أثر الزحام على الترخص في المبيت بمنى أيام التشريق
عبد الرحمن بن أحمد الجرعي
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعثه ربه رحمة للعالمين، نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وأصحابه والتابعين.وبعد:
فهذا بحث بعنوان: (أثر الزحام على الترخص في المبيت بمنى أيام التشريق).
وهو موضوع مهم لكونه يتعلق بشعيرة الحج وهي من أهم شعائر الدين، وموضوع الزحام في منى من الموضوعات التي أرقت العلماء وطلاب العلم خاصة مع الزيادة الكبيرة في أعداد الحجاج وضيق المساحة، مما يوجب البحث في مثل هذا الموضوع وتلمس الحلول لهذه المشكلات المعاصرة.
وهذه الدراسة تتناول الموضوع من خلال نقاط.
معنى الزحام:
الزحام لغة: جاء في معجم مقاييس اللغة: الزاء والحاء والميم، أصل يدل على انضمام في شدة، يقال: زحمه يزحمه، وازدحم الناس (1) وزحم القوم بعضهم بعضاً: ضايقوهم، وازدحموا وتزاحموا: تضايقوا، والزحمة الزحام، ورجل مزحم: كثير الزحام أو شديده.
وقال بعضهم: زُحْمٌ: من أسماء مكة شرفها الله وحرسها وقال غيرهم: المعروف أنها رُهم (2).
الزحام اصطلاحاً: لا يخرج المعنى الاصطلاحي للزحام عن المعنى اللغوي السابق.
معنى الترخص:
الترخص في اللغة: يقال: رخّص له في كذا ترخيصاً فترخص هو: أي لم يستقص.
والرُخصة من الله للعبد تعني التخفيف، كما تطلق الرخصة على التسهيل، وترخّص في الأمور أخذ منها بالرخصة (3).
الترخص اصطلاحاً: عرفت الرخصة: بأنها: "ما شرع من الأحكام لعذر مع قيام السبب المحرمِّ" (4).
والترخص: هو الأخذ بالرخصة.
التعريف بمنى وبيان حدودها:
منى: بالكسر والتنوين، سميت بذلك لما يمنى فيها من الدماء أي يراق. وقيل غير ذلك، وهي من الحرم (5).
وحدودها كما يأتي:
1. الحد الغربي: جمرة العقبة.
2. الحد الشرقي: وادي محسّر الفاصل بينها وبين مزدلفة.
3. الحد الجنوبي والشمالي: الجبلان المستطيلان من جانبيهما فالشمالي منهما: ثبير الأثبرة والجنوبي منها: الصابح وفي سفحه مسجد الخيف فما أدخلت هذه الحدود الأربعة فهو منها.
وقال بعض العلماء: ما أقبل على منى دون وجوه هذه الجبال فهو منها وما أدبر فليس منها (6).
وقد وضعت على حدود منى من كل جهة وصوب لوحات إرشادية لبدايتها ونهايتها مرفوعة إلى أعلى بمقدار ستة أمتار في خط عريض وبألوان ظاهرة ملفتة على لوحات من الصاج (7).
وتبلغ مساحة منى بحدودها الشرعية( 16.8 كم2) بما فيها السفوح الجبلية والمنطقة السهلية المنبسطة، وتقدر مساحة بطن الوادي في منى بحوالي (4 كم) وهي تكاد تكون نصف المساحة الإجمالية للحدود الشرعية لمشعر منى في حين أن بقية المساحة سفوح جبلية تستأثر الطرق والأرصفة بحوالي (25%) منها، في حين تقدر المساحة التي تشغلها الدوائر الحكومية والخدمات بـ (15%) منها.
وبهذا يتضح أن المساحة المتبقية لنصب الخيام، وإيواء الحجاج في منى هي (5.2 كم2) (8).
المراد بأيام التشريق:
أيام التشريق هي الأيام الثلاثة بعد يوم النحر: وهي الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة، وسميت أيام التشريق بهذا الاسم: من تشريق اللحم: أي تقديده، أو من قولهم أشرق ثبير كيما نغير، أو لأن الهدي لا يذبح حتى تشرق الشمس (9).
حكم المبيت بمنى أيام التشريق:
اختلف العلماء - رحمهم الله - في حكم المبيت بمنى أيام التشريق على قولين:
القول الأول: أنه غير واجب بل هو مسنون وإليه ذهب الحسن (10) وهو مذهب الحنفية (11) وأحد قولي الشافعية (12) ورواية عن الإمام أحمد (13) وبه قال ابن حزم الظاهري (14).
أدلة هذا القول:
1. ما رواه ابن عمر -رضي الله عنه- قال: "استأذن العباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه- رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته، فأذن له" (15) وفي رواية ((رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم -... ))
ووجه الدلالة:
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص لأهل السقاية في ترك المبيت بمنى من أجل سقي الناس ماء زمزم وهذا ليس بضرورة إذ من الجائز أن تترك زمزم وكل من جاء شرب منها، ولكن كون النبي - صلى الله عليه وسلم - يرخص للعباس يدل على أن المبيت سنة (16).
وأجيب عنه: بأن كلمة (رخص) تدل على أن ما يقابل الرخصة عزيمة لا بد منها (17).
2. أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر بالمبيت في منى ولو كان واجباً لأمر به فدل على أن المبيت سنة (18).
وقد أجيب عن هذا الدليل:
بأن الأمر قد جاء في قوله - صلى الله عليه وسلم – ((خذوا عني منا سكك)) (19). والمبيت كان لأهل المناسك (20).
ويمكن أن يجاب عن هذا: بأنه - صلى الله عليه وسلم - قد فعل من المناسك ما عده العلماء من الأركان كالوقوف بعرفة، وفعل الواجبات كالمبيت بمزدلفة، وفعل السنن الكثيرة، فليست المناسك على درجة واحدة.
3. ما ورد عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: "إذا رميت الجمار فبت حيث شئت" (21).
وقد نوقش هذا الأثر:
بأنه يمكن أن يحمل قوله " فبت حيث شئت " أي من منى فلا يتعين مكان من منى للمبيت (22).
ويمكن أن يجاب: بأن هذا الاحتمال بعيد. ولذلك بوب ابن أبي شيبة في مصنفه لهذا الحديث بقوله: "من رخّص أن يبيت ليالي منى بمكة" (23).
4. ما ورد عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: "لا بأس لمن كان له متاع بمكة أن يبيت بها ليالي منى" (24).
5. ولأنه قد حل من حجه فلم يجب عليه المبيت بموضع معين كليلة الحصبة (25): وهي الليلة التي تلي أيام التشريق.
ويمكن أن يناقش هذا التعليل:
بالفرق بين ليالي التشريق وما بعدها فإن ليالي التشريق من الأنساك وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يمكثها في منى بخلاف ما بعدها. والله أعلم
القول الثاني: المبيت بمنى أيام التشريق واجب. وهو قول الجمهور فقد ذهب إليه المالكية (26) والشافعية (27) والحنابلة (28) وبه قال الشوكاني (29).
أدلة هذا القول:
1. ما ورد أنه - صلى الله عليه وسلم – ((رخص للعباس بن عبد المطلب أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته)) متفق عليه. [سبق تخريجه]
ووجه الدلالة: أن تخصيص العباس- رضي الله عنه- بالرخصة لعذره دليل على أنه لا رخصة لغيره من الحجاج (30).
وقد نوقش هذا الأمر:
بعدم التسليم بما ذكره، وإنما يستقيم كلامهم لو تقدم منه - صلى الله عليه وسلم - أمر بالمبيت فيكون أهل السقاية مستثنين من سائر من أمروا، وأما إذا لم يتقدم منه - عليه الصلاة والسلام - أمر فنحن لا ندري أن هؤلاء مأذون لهم وليس غيرهم مأموراً بذلك ولا منهياً عنه، فهم على الإباحة (31).
ويمكن أن يجاب عن هذا:
بأن الأمر جاء عاماً في قوله - صلى الله عليه وسلم – ((لتأخذوا عني مناسككم))[سبق تخريجه] وهو وإن شمل مناسك واجبة إلا أن الترخيص للعباس في المبيت من أجل السقاية يدل على كونه عزيمة وإلا لما استأذن العباس-رضي الله عنه- والله أعلم.
2. قوله - صلى الله عليه وسلم – ((لتأخذوا عني مناسككم)) [سبق تخريجه] والمبيت بمنى كان من أجل النسك (32).
3. قول ابن عباس -رضي الله عنهما- :" لم يرخص النبي - صلى الله عليه وسلم - لأحد يبيت بمكة إلا للعباس أجل سقايته" (33).
وقد أجيب عن هذا الاستدلال: بأن أثر ابن عباس -رضي الله عنهما- هذا ضعيف.
4. ورود بعض الآثار عن عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وابن عباس -رضي الله عنهم جميعاً- بمنع الحجاج من المبيت خارج منى (34).
ويمكن أن يجاب عن هذه الآثار: بأنه قد ورد عن ابن عباس-رضي الله عنهما- ما يدل على جواز المبيت خارج منى (35) فلا يستقيم الاحتجاج بهذه الآثار.
الترجيح:
يظهر لي والله أعلم رجاحة القول الثاني بوجوب المبيت بمنى لوجاهة دليلهم الأول خاصة.
ومن معالم التيسير هنا: اعتبار الخلاف في هذه المسألة فإن الأدلة محتملة وينبغي على المفتي أن يراعي حال السائل إن كان قد سأل فأفتى له بعدم الوجوب، أو كان له عذر في المبيت. والله أعلم.
مقدار المبيت:
اختلف العلماء في مقدار المبيت المجزئ على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن القدر المجزئ هو أن يكون موجوداً بمنى عند طلوع الفجر. وهو أحد القولين في مذهب الشافعية (36).
ودليل هذا القول:
القياس على المبيت ليلة المزدلفة فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ليلتها في حديث عروة بن المضرِّس-رضي الله عنه- ((من شهد صلاتنا هذه -يعني صلاة الصبح- ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه)) (37).
وقد أجيب بأجوبة منها:
1. أن عروة-رضي الله عنه- كان معذوراً في عدم مبيته بمزدلفة (38).
ويجاب عن هذا: بأن قوله - صلى الله عليه وسلم - (من) يدل على العموم وليس خاصاً بعروة-رضي الله عنه-.
2. أن قياس المبيت بمنى على المبيت بمزدلفة فيه نظر: لأن المبيت بمزدلفة مختلف فيه: فبعضهم عده واجباً وبعضهم عده ركناً وبعضهم جعله سنة. ولا بد أن يكون الأصل المقيس عليه متفقاً عليه (39).
ويمكن أن يجاب عن هذا: بأن القصد القياس هنا هو معرفة مقدار المبيت المشروع سواءً أكان واجباً أو مسنوناً. والله أعلم
القول الثاني: أنه لا فرق بين المبيت أكثر الليل أو أقله. وبه قال ابن حزم (40).
ودليل هذا القول:
إن لم يرد دليل على التحديد فلا يصار إلى شيء من ذلك إلا بدليل (41).
ويمكن أن يجاب عن هذا:
بأن الألفاظ التي ترد في النصوص الشرعية ولم يرد لها تحديد شرعي فيرجع في فهمها إلى لغة العرب.
القول الثالث: أن المقدار المجزئ هو أكثر الليل. وهذا مذهب الجمهور من المالكية (42) وهو الأظهر الشافعية (43) وهو مذهب الحنابلة (44).
ومن أدلتهم:
1. أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص للضعفة من أهله أن يدفعوا بعد منتصف الليل (45).
ووجه الدلالة: أن الترخيص للضعفة إنما كان لعذرهم فيدل هذا على أن من عداهم يبقون أكثر الليل.
2. أن أكثر الشيء يقوم مكانه ممن بات أكثر الليل صار في حكم من بات جميعه (46).
الترجيح:
يظهر لي -والله أعلم- رجحان القول الثالث لوجاهة أدلته وللإجابة عن دليل القول الأول.
ومن معالم التيسير هنا:
أن البقاء أكثر الليل إنما هو في حال الاختيار أما عند الاضطرار أو الحاجة فما يستطيعه الحاج من ذلك فهو مجزئ في المبيت. والله أعلم.
من لم يجد مكاناً في منى:
إذا لم يجد الحاج مكاناً للمبيت في منى أو وجد مكاناً ولكن لا يليق به فأين يبيت؟
وقبل أن أذكر خلاف العلماء في هذه المسألة أشير إلى أن هذه النازلة إنما ظهرت عند المعاصرين من العلماء حين ازدحمت منى بأعداد الحجاج فاحتيج إلى الكلام في هذه النازلة. وقد اختلف في حكمها على قولين:
القول الأول:أن من لم يجد مكاناً في منى فإنه ينزل في أقرب مكان منها.
وممن اختار هذا القول: الشيخ محمد بن صالح العثيمين (47) والشيخ عبد الله بن جبرين (48) والشيخ صالح الفوزان (49).
ودليلهم على ذلك:
القياس على ما لو امتلأ الجامع يوم الجمعة فإن الذين يأتون يصفون عند الأبواب ولا يصفون بعيداً حتى ولو سمعوا الصوت، بل يصفون قريباً بحيث تتصل الصفوف، فهكذا إذا امتلأت منى يسكنون بأقرب ما يمكنهم (50).
ويمكن أن يجاب عن هذا التعليل:
1. بأن المبيت في هذه البقعة مقصود فيها دون غيرها، وفارق اتصال الصفوف؛ لأن المقصود باتصال الصفوف متابعة الإمام وليس الأمر كذلك هنا. والله أعلم.
2. أن هذا القول يتحقق به مقصود الشارع من اجتماع الناس في مكان واحد (51).
ويمكن أن يجاب عن هذا:
بالتسليم إذا كان المكان هو في منى فأما ما عداها فليس مقصوداً. والله أعلم.
القول الثاني: من لم يجد مكاناً في منى جاز له المبيت حيث شاء.
وذهب إليه جمع من العلماء المعاصرين ومنهم الشيخ عبد العزيز بن باز (52) وقد صدرت به فتوى من اللجنة الدائمة للإفتاء (53).
واستدل أصحاب هذا القول بما يلي:
1. عموم قوله - تعالى -: (فاتقوا الله ما استطعتم) [التغابن: 16] (54).
ووجه الدلالة من هذه الآية:
أن من لم يجد مكاناً بعد البحث فقد فعل المطلوب منه بقدر الوسع والطاقة ولا يكلف أكثر من ذلك.
2. القياس على حال من فقد عضواً من أعضاء الوضوء فإنه يسقط غسله (55) لعدم وجود المحل فكذلك من لم يجد مكاناً في منى فيسقط عنه المبيت.
الترجيح:
يظهر لي -والله أعلم- رجحان القول الثاني لوجاهة دليله وللإجابة عن احتجاج أصحاب القول الأول. والله أعلم.
ما الذي يلزم بترك المبيت :
اختلف الفقهاء ما الذي يلزم التارك للمبيت ولهم في ذلك خمسة أقوال:
القول الأول: أنه لا شيء عليه مطلقاً وهو مقتضى مذهب الحنفية بأن المبيت سنة (56) وهو - أعني هذا القول- رواية عن الإمام أحمد (57) وبه قال ابن حزم (58).
واستدلوا بما يلي:
1. أنه لم يرد دليل صحيح على إيجاب شيء في ترك المبيت (59).
ويمكن أن يناقش هذا: بأنه وإن لم يرد في المبيت بخصوصه شيء لكن قد ثبت عن ابن عباس-رضي الله عنهما- قوله: "من نسي شيئاً من نسكه أو تركه فليهرق دماً" (60) والمبيت نسك.
ويمكن أن يجاب عن هذا:
بأنه قد ثبت عن ابن عباس نفسه -رضي الله عنهما- بأنه قال: "إذا رميت الجمار فبت حيث شئت" (61) وهذا نص في مسألتنا بخصوصها.
2. أن لو كان يلزم بترك المبيت دماً لما سقط بالعذر كالطيب واللباس (62).
وأجيب عنه:
بأن احتجاجكم هذا منتقض بترك الوقوف مع الإمام نهاراً لعذر فإنه لاشيء عليه، ومع العذر عليه دم إجماعاً، ثم الفرق: أن الطيب محرم، فالدم كفارة، والدم هاهنا سقط للعذر (63).
يتبع