قَالَ عُلَمَاء السّلف: " لَا يكون الرجل إِماما فِي الدّين حَتَّى يكون جَامعا لهَذِهِ الْخِصَال: يكون حَافِظًا للغات الْعَرَب، واختلافها، ومعاني أشعارها، حَافِظًا لاخْتِلَاف الْفُقَهَاء الْعلمَاء، وَيكون عَالما فَقِيها حَافِظًا للإِعراب وَالِاخْتِلَاف فِيهِ، عَالما بِكِتَاب اللَّه تَعَالَى وقراءته، وَاخْتِلَاف الْقُرَّاء فِيهَا. عَالما بتفسيره، ومحكمه ومتشابهه، وناسخه، ومنسوخه، وقصصه. عَالما بِأَحَادِيث رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، مُمَيّزا بَين صحيحها وسقيمها، ومتصلها ومنقطعها، ومراسيلها ومسانيدها ومشاهيرها وغرائبها، وبأحاديث الصَّحَابَة - رَضِي اللَّه عَنهُ -، ثُمَّ يكون ورعا، صاينا، صَدُوقًا، ثِقَة. يَبْنِي مذْهبه وَدينه عَلَى كتاب الله تَعَالَى وَسنة رَسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَإِذَا جمع هَذِه الْخلال فَحِينَئِذٍ يجوز أَن يكون إِماما فِي الْمذَاهب، وَجَاز أَن يجْتَهد (وَأَن) يعْتَمد عَلَيْهِ فِي دينه وفتاويه، وإِذَا لم يكن جَامعا لهَذِهِ الْخلال لم يجز أَن يكون إِماما فِي الْمَذْهَب، وَأَن يقلده النَّاس فِي فَتَاوِيهِ.
قَالَ بعض الْعلمَاء عقيب مثل هَذَا الْكَلَام: وإِذَا ثَبت هَذَا نَظرنَا فِي أَمر جمَاعَة ادعوا أَنهم أَصْحَاب مَذَاهِب واخترعوا مذاهبهم عَلَى عُقُولهمْ كالجبائي وَأبي هَاشم، والكعبي، والنجار، والنظام، وَابْن كلاب، وَمن نحا نحوهم. وَسَأَلنَا الْخَاص وَالْعَام عَن هَؤُلَاءِ، فَقُلْنَا: أَهَؤُلَاءِ أهل الْعلم كالصحابة رضوَان اللَّه عَلَيْهِم، وَالتَّابِعِينَ رَحْمَة اللَّه عَلَيْهِم؟ قَالُوا: (لَا) وَلَيْسوا بمعروفين من أهل الْعلم. قُلْنَا هَؤُلَاءِ من أهل الْفِقْه كالشافعي، وَأبي حنيفَة، وَمَالك، أمثالهم؟ قَالُوا: لَا وَغير معروفين فيهم. قُلْنَا: هَؤُلَاءِ من أهل الْأَدَب والمعرفة بلغات الْعَرَب، كَأبي عَمْرو بْن الْعَلَاء، والأصمعي، وَالْكسَائِيّ، وأمثالهم؟ قَالُوا: لَا وَغير معروفين فيهم. قُلْنَا هَؤُلَاءِ من أهل الإِعراب والنحو، كالخليل، وسيبويه، وَالْفراء، وأمثالهم؟ قَالُوا: وَغير معروفين فيهم. قُلْنَا: هَؤُلَاءِ من أهل الْعلم بِالْقُرْآنِ والقراءات كنافع، وَابْن كثير، وَأبي عَمْرو، وَحَمْزَة، وأمثالهم؟ قَالُوا: لَا وَغير معروفين فيهم. قُلْنَا: هَؤُلَاءِ من أهل الْمعرفَة بناسخ الْقُرْآن ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه كمجاهد، وَقَتَادَة، وَأبي الْعَالِيَة، قَالُوا: لَا وَغير معروفين فيهم. قُلْنَا: هَؤُلَاءِ من أهل الْعلم والمعرفة بِأَحَادِيث النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَأَحَادِيث الصَّحَابَة - رَضِي الله عَنهُ -، كالزهري، وَمَالك بْن أَنَس، وَيحيى بْن سعيد، وَعبد الرَّحْمَن بْن مهْدي، وَأحمد بْن حَنْبَل، وَيحيى بْن معِين؟ قَالُوا: لَا وهم لَا يَقُولُونَ بِالْحَدِيثِ قُلْنَا: هَؤُلَاءِ من أهل الزّهْد وَالْعِبَادَة كالحسن الْبَصْرِيّ، وفضيل بْن عِيَاض، وإِبْرَاهِيم بْن أدهم، وَيحيى بْن معَاذ، وأمثالهم؟ قَالُوا: لَا وَغير معروفين فيهم. قُلْنَا: هَل بنوا مَذْهَبهم عَلَى مَا بناه عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ من كتاب الله، وَحَدِيث رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؟ قَالُوا: لَا. قُلْنَا: فَمن أَي النَّاس هم؟ قَالُوا: من أهل القَوْل بِالْعقلِ. فَمن نظر بِعَين الْإِنْصَاف علم أَنه لَا يكون أحد أَسْوَأ مذهبا مِمَّن يدع قَول الله وَقَول رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَقَول الصَّحَابَة رضوَان اللَّه عَلَيْهِم، وَقَول الْعلمَاء وَالْفُقَهَاء بعدهمْ، مِمَّن يَبْنِي مذْهبه وَدينه عَلَى كتاب الله تَعَالَى، وَسنة رَسُوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَتبع من لَيْسَ بعالم بِكِتَاب اللَّه تَعَالَى وَسنة رَسُوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَيفَ لَا يَأْمَن أَن يكون مُتبعا للشَّيْطَان أعاذنا اللَّه من مُتَابعَة الشَّيْطَان. ( الحجة في بيان المحجة ) ( 1 / 333 )