المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمد عبدالعظيم
قال القرطبي : لم يزل الله سبحانه موصوفا قبل وجود الخلق وبعد وجودهم وعند فنائهم ،
قال الشيخ صالح ال الشيخ فى شرح الطحاوية -على قول الطحاوى رحمه الله - (لم يَزدَدْ بِكَوْنِهِم شَيْئاً، لم يكنْ قَبلَهُم مِنْ صِفَتِهِ) تركيب هذه الجملة كالتالي: لم يزدد شيئا جل وعلا من صفاته، لم يزدد شيئا بكونهم؛ يعني بوجودهم وإيجادهم وخلقهم لم يزدد شيئا، وهذا الشيء وصف أنه لم يكن قبلهم من صفته؛ يعني أنّ الرب جل وعلا ما ازداد شيئا لما عليه سبحانه قبل أن يخلقه؛ بل هو سبحانه بصفاته قبل أن يخلق الخلق وبعد أن خلق الخلق؛ لأنه لا يجوز أن يعطَّل الرب من صفاته؛ لأن تعطيل الرب من صفاته نقص، والله سبحانه متنزه عن النقص بأنواعه.
وهذا الكلام منه مع ما بعده متصل ولذلك سنذكر ما يتعلق به من المسائل متتابعا بعد بيان هذه الجمل الآتية:
قال(وكما كانَ بصفاته أزَليًّا، كذلك لا يزالُ عَلَيْها أبديًّا) يعني أنّ صفات الرب جل وعلا كما أنه لم يزل عليها وهو أولٌ بصفاته وهو أيضا جل وعلا آخرٌ بصفاته سبحانه وتعالى، فصفات الرب جل وعلا أبدية أزلية لا ينفك عنه الوصف في الماضي البعيد ولا في المستقبل، بل هو سبحانه وتعالى لم يزدد بخلقه شيئا، لا في جهة الأولية ولا في جهة الآخرية، بل هو سبحانه وتعالى لم يزل بصفاته أولا سبحانه وآخرا
قال(ليسَ منذُ خَلَقَ الخلْق اسْتَفَادَ اسمَ ”الخَالِق“، ولا بِإحْدَاثِ البريَّةَ استفادَ اسمَ ”الباري“) أراد بذلك أنه جل وعلا من أسمائه الخالق ومن صفاته الخلق قبل أن يَخلق، فلم يصر اسمه الخالق بعد أن خلق؛ بل هو اسمه الخالق جل وعلا قبل أن يخلق، ولم يكن اسمه الباري بعد أن برأ الخليقة بل اسمه الباري قبل أن يبرأ الخليقة، لهذا قال بعدها (له معنى الرُّبُوبيَّةِ ولا مَرْبُوبَ، ومعنى الخالق ولا مخلُوقَ) وقبل أن يكون سبحانه خالقا للخلق؛ يعني قبل أن يكون ثم مخلوق هو خالق، وقبل أن يكون ثَم مربوب هو جل وعلا هو الرب سبحانه وتعالى.
قال (وكما أنَّه مُحيِي الموْتَى بَعْدَما أَحْيَا، استحقَّ هَذَا الاسْمَ قَبْلَ إِحْيَائِهم) فهو سبحانه المحيي قبل أن يكون ثم ميت، قبل أن يميت الموتى هو المحيي، وكذلك هو المستحق لاسم الخالق قبل إنشائهم ذلك بأنه على كل شيء قدير.
هذه الجمل مترابطة في الدلالة على المعنى الذي ذكرته لك، وهذا المعنى الذي دلّ عليه كلام الطحاوي ترتبط به مسائل مهمة جدا بهذا الموضع، وهذا الموضع مما يظهر منه أنّ الطحاوي رحمه الله خالف ما عليه أهل الحديث والأثر في هذه المسألة العظيمة، وذلك أنّ أصول هذه المسألة قديمة في البحث بين الجهمية وبين المعتزلة وبين الكلابية والأشاعرة وبين الماتريدية وبين أهل الحديث والأثر، والمذاهب فيها متعددة، لهذا نبين ما في هذه الجمل من مباحث على مسائل إيضاحا للمقال.
المسألة الأولى: أنّ الناس اختلفوا في اتصاف الله جل وعلا بصفاته هل هو متصاف بها بعد ظهور آثارها وأسماء الرب جل وعلا سمي بها بعد ظهور آثارها أم قبل ذلك على مذاهب:
المذهب الأول: هو مذهب المعتزلة والجهمية ومن نحى نحوهم مِنْ أنه جل وعلا لم يَصِر له صفات ولا أسماء إلا بعد أن ظهرت آثارها، فلما خلق صارت له صفة الخلق، وصار من أسمائه الخالق، وذلك على أصل عندهم، وهو أن أسماء الله جل وعلا مخلوقة، فلما خلق سماه الناس الخالق، وخلق له اسم الخالق، فعندهم أنّ الزمان لما ابتدأ فيه الخلق أو الرَّزق أو الإنشاء صار بعده له اسم الخالق، وقبل ذلك لم يكن له هذا الاسم ولم تكن له هذه الصفات، فقبل أن يكون ثم سامع لكلامه فليس هو سبحانه متكلما، فلما خلق سامعا لكلامه خلق كلاما عند المعتزلة والجهمية فأسمعهم إياه، فصار له اسم المتكلم أو صفة الكلام لمّا خلق مَنْ يسمع كلامه، كذلك صفة الرحمة على تأويلهم الذي يؤولونه أو أنواع النعم والمنعم والمحيي والمميت كل هذه لا تطلق على الله عندهم إلا بعد أن وُجد الفعل منه على الأصل الذي ذكرته لكم عنهم أن الأسماء عندهم والصفات مخلوقة.
المذهب الثاني: هو مذهب الأشاعرة والماتريدية ومذهب طوائف من أهل الكلام في أنّ الرب جل وعلا كان متصفا بالصفات وله الأسماء، ولكن لم تظهر آثار صفاته ولا آثار أسمائه بل كان زمانا طويلا طَويلا معطلا عن الأفعال جل وعلا له صفة الخلق وليس ثم ما يخلقه، له صفة الفعل ولم يفعل شيئا، له صفة الإرادة وأراد أشياء كونية مؤجلة غير منجزة وهكذا، فمن أسمائه عند هؤلاء الخالق، ولكنه لم يخلق، ومن أسمائه عندهم أو من صفاته الكلام ولم يتكلم، ومن صفاته الرحمة بمعنى إرادة الإنعام وليس ثم منعَم عليه، ومن أسمائه المحيي وليس ثم من أحيى، ومن أسمائه الباري وليس ثم برأ، وهكذا حتى أنشأ الله جل وعلا وخلق جل وعلا هذا الخلق المنظور الذي تراه من الأرض والسموات وما قصَّ الله في كتابه، ثم بعد ذلك ظهرت آثار أسمائه وصفاته، فعندهم أن الأسماء والصفات متعلقة بهذا العالم المنظور أو المعلوم دون غيره من العوالم التي سبقته، وهذا فِرارا من قول الفلاسفة الذين زعموا أن هذا العالم قديم، أو أن المخلوقات قديمة متناهية أو دائمة من جهة الأولية؛ من جهة القدم مع الرب جل وعلا.
والمذهب الثالث: هو مذهب أهل الحديث والآثر وأهل السنة؛ أعني عامة أهل السنة وهو أنّ الرب جل وعلا أولٌ بصفاته، وصفاته سبحانه وتعالى قديمة، يعني هو أول سبحانه وتعالى بصفاته، وأنه سبحانه كان من جهة الأولية بصفاتهِ -كما عبر الماتن هنا بقوله (كانَ بصفاته)- وأنّ صفات الرب جل وعلا لابد أن تظهر آثارها؛ لأنه سبحانه فعّال لما يريد، والرب جل وعلا له صفات الكمال المطلق، ومن أنواع الكمال المطلق أنْ يكون ما أراد سبحانه وتعالى، فما أراده كونا لابد أن يكون ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ومن مذهب أهل السنة والحديث والأثر أنّه سبحانه يجوز أن يكون خلق أنواعا من المخلوقات وأنواعا من العوالم غير هذا العالم الذي نراه، فجنس مخلوقات الله جل وعلا أعمّ من أن تكون هذه المخلوقات الموجودة الآن، فلا بد أن يكون ثَم مخلوقات أوجدها الله جل وعلا و[أثناها] ظهرت فيها آثار أسمائه وصفاته جل وعلا، فإن أسماء الرب جل وعلا وإنّ صفات الرب جل وعلا لابد أن يكون لها أثرُها؛ لأنه سبحانه فعّال لما يريد، فما أراده سبحانه فعله، ووصف نفسه بهذه الصفة على صيغة المبالغة الدالة على الكمال بقوله ?فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ?، فما أراده سبحانه كان، وهذا متسلسل في الزمن الأول، يعني في الأولية وفي الآخرية فهو سبحانه (وكما كانَ بصفاته أزَليًّا، كذلك لا يزالُ عَلَيْها أبديًّا)، وهذا منهم -يعني من أهل الحديث والأثر والسنة- هذا القول منهم لأجل إثبات الكمال للرب جل وعلا.
وقول المعتزلة والجهمية فيه تعطيل للرب عن أسمائه وصفاته؛ يعني أن الله جل وعلا كان بلا صفة وبلا أسماء، وأنه لما فعل وُجدت صفات الرب جل وعلا، وهذا نسبة النقص لله جل وعلا لأنّ الصفات هي عنوان الكمال، والله سبحانه وتعالى كمالاته بصفاته.
وأمّا قول الأشاعرة والماتريدية ومن نحى نحوهم، هذا أيضا فيه وصف الرب جل وعلا بالنقص؛ لأن أولئك يزعمون أنه متصف ولا أثر للصفة، ومعلوم أن هذا العلم المنظور الذي تعلقت به عندهم الأسماء والصفات، هذا العالم إنما وُجد قريبا، فوجوده قريب وإن كانت مدته أو عمره طويل لكنه بالنسبة إلى الزمن بعامة -الزمن المطلق- لا شك أنه قريب لهذا قال عليه الصلاة والسلام «إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء» جل وعلا فالتقدير كان قبل أن يخلق هذه الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وهي مدة محدودة، والله جل وعلا لا يحدّه زمان، فهو أول سبحانه وتعالى ليس قبله شيء جل وعلا، وفي هذا إقرار لأنه من جهة الأولية يتناهى الزمان في إدراك المخلوق، وننقل من الزمان المنسوب إلى الزمان المطلق، وهذا تتقاصر عقولنا عنه وعن إدراكه، وأما هذا العالم المنظور فإنه محدث وحدوثه قريب.
ولهذا نقول إن قول الآشاعرة والماتريدية بأنه كان متصفا بصفات وله الأسماء، ولكن لم تظهر آثارها ولم يفعل شيئا أن بعد وجد هذا العالم، نقول معناه - أن ثم زمانا مطلقا طويلا طويلا جدا ولم يكن الرب جل وعلا فاعلا، ولم يكن لصفاته أثر ولا لأسمائه أثر في المربوبات، ولا بد أن الله جل وعلا له سبحانه وتعالى من يعبده جل وعلا من خلقه، ولا بد أن يكون له جل وعلا مخلوقات؛ لأنه سبحانه فعّال لما يريد، وهذه صفة مبالغة مطلقة في الزمن كله؛ لأن (ما) اسم موصول وأسماء الموصول تعم ما كان في حيّز صلتها.
بقي أنْ يقال إن قولهم أراد ولكن إرادته كانت معلقة غير منجزة، ونقول هذا تحكم؛ لأن هذا مما لا دليل عليه إلا الفرار من قول الفلاسفة ومن نحى نحوهم بقدم هذا العالَم المنظور، وهذا الإلزام ولا يلزم أهل الحديث والسنة والأثر - لأننا نقول إن العوالم التي سبقت هذا العالم كثيرة متعددة لا نعلمها، الله جل وعلا يعلمها.
وهذا ما قيل إنه يسمى بقِدم جنس المخلوقات، أو ما يسمى بالقِدم النوعي للمخلوقات، وهذه من المسائل الكبار التي نكتفي في تقريرها بما أوردنا لكَ في هذا المقام المختصر.
المهم أن يتقرر في ذهنكَ أن مذهب الحديث والأثر في هذه المسألة لأجل كمال الربّ جل وعلا، وأن غير قولهم فيه تنقّص الرب جل وعلا بكونه معطَّلا أو لكونه سبحانه وتعالى معطلا أن يفعل وأن يظهر آثار أسمائه وصفاته قبل خَلْق هذا العالم المعلوم أو المنظور.
المسألة الثانية: أنّ الطحاوي رحمه الله كأنّه يميل إلى المذهب الثاني ؛ وهو مذهب الماتريدية ، وهذا من أغلاط هذه العقيدة التي خالف فيها مؤلفها منهج أهل الحديث والأثر ، هذا ظاهر كلامه كما اعترف به الشارح، ومن شرح هذه العقيدة من الماتريدية قرّروا هذا الكلام على أن كلامه موافق لكلام أبي منصور الماتريدي و الأشعري ومن نحى نحوهم.