفاهيم في الملخص الذي وضعه في أصول الفقه بعنوان : المحصول ي أصول الفقه. ([23])
المطلب الثالث: المصلحة المرسلة عند الجويني والغزالي
أولا: موقف الغزالي من وجود المصلحة المرسلة
بعد بيان أن الغزالي هو الذي طور مصطلح "الاستدلال المرسل / المصلحة المرسلة" من مبحث الاستدلال عند الجويني، ننظر في موقفه من وجود الاستدلال المرسل/ المصلحة المرسلة.
أشار الغزالي في كتابه المنخول بعد استعراض ملخص كلام الجويني في الخلاف في الاحتجاج بالاستدلال إلى عدم وجود الاستدلال المرسل (المصلحة المرسلة ) أصلا، حيث قال : "والصحيح أن الاستدلال المرسل في الشرع لا يتصور حتى نتكلم فيه بنفي أو إثبات . إذ الوقائع لا حصر لها، وكذا المصالح . وما من مسألة تفرض إلا وفي الشرع دليل عليها إما بالقبول أو بالرد." ([24]) وبعد حديثه عن أنواع أحكام الشرع من حيث طريق معرفة حكمها، خلص إلى القول : " فخرج به أن كل مصلحة تتخيل في واقعة محتوشة ([25]) بالأصول المتعارضة لا بد أن تشهد الأصول لردها أو قبولها . فأما تقدير جريانها مهملا غفلا، ([26]) لا يلاحظ أصلا، محال تخيله ."([27]) وقال بعد نقاش لمسألة وطء الزوج مطلقته في العدة : "فقد تبين أن كل مصلحة مرسلة فلا بد أن تشهد أصول الشريعة لردها أو قبولها." ([28])
أما في كتابه شفاء الغليل فقد أثبت وجود " المناسب المرسل / المصلحة المرسلة " وتحدث عنهما طويلا. وفي كتاب المستصفى عقد بابا بعنوان "الاستصلاح" ضمن الأدلة الموهومة، تحدث فيه طويلا عن المصلحة المرسلة . كما تحدث عن المناسب المرسل في مسالك العلة عند حديثه عن مسلك المناسبة. ([29])
وسبب ما يظهر في هذين الموقفين من تباين أن الإرسال على نوعين:
أحدهما: إرسال مطلق، وهو عدم وجود ما يشهد لمصلحة من المصالح بالقبول أو بالرد من نصوص الشرع، سواء على مستوى النوع أو الجنس " فهي مصلحة مرسلة عن أدلة الشرع بإطلاق . وهذا النوع من الإرسال هو الذي نفى الغزالي وجوده في كتابه المنخول.
النوع الثاني: إرسال خاص مرتبط بالقياس، بمعنى عدم وجود أصل خاص تقاس عليه تلك المصلحة، لكن ذلك لا يمنع من وجود ما يشهد لها من الأصول العامة بالاعتبار فتلحق بالمصلحة المعتبرة، أو بالرد فتلحق بالمصلحة الملغاة. ([30]) وهذا الذي ركز عليه في شفاء الغليل والمستصفى.
ثانيا : موقف الجويني والغزالي من الاحتجاج بالمصلحة المرسلة (الاستدلال)
لقد كان موقف الجويني من الاحتجاج بالاستدلال (المصلحة المرسلة ) واضحا، فقد دافع عنه، ورد على من أنكر الاحتجاج به، كما أنه لم يتردد في نسبته إلى الإمام الشافعي على الوجه الذي يراه مقبولا" فقال : " ومن تتبع كلام الشافعي لم يره متعلقا بأصل، ولكنه ينوط الأحكام بالمعاني المرسلة، فإن عدمها التفت إلى الأصول مشبها ... ولا بد في التشبيه من الأصل." ([31])
ويمضي الجويني في الاستدلال على ما نسبه إلى الشافعي من الأخذ بالمعاني المرسلة إذا كانت قريبة، فيقول : "قد ثبت أصول معللة اتفق القائسون على عللها، فقال الشافعي : أتخذ تلك العلل معتصمي، وأجعل الاستدلالات قريبة منها، وإن لم تكن أعيانها، حتى كأنها مثلا أصول، والاستدلال معتبر بها." ([32]) ويذهب الجويني بعيدا في مسعاه إلى إثبات الاحتجاج بالاستدلال، حيث يرى تقديم الاستدلال بالمعاني المرسلة على الاستدلال بالقياس على أصول معينة، فيقول : "واعتبار المعنى بالمعنى تقريبا أولى من اعتبار صورة بصورة بمعنى جامع، فإن متعلق الخصم من صورة الأصل معناها لا حكمها، فإذا قرب معنى المجتهد والمستدل فيما يجتهد إلى الشرع ولم يرده أصل، كان استدلالا مقبولا." ([33])
وبعد أخذ ورد خلص الجويني إلى أن المقبول في الاستدلال المرسل : هو ما كان معتمدا على وصف مخيل ومناسب، ولم يكن راجعا إلى وصف منصوص عليه أو مومأ إليه أو أجمع عليه القائسون، بشرط أن يكون ذلك المعنى مشابها للمعاني والمصالح التي كان يعتبرها الصحابة، وأن لا يصادم أصلا من الأصول. ([34]) ولست هنا بصدد مناقشة رأي الجويني وأدلته، وإنما الهدف هو مجرد بيان موقفه من الاستدلال لمقارنته بمن جاء بعده.
أما الغزالي : فإن الناظر في كتبه الثلاثة يجده يتردد بين طرفي التخفيف والتشديد في شروط الاحتجاج بها. ففي كتاب المنخول نجده يقول : "كل معنى مناسب للحكم، مطرد في أحكام الشرع، لا يرده أصل مقطوع به فقدم عليه، من كتاب أو سنة أو إجماع " فهو مقول به، وإن لم يشهد له أصل معين." ([35]) ويقول : "فإن قيل : لو حدثت واقعة لم يعهد مثلها في عصر الأولين، وسنحت مصلحة لا يردها أصل، ولكنها حديثة، فهل تعتبرونها ؟ قلنا : نعم." ([36]) ولكنه يضع في موضع من الكتاب شرطا، يرى أنه هو الذي يفرق بين مذهب الشافعية ومذهب مالك في الأخذ بالمصالح المرسلة، وهو ألا تكون تلك المصلحة قد ظهرت في عصر الصحابة وامتنعوا عن الأخذ بها، حيث يقول : "كل مصلحة يعلم على القطع وقوعها في زمن الصحابة رضي الله عنهم، وامتناعهم عن القضاء بموجبها، فهي متروكة." ([37]) وقد استخدم هذا الشرط في الاعتراض على ضرب المتهم، لان الداعي إلى ذلك كان موجودا في زمن الصحابة رضي الله عنهم، ولكنهم لم يفعلوه. ([38])
كما نجده في موضع في المستصفى ينص على القبول المطلق للمصلحة المرسلة، ويرفع من شأنها بجعلها متضمنة في الكتاب والسنة، وثابتة بأدلة كثيرة لا حصر لها، حيث يقول : "وكل مصلحة رجعت إلى حفظ مقصود شرعي، علم كونه مقصودا بالكتاب والسنة والإجماع، فليس خارجا من هذه الأصول، لكنه لا يسمى قياسا، بل مصلحة مرسلة، إذ القياس أصل فعين . وكون هذه المعاني مقصودة، غرفت لا بدليل واحد، بل بأدلة كثيرة لا حصر لها من الكتاب والسنة وقرائن الأحوال وتفاريق الأمارات، تسمى لذلك مصلحة مرسلة." ([39]) ثم يقول : "وإذا فسرنا المصلحة بالمحافظة على مقصود الشرع، فلا وجه للخلاف في اتباعها، بل يجب القطع بكونها حجة، وحيث ذكرنا خلافا، فذلك عند تعارض مصلحتين ومقصودين، وعند ذلك يجب ترجيح الأقوى." ([40])
وفي شفاء الغليل ذهب إلى أن المصلحة المرسلة التي شأنها المحافظة على مقصود الشرع لا يشترط في العمل بها شهادة أصل خاص، وأن العمل بها محل اتفاق بين العلماء القائلين بالقياس، حيث يقول تعليقا على قتل الجماعة بالواحد: "فدل أن كل واحد من الشافعي ومالك سلك مسلك المصلحة، وهو الذي رآه عمر رضي الله عنه. وذلك يدل على اتفاق مسالك العلماء القائسين في اتباع المصالح المرسلة، وإن لم يعتضد بشهادة أصل معين، مهما كان من جنس مصالح الشرع." ([41])
وفي مقابل هذا التوسع في العمل بالمصلحة المرسلة، نجده في المستصفى يضيق دائرة الأخذ بها، فيقصرها على الضرورات فقط، حيث يقول، بعد أن قسم المصالح من حيث قوتها في ذاتها إلى ضرورات وحاجات وتحسينات : "فنقول الواقع في الرتبتين الأخيرتين لا يجوز الحكم بمجرده إن لم يعتضد بشهادة أصل، لأنه يجري مجرى وضع الشرع بالرأي، فهو كالاستحسان، فإن اعتضد بأصل فذاك قياس، وسيأتي. أما الواقع في رتبة الضرورات فلا بعد أن يؤدي إليه اجتهاد مجتهد، وإن لم يشهد له أصل معين." ([42]) ويبلغ تضييقه الذروة عندما يشترط فيها أن تكون ضرورية كلية قطعية. ([43]) وسيأتي بيان سبب هذا التضييق عند الحديث عن تحليل موقف الغزالي، وأنه ورد في سياق الحديث عن مصلحة تعارض أصلا مقطوعا به.
وبين الموقفين السابقين، نجده في موضع من شفاء الغليل يتوسط في شروط العمل بها، فيصرح بحصر العمل بها في مرتبتي الضرورات والحاجات اكتفاء بملاءمتها لتصرفات الشرع، أما في مرتبة التحسينات : فيجزم بعدم جواز العمل بها، ويعذ الأخذ بها في هذه الرتبة وضعا للشرع بالرأي. ([44])
وبناء على ما سبق بيانه من تردد في كلام الغزالي، اختلف الباحثون -قديما وحديثا- في تحديد موقفه " فمنهم : من وصف موقفه بالتردد أو الاضطراب، مثل ابن المنير –من المتقدمين، ([45]) ومن المعاصرين : محمد الطاهر بن عاشور، ([46]) ومحمد حسن هيتو، ([48]) وفي المقابل نجد من ينفي عنه أي نوع من التردد والاضطراب، وعلى رأسهم حسين حامد حسان. ([49]) وسيأتي -عند الحديث عن تحليل موقفه - بيان سبب التردد والتوفيق بين تلك الأقوال المختلفة.
هذا من ناحية التناسق والاضطراب في موقف الغزالي، أما عن تحديد موقفه من الاحتجاج بالمصلحة المرسلة : فمنهم من نسب إليه عدم الاحتجاج بها إلا إذا كانت في الضرورات، وكانت قطعية وكية . ومن هؤلاء : الرازي، والآمدي، والبيضاوي، وابن الحاجب، والزركشي. ([50]) ومن المعاصرين الذين نسبوا الغزالي إلى هذا القول محمد مصطفى شلبي في كتابه تعليل الأحكام، حيث قال : " المذهب الثالث : التفصيل بين نوع ونوع، فإذا كانت ضرورية قطعية كلية صح العمل بها، دالا ردت، إلا إذا بلغت الحاجية مبلغ الضرورة، وهو رأي الغزالي الذي صرح به في المستصفى." ([51]) ثم خلص إلى القول بعد ذكر مسألة التترس التي مثل بها الغزالي: " ونحن إذا علمنا أن هذه الصورة نادرة جدا، مع أنها ليست من الإرسال في شيء، لان الأدلة الكثيرة أثبتت هذا النوع، أدركنا أن رأيه ليس رأيا مستقلا، بل هو رأي المانعين." ([52])
ومنهم : من تردد في شرط القطع، مثل تاج الدين ابن السبكي، حيث يرى أن الغزالي في الحقيقة لم يشترط القطع لترجيح العمل بالمصالح المرسلة، بل شرطه ليكون العمل بها مقطوعا به، أي مجزوما باعتباره، أما ترجيح العمل بها : فيكفي فيه الظن القريب من القطع. ([53])
ومنهم : من ذهب إلى أن الغزالي يرى جواز العمل بالمصلحة المرسلة في الضروريات والحاجيات دون اشتراط القطع والكلية، ومن هؤلاء حسين حامد حسان، ([54]) وأيمن الدباغ، ([55]) وقد سعى كل منهما إلى استنتاج شروطه في العمل بالمصلحة المرسلة من خلاله كتبه.
يتبع