حكم الشروع في المندوب
د. أيمن عبد الحميد عبد المجيد البدارين([*])
ملخص البحث:
المندوب الذي لا يعاقب تاركه، هل ينقلب واجباً يعاقب تاركه إذا شرع الشخص فيه، بأن تلبس بفعله وباشر عمله، فيحرم عندها قطعه؟ وإن قطعه وجب عليه قضاؤه؟
اختلف الأصوليون والفقهاء في هذه القاعدة فلم يوجب الشافعية والحنابلة المندوب بالشروع فيه، وأوجبه البعض مطلقاً، وفصل الحنفية والمالكية، فأوجبوه في بعض النوافل دون بعض، فقمت بالتعريف بالمسألة وبينت أهميتها وهدفها، وحررت محل النزاع وأسباب الخلاف فيها، وشروط وجوب النفل بالشروع عند القائلين به، كما بينت مذاهب العلماء وأدلتهم، وقد ترجح لدى بعض مناقشة الأدلة بقاء المندوب على حكمه الأصلي، فلا ينقلب واجباً بالشروع فيه.
المقدمة:
الأصل في المندوب: أنه يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه، لكن هل هذا الحكم يبقى ثابتاً حتى بعد الشروع في المندوب؟ أي الدخول فيه وبدء العمل به، أو التلبس به؟ بتعبير آخر هل ينقلب المندوب واجباً بمباشرة العمل به؟ فمن نوى صوم يوم نافلة كيوم الاثنين ولم ينو قضاء ولا التزاماً بنذر أوجبه على نفسه، ثم باشر فعلاً بالصوم بأن دخل جزء من النهار وهو صائم، فهل يجب عليه أن يكمل صومه ويحرم عليه قطعه إلا بعذر يبيح الفطر في الصيام الواجب كصيام رمضان؟ أم يبقى صومه مندوباً، فيحل له قطعه دون سبب مع كونه خلاف الأولى أو مكروه على أبعد تقدير، لأن المندوب لا يعاقب تاركه.
أو بتعبير آخر هل يبقى حكم المندوب الندب قبل الشروع فيه وبعده، أم يصبح للمندوب حكمان: حكم قبل الشروع فيه وهو الندب، وحكم بعد الشروع فيه وهو الوجوب، فيكون المندوب مندوباً قبل الشروع واجباً بعده، أي حكمه الندب أصالة، والوجوب تبعاً لعارض زائد عن ماهيته، وهو الشروع فيه والدخول في هذا الفعل المندوب، أياً كان هذا المندوب، في أي باب من أبواب الفقه.
هذا ما تحاول الدراسة الإجابة عليه من خلال عرض آراء العلماء في هذه المسألة الأصولية وأدلتهم، والموازنة بينها للوصول إلى الراجح في هذه القضية والقاعدة الخطيرة التي يمكن أن يتفرع عنها عشرات، بل مئات آلاف الفروع الفقهية، لأن القاعدة تنطبق على كل نافلة.
أهمية البحث:
هذه قاعدة أصولية عظيمة الخطر، واسعة التطبيق، كثيرة النفع، إذ يتفرع عنها عشرات بل مئات آلاف الفروع الفقهية، لأن المندوبات لا تحصى كثرة، سواء أكان النفل ثابتاً بنص خاص من كتاب أو سنة، أو كان ثابتاً بالإجماع، أو بالقياس، أو بالأدلة التبعية الأخرى، أو بالتفريع على أصول الشرع ومقاصده، فلا يوجد واجب لا يتعلق به مندوبات، ولا يوجد مندوب أو مستحب لذاته أو لغيره إلا وتنطبق عليه هذه القاعدة.
فهي قاعدة جليلة، تطبيقاتها هائلة، فلاشك أن نفعها عظيم، لأن كثرة التطبيقات هي أحد أهم معايير الأهمية في بحث القواعد الأصولية.
مشكلة البحث وأسئلته:
يحاول البحث معالجة مجموعة من المشاكل والإجابة على مجموعة من الأسئلة منها:
هل المندوب إذا شرع فيه صار واجباً؟ فالشروع في نفل العبادة هل هو سبب لوجوب إتمامه وقضائه إن فسد؟ وما هي اتجاهات الأصوليين وآرائهم في القاعدة؟
هل صحيح ما ينسب إلى الحنفية والمالكية من إطلاق القول: بأن الشروع في النفل يوجبه أياً كان هذا النفل؟ أم في المسألة تفصيل وتعيين لبعض النوافل دون بعض؟
ما الأدلة التي استدل بها كل فريق، وما أحقية ما استدلوا به عند عرضه على قواعد الشرع وأصوله.
ما الشروط الواجب توافرها في النفل كي يصبح واجباً بالشروع فيه عند القائلين بذلك؟
أين محل النزاع بالضبط بين الأصوليين في القضية موضوع الدراسة.
ما الأسباب التي أدت إلى الاختلاف بين القائلين بوجوب إتمام الندب بالشروع فيه والقائلين بعدم وجوبه؟ وهل للقاعدة تطبيقات فقهية تدل على أهميتها؟
هدف البحث:
يهدف البحث إلى أمور، منها:
تحرير محل النزاع بين الأصوليين في القاعدة موضوع الدراسة.
بذل الجهد في استقراء آراء العلماء في وجوب أو عدم وجوب إتمام النفل في حال الشروع فيه، وهل يصبح إتمامه واجباً أم يبقى على أصل الندب؟
تحقيق آراء المذاهب التي ينسب إليها إطلاق القول بوجوب إتمام النفل في حال الشروع فيه، وإثبات خطأ هذه النسبة، وأن المعتمد في هذه المذاهب غير ما اشتهرت نسبته إليها، بخاصة المذهب الحنفي والمالكي.
محاولة استقراء أدلة الفرقاء ومناقشتها، للوصول إلى الراجح في هذه القضية والقاعدة الأصولية العظيمة الخطر والواسعة التطبيق.
بيان شروط وجوب إتمام النفل عن القائلين به.
الوقوف على أهم الأسباب التي أدت إلى الاختلاف بين القائلين بوجوب إتمام الندب بالشروع فيه، والقائلين بعدم وجوبه.
الإسقاط الواقعي للقاعدة على الفروع الفقهية من خلال ضرب مجموعة من الأمثلة التطبيقية الفقهية في نهاية الدراسة التي تعطي مزيد بيان وتوضيح للقاعدة وكيفية إعمالها.
تقسيم البحث:
قسمت البحث إلى تمهيد وتسعة مطالب: تضمن التمهيد: توطئة للبحث، بيان أهميته، هدفه، مشكلته، تقسيمه، الدراسات السابقة حول القاعدة، أما المطالب فجاءت على النحو التالي:
المطلب الأول: التعريف بموضوع البحث.
المطلب الثاني: تحرير محل النزاع.
المطلب الثالث: مذاهب العلماء في وجوب المندوب بالشروع فيه.
المطلب الرابع: أسباب اختلاف الأصوليين.
المطلب الخامس: شروط وجوب النفل بالشروع فيه عند القائلين به.
المطلب السادس: أدلة المذاهب، وقسمته إلى فرعين عرضت فيهما أدلة كل مذهب من المذاهب.
المطلب السابع: المناقشة والترجيح، المطلب الثامن: التطبيقات على القاعدة.
وختمت البحث بذكر أهم نتائج البحث، وتوصيات الباحث، وذكر المراجع والمصادر مرتبة هجائياً بحسب أسماء مؤلفيها.
الدراسات السابقة:
لم أعثر على دراسة مستقلة بحثت قضية الدراسة.
المطلب الأول
التعريف بموضوع البحث
المندوب في اللغة مأخوذ من ندب، وجميع الألفاظ المشتقة من هذا الجذر ترجع إلى معان هي: الأثر، ومنه الندب أثر الجرح. والجمع أنداب، والثاني: الخطر، ومنه: أندب نفسه، خاطر بها، والثالث: يدل على خفة في الشيء، ومنه رجل ندب أي خفيف([1])، إضافة إلى معنى الطلب، إذ يطلق في اللغة على المدعو إليه([2]).
ومن هذين المعنيين الأخيرين أخذ معنى الندب اصطلاحاً، لأن المندوب مطلوب فعله، وهذا الطلب فيه خفة على المكلف، إذ يطالب بفعله لا على سبيل الحتم والإلزام، ولا يعاقب على تركه، فاجتمع فيه الطلب والخفة أي السهولة.
فالندب: هو ما طلب الشارع فعله لا على سبيل الحتم والإلزام، ومرادهم بنفي الحتم والإلزام نفي العقاب عمن تركه مع لزوم الثواب تفضلاً من الله عز وجل على من فعله، فهو: ما يثاب فاعله، ولا يعاقب تاركه.
فللندب تعريفان، تعريف بالصفات الذاتية وهو: "ما طلب الشارع فعله طلباً غير جازم"([3])، وهو تعريف حدي، والثاني: تعريف بالأثر وهو: "ما يثاب على فعله، ولا يعاقب على تركه"([4]) وهو تعريف رسمي، لأن الأثر خارج عن الماهية، ومع ذلك فالتعريف الرسمي أسهل وأوضح، وهو جامع مانع لا اعتراض عليه، كاف في التعبير عن الندب، لأن ترتب الثواب على الفعل لا يكون إلا من مطلوب، وعدم ترتب العقاب علي الترك لا يكون إلا إن كان الطلب غير جازم، ويمكن أن يجمع التعريفان بالقول إن المندوب هو:
ما طلب الشرع فعله طلباً غير جازم، بحيث يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه.
واستخدام بعضهم الحمد أو المدح والذم بدل الثواب والعقاب، فعرفه بأنه ما يحمد فاعله ولا يذم تاركه، وقيد "يحمد" خرج به الحرام والمكروه فإنه يحمد تاركهما، وكونه لا يذم تاركه خرج به الواجب فإن تاركه يذم، وقيد "مطلقاً" ليخرج بذلك خصال الكفارة والواجب الموسع وفرض الكفاية، لأن فاعله يمدح ولا يذم تاركه. على أن قيد مطلقاً يغني عنه قولهم "لا يذم" يفيد العموم، لكونه نكرة في سياق النفي([5]).
فالإتيان بالمندوب موجب للثواب([6]) تفضلاً من الله عز وجل، وهذا الثواب في المندوب أقل منه في الواجب، لقوله صلى الله عليه وسلم عن رب العزة عز وجل: (وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلى مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه) ([7]). والمراد بالشروع: هو الدخول في العبادة دخولاً معتبراً شرعاً وفق الشروط المقررة في الشروع لكل عبادة، فلو أن مكلفاً دخل في عبادة فهل يجب عليه إتمامها أم لا؟
فمن شرع في صلاة نافلة كسنة الظهر القبلية (راتبة الظهر) – مثلاً – فهل ينقلب حكم النافلة بدخوله وشروعه فيها بتكبيرة الإحرام من الندب إلى الوجوب فيحرم عليه قطعها إلا لسبب يبيح قطع الواجب، أم يبقى الحكم على أصله، وهو سنية الركعتين قبل فريضة الظهر، فيجوز قطعها ولو لغير عذر([8])؟
وليتنبه إلى أن المندوب والمستحب والفضيلة والنفل والتطوع والسنة عند جماهير أهل العلم من الفقهاء الأصوليين([9]) ألفاظ مترادفة، أي أسماء لمعنى واحد، وحكمها جميعاً الثواب على الفعل، وعدم العقاب على الترك، وذهب بعض أهل العلم إلى أن المندوب والمستحب والتطوع والسنة غير مترادفة ثم تفرقوا بعد ذلك إلى مذاهب: فذهب بعضهم إلى أن الفعل إن واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم فهو السنة، فإن فعله مرة أو مرتين فهو المستحب، أو لم يفعله صلى الله عليه وسلم وهو ما ينشئه الإنسان باختياره من الأوراد والنوافل المطلقة فهو التطوع، وفيل: إن النفل والتطوع لفظان مترادفان، والسنن والمستحب ونحو ذلك أنواع لها، وقيل: السنة: ما استحب فعله وكره تركه، والتطوع: ما استحب فعله ولم يكره تركه، وقيل: السنة ما فعله صلى الله عليه وسلم، والمستحب ما أمر به، سواء أفعله أم لا، أو فعله ولم يداوم عليه، وقيل: السنة ما ترتب كالرواتب مع الفرائض، والنفل والندب ما زاد على ذلك، وقيل: النفل قريب من الندب إلا أنه دونه في الرتبة، وقيل: ما ارتفعت رتبته في الأمر وبالغ الشرع في التخصيص منه يسمى سنة، وما كان في أول هذه المراتب تطوعاً ونافلة، وما توسط بين هذين فضيلة ومرغباً فيه([10]).
والخلاف لفظي لا يظهر أثره إلا في كثرة الثواب وقلته([11])، ولأن حاصله جواز أو عدم جواز وضع اسم بدل آخر في التعبير عن المندوب، كأن نسمي المندوب سنة أو تطوعاً أو العكس؟ فمنعه بعضهم، وذهب أكثر أهل العلم إلى جوازه([12]).
فالقاعدة في المحصلة تنطبق على جميع الأفعال التي تنطبق عليها أحد هذه الأسماء في لسان الفقهاء، فهي أسماء لمسمى واحد، أو ألفاظ مشتركة لنفس المعنى، والعبرة بالقصود والمعاني لا للألفاظ والمباني، فهل الشروع في المندوب أو المستحب أو الفضيلة أو النفل أو التطوع أو السنة أو غيرها من الاصطلاحات المشتركة – التي يثاب فاعلها ولا يذم تاركها – يجعل هذا الفعل واجباً، أي فيجب إتمامه، ويحرم قطعه إلا لعذر يبيح قطع الواجب، ويجب عليه قضاؤه إن قطعه؟ هذا محور الدراسة والقاعدة التي يحاول هذا البحث الإجابة عنها والإحاطة بما يتعلق بها.
المطلب الثاني
تحرير محل النزاع
اتفق العلماء على أن من أحرم بالحج والعمرة المندوبين وجب عليه إتمام أفعالهما، فلا يخرج منهما بالإفساد، وهذا متفق عليه عند الجميع، إلا إذا اشترط عند الإحرام وحبسه حابس، أو أحصر ومنع من أعمالها فيفدي ويتحلل([13])، قال العيني: "وبالاتفاق على أن حج التطوع يلزم بالشروع"([14]). قال ابن القيم: "إن الله سبحانه أمر بإتمام الحج والعمرة، فعلى من شرع فيهما أن يمضي فيهما وإن كان متطوعاً بالدخول باتفاق الأئمة، وإن تنازعوا فيما سواه من التطوعات، هل تلزم بالشروع أم لا"([15])، بل نقل بعضهم إجماع أهل العلم على أن من أحرم بحج أو عمرة وجب عليه الإتمام، لكن وجوب الإتمام بعد الشروع لا يستلزم ابتداء الوجوب([16]).
واختلف العلماء في بقية الأفعال المندوبة التي طلب الشارع فعلها لا على سبيل الحتم والإلزام، بحيث يترتب على فعلها الثواب ولا يترتب على تركها العقاب، هل يجب إتمامها بالشروع فيها أم لا، ويترتب على ذلك وجوب قضائها في حال قطعها عند القائلين بالوجوب وعدم ذلك عند القائلين بعدمه.
ثم هل موضع البحث هو عين المندوب أم الشروع فيه، أي هل يصبح نفس المندوب واجباً بالشروع فيه، أم أن الوجوب لا يتعلق بعين الفعل المندوب وإنما بعين الشروع فيه وإتمامه، أي يبقى المندوب مندوباً، والذي يصبح واجباً هو إتمامه.
اختلف القائلون بلزوم الشروع في حكم النفل بعد الشروع فيه على أقوال:
النفل بالشروع فيه يصير واجباً، وهو ظاهر كلام الأكثر([17])، وممن نص على ذلك: الإمام التفتازاني بقوله: "النفل يلزم بالشروع فيه([18])، والبجيرمي في قوله: "النفل يلزم بالشروع"([19])، وابن حجر العسقلاني في قوله: "واحتجوا به بأن التطوع يلزم بالشروع"([20])، ونسبة الكاساني للحنفية بقوله: "النفل يصير واجباً عندنا بالشروع"([21])، ويدل على أن محل الكلام في عين المندوب فيه وتحوله إلى الوجوب، لا أن المسألة متعلقة بالشروع فقط، قول الإمام الرازي: "اختلفوا في أن المندوب هل يصير واجباً بعد الشروع فيه، فعند أبي حنيفة رحمة الله عليه أن التطوع يلزم بالشروع، وعند الشافعي رضي الله عنه لا يجب"([22])، ومن المعاصرين: محمد المالكي بقوله: "الوجوب في النوافل بالشروع"([23])، وعبد الكريم زيدان بقوله: "المندوب إذا شرع فيه صار واجباً"([24]). وهذه بعض العبارات التي نقلتها سريعاً، ولو أردت مزيد بسط لعباراتهم لتبين أن قولهم هو قول المعظم.
النفل يبقى نفلاً والذي يجب هو الإتمام، فالوجوب يتعلق بإتمام العبادة بعد الشروع فقط([25])، يفهم هذا من كلام عدد من الفقهاء كقول الحموي: "إذا شرع في الأربع التي قبل الظهر أو قبل الجمعة أو بعدها ثم قطع في الشفع الأول والثاني يلزمه الأربع أي قضاؤها، قلت – الحموي -: ولولا وجوب المضى لما لزم القضاء"، وقول الدسوقي: "النفل يلزم إتمامه بالشروع فيه"([26]). وهذا قول الأقل كما يفهم من استقراء عباراتهم.
وأتوقف عن الترجيح بين الاتجاهين، وأرى أن المسألة بحاجة إلى مزيد تدقيق ونظر.
وليتنبه إلى فرق جوهري بين الحنفية والمالكية، وهو أنهم اتفقوا على أن من قطع نافلة بعد أن شرع بها عامداً لا ناسياً، ولم يكن ثمة عذر يمنع إتمامها، فهذا يجب عليه قضاء هذه النافلة عند الطرفين، أما لو قطعها ناسياً أو كان ثمة عذر يمنع إتمامها فقطعها لأجله فيجب عليه قضاؤها عند الحنفية، ولا يجب القضاء عند المالكية([27]).
المطلب الثالث
مذاهب العلماء في وجوب المندوب بالشروع فيه
المذهب الأول:
لا يلزم النفل بالشروع فيه، فلا يجب إتمامه ولا يعاقب على تركه، وإن قطعه لا يجب عليه قضاؤه، وهو قول سفيان الثوري، وإسحاق، وهو مذهب مجاهد، وطاؤس، وهو قول ابن عباس، وروي عن سلمان، وأبي الدرداء وغيرهم([28])، واعتبره الماوردي ثابتاً عن علي بن أبي طالب، وابن عباس وجابر بن عبد الله([29]).
وهو ما رجحه السادة الشافعية، والإمام أحمد في رواية عنه رجحها أكثر الحنابلة، ومنهم: القاضي أبو يعلى، فهو مخير بين فعل النفل وتركه وإن كان فعله أولى، فإذا شرع فيه فهو مخير فيما لم يأت تحقيقاً لمعنى النفلية، إذ النفل لا ينقلب فرضا، وإتمامه لا يكون إسقاطاً للواجب بل أداء للنفل([30])، حتى قعد الشافعية قاعدة "الشروع لا يغير حكم المشروع فيه غالباً"([31])، والحنابلة قاعدة "لا يلزم المندوب بشروع، بل هو مخير فيه بين إتمامه وقطعه"([32]).
فمن قطع عبادته المندوبة لعذر لم يكره، وإن قطعها لغير عذر كره على الأصح، ومن العذر: أن يعز على من المضيف امتناع الضيف من الأكل، فعندها لا يكره على الصائم صوم ندب أن يفطر([33]). وليس للشافعية نفل مطلق يستحب قضاؤه إلا من شرع في نفل صلاة أو صوم ثم أفسده فإنه يستحب له قضاؤه كما ذكره الرافعي في باب صوم التطوع([34]). وقال الشافعية بلزوم عبادات أربع أخرى بالشروع فيها فاستثنوها من أصلهم – إضافة إلى الحج – وهي:
الأضحية: فإنها سنة، وإذا ذبحت لزمت بالشروع، وقد نص عليه الشافعي.
الجهاد: يجب إتمامه على الشارع، فيه حتى وإن كان تطوعاً.
صلاة الجنازة: وهو المعتمد، خلافاً لإمام الحرمين الجويني الذي ذهب إلى أن له قطعها إذا كانت لا تتعطل بقطعه لها.
لو شرع المسافر في الصلاة بنية الإتمام لزمه، ولا يسوغ له القصر بعد ذلك، بخلاف ما لو شرع في الصيام فله الفطر على الصحيح([35]).
كما إن حكم سائر التطوعات عند الحنابلة حكم الصوم فيما تقدم، عدا الحج والعمرة فإنها يلزمان بالشروع، وعن أحمد أنه قال: الصلاة أشد – يعني من الصوم – فلا يقطعها. قيل: له، فإن قطعها قضاها؟ قال: إن قضاها فليس فيه اختلاف. فمال الجوزجاني الحنبلي([36]) من هذا إلى أنها تلزم بالشروع، لأنها ذات إحلال وإحرام فأشبهت الحج، وعامة الأصحاب على خلافه، وكلام أحمد لا دلالة فيه على وجوب القضاء، بل على تأكد استحبابه([37]). وذهب الزاهدي الحنفي([38]) أنه لو شرع في سنة من السنن أو التراويح لا يلزمه المضي ولا قضاؤها إذا أفسد([39]).
المذهب الثاني:
يلزم النفل بالشروع فيه مطلقاً، ويجب إتمامه، ويعاقب على تركه، وإن قطعه يجب عليه قضاءه، وقد نسب هذا الرأي إلى أبي بكر الصديق، وابن عباس، وكثير من الصحابة والتابعين، الحسن البصري، ومكحول، والنخعي، وهو المشهور من مذهب السادة الحنفية والمالكية، وقالوا: إن من شرع في نافلة وجب عليه إتمامها، ولا يجوز له الخروج منها وإبطالها، فإن خرج منها وجب عليه قضاءها([40])، وقالوا في بيان تعميمها وإطلاقها: "العبادة تلزم بالشروع كما تلزم بالنذر"([41])، وإن كان ابن عابدين لم ينسب لمن ورد ذكرهم من الصحابة والتابعين إطلاق القول بذلك، وإنما "الشروع في نفل العبادة التي تلزم بالنذر ويتوقف ابتداؤها على ما بعده في الصحة"([42]). وروى الطحاوي عن ابن عباس وعبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – أنهما كانا يريان القضاء واجباً من إفساد صوم التطوع([43]).
وعن الإمام أحمد رواية أخرى غير معتمدة بوجوب إتمام صوم التطوع ولزوم القضاء إن أفطر، وعنه رواية ثالثة بأنه يلزم إتمام الصلاة دون الصوم، لأنها ذات إحرام وإحلال([44])، فهذه الرواية تدل على أن الصلاة تلزم بالشروع ومال الجوزجاني من الحنابلة إليها، وقال: الصلاة ذات إحرام وإحلال فلزمت بالشروع كالحج([45])، وأما ما عدا ذلك كالصدقة المتطوع بها والقراءة والأذكار وجميع النوافل فلا يلزم إتمامها بالشروع فيها اتفاقاً([46]).
تحقيق مذهب الحنفية والمالكية:
بعض النوافل تصبح واجبة بالشروع فيها دون بعض. هذا هو تحقيق مذهب السادة الحنفية والمالكية، فقد اشتهر القول بإطلاق وجوب إتمام المندوب بالشروع فيه لعموم السادة الحنفية والمالكية، وهي نسبة مع ذيوعها واشتهارها وانتشارها إلا أنها بعيدة كل البعد عن التحقيق، حيث أن القول بالإطلاق موجود في هذين المذهبين، لكنه ليس المعتمد فيهما. ولا بد من التنبيه إلى أن من أطلق النسبة للحنفية والمالكية بإطلاق تحول النفل إلى الوجوب بالشروع فيه صنفان:
الأول: بعض علماء المذهبين: وهذا الإطلاق منهم يحمل على ما قيده به محققو المذهب، أي فلا يحمل ولا يفهم على إطلاقه، فأي إطلاق لقول في مذهب إنما يحمل على ما قيده به محققوه وأساطينه، فلا يصح نسبة إطلاق القول إلى الحنفية والمالكية في هذه المسألة، وعلى أبعد تقدير يمكن أن يحمل هذا الإطلاق على أنه هو قول في المذهب الحنفي والمالكي مع بعده فيما أرى.
الثاني: علماء من غير علماء المذهبين: ولا تؤخذ المذاهب إلا من أربابها، فأي نسبة من غير علماء المذهبين لهما إنما هي نسبة خطأ يأتي تصحيحها من خلال الرجوع إلى الكتب المعتمدة في كل مذهب، وعرضها عليها، ليتميز صحة النسبة من خطئه، فأي نسبة إلى الحنفية والمالكية بإطلاق القول في تغير حكم المشروع بالشروع إنما هي نسبة خطأ.
فما يحب على العبد عند الحنفية والمالكية بالتزامه نوعان:
ما يجب بالقول، وهو النذر.
ما يجب بالفعل، وهو الشروع في النوافل([47]).
أما النسبة للحنفية بإطلاق القول بوجوب المندوب بالشروع فيه عند تدقيق النظر في كتبهم المعتمدة نجد أن هذا الإطلاق لا يصح مطلقاً، فليس كل نافلة تلزم بالشروع عند الحنفية ما لم تتحقق في هذه النافلة وصف هو علة الوجوب وهو "أن العبادة لا تلزم بالشروع ما لم تلزم بالنذر"([48])، فقد جعل الحنفية كون العبادة مما تلتزم بالنذر علة لوجوب إتمامها، ووجوب قضائها إن أفسدها، وممن نص على ذلك: علاء الدين البخاري بقوله: "لا تضمن القربة بالشروع المضاف إلى عبادة لا يمضي في فاسدها، وإنما تضمن بالشروع في عبادة تلتزم بالنذور، ولا بد من إضافة الحكم إلى هذا الوصف، لأن الوصف إنما يذكر علة للحكم، وما ذكر لا يصلح علة للوجوب فلا بد من إضافته إلى وصف يصلح علة للوجوب، وهو أنه مما يلتزم بالنذر"([49])، فالشروع عند الحنفية ملزم كالنذر إلا أن النذر ملزم بذاته، والشروع لصيانة المؤدى إلى السنن والفروض([50])، كما ينبغي التنبيه على أن ما وجب بالشروع في النافلة ليس أقوى مما وجب النذر([51]).
فليس كل نافلة تلزم بالشروع عند الحنفية، بل التحقيق حصرها في سبع عبادات، جمعها الناظم([52]):
من النوافل سبع تلزم الشارع أخذاً لذلك مما قاله الشارع
صوم صلاة طواف حجة رابععكوفه عمرة إحرامه([53]) السابع([54])
والمراد بـ "الشارع" الأولى هو المكلف الذي يشرع في العبادة، وبالشارع الثانية نص الكتاب والسنة، وفيه مع ما قبله الجناس التام، وقوله: "طواف" أي يلزمه إتمام سبعة أشواط بالشروع فيه بمجرد النية، إلا إذا شرع فيه يظن أنه عليه، وقوله: "عكوفه" الاعتكاف يلزم بالشروع مفرع على القول الضعيف على رواية تقدير الاعتكاف النفل بيوم، أما على ظاهر الرواية من أن أقله ساعة فلا يلزم، بل ينتهي بالخروج من المسجد، وقوله: "إحرامه" أي لو نوى الإحرام من غير تعيين حجة أو عمرة صح ولزمه، وله أن يجعلها لأيهما شاء قبل أن يشرع في أعمال أحدهما، وبهذا غاير الحج والعمرة وإن استلزماه فاندفع التكرار([55]).
التحقيق أن المعتمد في المذهب المالكي – كما حققه القرافي والرعيني والصاوي وغيرهم – أن القاعدة ليست على إطلاقها وإنما تحقيق المذهب أنه لا تلزم العبادة المندوبة بالشروع إلا في سبع عبادات: الصلاة، والصوم، الحج، العمرة، الاعتكاف، الإئتمام، طواف التطوع، بخلاف الوضوء والصدقة والوقوف والسفر للجهاد غير ذلك، فمن شرع في تجديد الطهارة يجوز له ترك الإكمال لذلك الوضوء، ومن شرع بصدقة التطوع له الرجوع بها، ومن شرع في بناء وقف أو مسجد أو تلاوة القرآن له إبطال ذلك كله([56]).
وضابط النافلة التي تجب بالشروع عند المالكية أن "كل عبادة توقف أولها على آخرها يجب إتمامها" أصله الحج فيجب إتمامه والعمرة والصلاة والصوم والاعتكاف والطواف بخلاف الوضوء وقراءة القرآن والذكر والصدقة والوقوف والسفر للجهاد ونحوها([57]).
وقد نظمها ابن عرفة المالكي بقوله:
صلاة وصوم ثم حج وعمرة طواف عكوف وائتمام([58]) تحتما
وفي غيرها كالطهر والوقف خيرنفمن شاء فليقطع من شاء تمماً([59])
ونظمها الحطاب الرعيني بقوله:
قف واستمع مسائلاً قد حكموا بكونها بالابتداء تلزم
صلاتنا وصومنا وحجنا وعمرة لنا كذا اعتكافنا
طوافنا مع ائتمام المقتدفيلزم القضاء بقطع عامد([60])
من خلال ما سبق يتبين اتفاق الحفية مع المالكية في تعيين العبادات التي تلزم بالشروع.
وليتنبه إلى أمر دقيق عند القائلين بلزوم العبادة بالشروع فيها، وهو أن الشروع في العبادة ليس ملزماً لذاته، بل لصيانة ما أدى([61]) من العبادة عن البطلان بقطعها، فكأنه بشروعه بالنافلة تعلق حق الله فيها، فلصيانة هذا الحق حرم قطعها، ووجب إتمامها، والله تعالى أعلم.
وعمم المالكية المنع بمنع قطع العقود التي اعتبر الشرع في انعقادها الشروع فيها بعد الصيغة تلزم بالشروع كالجعل والقراض، لأن أصل العقود من حيث هي اللزوم، وأن ما ثبت في الشرع أو عند المجتهدين أنه مبني على عدم اللزوم بالقول، فإنما ذلك لأن في بعض العقود خفاء الحق الملتزم به فيخشى تطرق الغرر إليه، فوسع فيها على المتعاقدين فلا تلزمهم إلا بالشروع في العمل، لأن الشروع فرع التأمل والتدبر، ولذلك اختلف المالكية في عقود المغارسة والمزارعة والشركة هل تلحق بما مصلحته في لزومه بالقول، أو بما مصلحته في لزومه بالشروع؟([62]).
وليتنبه إلى فرق جوهري بين الحنفية والمالكية، وهو أنهم اتفقوا على أن من قطع نافلة بعد أن شرع بها عامداً لا ناسياً، ولم يكن ثمة عذر يمنع إتمامها فهذا يجب عليه قضاء هذه النافلة عند الطرفين، أما لو قطعها ناسياً أو كان ثمة عذر يمنع إتمامها فقطعها لأجله فيجب عليه قضاؤها عند الحنفية، ولا يجب القضاء عند المالكية([63]).
فإن قلت: إن الواجب المتصل كالصلوات الخمس وصوم رمضان يجب قضاؤهما مطلقاً سواء أقطعهما لعذر أم دون عذر، فلم لا يقضي المالكية النوافل مطلقاً وإن قطعت بعذر؟ أجاب القرافي: أن المشهور في علم الأصول: أن القضاء في الواجب المتصل مع العذر وعدمه، لقوله تعالى: ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة: 184]، والمرض عذر، وقد وجب معه القضاء، فلذلك أوجبنا القضاء مطلقاً، ولم يأت دليل يوجب القضاء في النوافل إن قطعت، بل ورد الدليل بوجوب القضاء في حالة قطع النافلة دون عذر خاصة فاقتصر عليها، لأن وجوب القضاء تبع للأمر به، وهذا الدليل هو قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لعائشة وحفصة رضي الله عنهما في صوم التطوع: (اقضيا يوماً مكانه) ([64]) وكانتا عامدتين، فبقيت حالة فير العمد لا قضاء فيها على مقتضى الأصل، لأن القضاء إنما يجب بأمر جديد فيقتصر به حيث ورد([65]).
المطلب الرابع
أسباب اختلاف الأصوليين
يرجع اختلاف الأصوليين في القاعدة إلى أسباب عدة أهمها:
أولاً: التعارض الظاهري بين الأدلة، فبينما تجد آثاراً تأمر بقضاء ما قطع من النوافل – مثلاً – تجد آثاراً تدل على خلاف ذلك، كما تجد آثاراً تدل على الإنكار على قطع المندوب تجد آثاراً قطع النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه نافلة لا لعذر([66]).
ثانياً: الاختلاف في تعميم قوله تعالى: ﴿ولا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ﴾ [محمد: 33] هل يشمل كل عمل فيشمل النافلة؟ أم يقتصر على الواجب؟ أو بتعبير آخر هل هو على عمومه؟ أم أنه عام مخصوص؟
ثالثاً: اختلافهم في صحة قياس النافلة على النذر من عدمه، فمن قاس النافلة على النذر قال بوجوب إتمامها وقضائها إن قطعها، ومن لم يقس لم يوجب.
رابعاً: اختلافهم في توجيه أحاديث أمر النبي صلى الله عليه وسلم لزوجاته بالقضاء هل هو على سبيل الوجوب أم الندب، وهل الأمر بالقضاء يقتضي الوجوب أم لا؟
خامساً: اختلافهم في تصحيح وتضعيف بعض الآثار الدالة على لزوم قضاء النافلة.
سادساً: اختلافهم في فهم بعض الآيات كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ [المائدة: 1]، وقوله: ﴿ورَهْبَانِيَّ ً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا﴾ [الحديد: 27].
سابعاً: الاختلاف في فهم الاستثناء في حديث الأعرابي الآتي والذي جاء فيه (إلا أن تطوع)، هل هو استثناء متصل أم منفصل؟ فمن قال: إنه متصل قال بوجوب إتمام النافلة، ومن قال: إنه منفصل لم يقل بذلك.
المطلب الخامس
شروط وجوب النفل بالشروع عند القائلين به
اشترط الحنفية لوجوب إتمام النافلة بالشروع شروطاً:
أن يكون الشروع صحيحاً، فلو شرع في عبادة فاسدة فإنه لا يجب إتمامها ولا قضاؤها([67])، كأن اقتدى متنفل بأمي لا يحسن قراءة الفاتحة أو بامرأة([68])، لذلك ذهبوا إلى أن الشروع في العبادة بدون شرطها لا يصح فالاعتكاف يصح بدون الصوم، ولهذا لو قال: لله على أن اعتكف شهر رجب، فإنه كلما رأى الهلال يجب عليه الدخول في الاعتكاف ولا صوم في ذلك الوقت، ولو كان شرطاً لما جاز بدون، فضلاً عن الوجوب إذ الشروع في العبادة بدون شرطها لا يصح([69]).
أن تكون العبادة مما يتوقف ابتداؤها على ما بعده في الصحة([70])، أي لا يصح أولها إلا إذا صح آخرها، ولا يصح آخرها إلا إذا صح أولها كالصلاة والصوم، فإن كان أولها لا يعتمد في الصحة والقبول على آخرها، ولا آخرها على أولها فلا يكون الشروع فيها موجباً لإتمامها، كالصدقة وقراءة القرآن والاعتكاف، فخرج بهذا الشرط الوضوء، وسجدة التلاوة، وعيادة المريض، وسفر الغزو، ونحوها مما لا يجب بالنذر، لكونه غير مقصود لذاته، وخرج ما لا يتوقف ابتداؤه على ما بعده في الصحة نحو الصدقة والقراءة، وكذا الاعتكاف على قول محمد بن الحسن، ودخل فيه الصلاة والصوم والحج والعمرة والطواف والاعتكاف على قولهما([71]).
أن يقصد هذه العبارة، فاحترز بهذا الشرط عن الشروع ظناً، كما إذا ظن أنه لم يصل فرضاً فشرع فيه فتذكر أنه قد صلاة صار ما شرع فيه نفلاً لا يجب إتمامه، حتى لو نقضه لا يجب القضاء([72]).
أن يشرع في النفل في وقت مستحب، فإذا شرع فيه في وقت الكراهة ثم أفسده فقد اختلف الحنفية في لزوم القضاء عليه، فالمشهور من الرواية وجوب القضاء، وذهب بعضهم إلى عدم الوجوب([73]).
أن يكون مكلفاً، فالصبي إن شرع في عبادة من العبادات لا تصبح واجبة عليه، لأنها تكون مندوبة في حقه، فلا يتعلق الوجوب بذمته.
أن لا يلزمه القضاء بغير صفة الأداء، وهو شرط اشترطه الإمام أبو حنيفة، وخالفه الصاحبان، واعتبرا أن الأصل إيجاب القضاء دون صفة الأداء، مثاله: أن الرجل إذا صلى مع الإمام في العيد ركعة ثم تكلم فلا قضاء عليه في قول أبي حنيفة، وعند الصاحبين عليه قضاء ركعتين، وجه قولهما أنه بالشروع التزم أداء ركعتين ولو التزم ذلك بالنذر كان عليه أداؤهما فكذلك إذا التزم ذلك بالشروع، وقياساً بسائر الصلوات، وأبو حنيفة يقول: إنه قصد الإسقاط لا الالتزام، ألا ترى أن من شرع في صلاة الجمعة مع الإمام ثم تكلم لم يلزمه إلا ما يلزمه قبل الشروع، وهو أداء الظهر، فكذلك هنا، يوضحه أنا لو أوجبنا عليه القضاء فإما أن يقضي مع التكبيرات أو بدون التكبيرات، ولا يمكنه أن يقضي مع التكبيرات، لأن ذلك غير مشروع إلا في صلاة العيد، والمنفرد لا يصح أن يصلي العيد منفرداً، ولا يجوز أن يقضيه بدون التكبيرات، لأن القضاء بصفة الأداء، ومثلها من شرع في صوم يوم النحر ثم أفسده لم يلزمه القضاء في قول أبي حنيفة، وعندهما يلزمه قضاء يوم آخر، وهذا في المعنى متقارب([74]).
أن يشرع فيه وهو عليه فعلاً لا ظناً، فمن شرع في صوم على ظن أنه عليه، ثم تبين أنه ليس عليه فليس عليه إتمامه ولا قضاؤه إذا تركه، لكن الأفضل قضاؤه، مثاله: أن من شرع في صوم الكفارة ثم أيسر قبل تمامه ليطعم لم يجز صومه، لأنه قدر على الأصل قبل حصول المقصود بالبدل فلا يعتبر البدل، والأفضل أن يتم صوم ذلك اليوم، فلو أفطر لا يلزمه القضاء عند أبي حنيفة وصاحبيه، خلافاً لزفر الذي أوجب القضاء([75])، وهذا يشمل الفرض والنفل، فتقيد بعضهم لهذا الشرط بالفرض هو تقييد اتفاقي، لأنه لو شرع في النفل على ظن أنه عليه ثم علم أنه لا شيء عليه كان متطوعاً، والأحسن أنه يتمه، فإن أفطر لا قضاء عليه، والصلاة كالصوم في هذا([76]).
أن يشرع في النافلة وهو قادر على إتمامها، فمن شرع في صوم التطوع أو صلاته قادراً على إتمامها حيث يجب عليه إتمامها، فإن لم يقدر لم يجب، وله أجر بقدر عمله([77]).
المطلب السادس
أدلة المذاهب ومناقشتها
الفرع الأول
أدلى القائلين: أن المندوب لا ينقلب واجباً بالشروع ومناقشتها
استدل الجمهور على خلاف ما قرره المخالفون بأدلة:
الدليل الأول: ما رواه أبو أيوب عن جويرية بنت الحارث رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة فقال: (أصمت أمس)؟ قالت: لا. قال: (تريدين أن تصومي غداً؟) قالت: لا. قال: (فافطري). وقال حماد بن الجعد سمع قتادة حدثني أبو أيوب أن جويرية حدثته فأمرها فأفطرت)([78]).
وجه الدلالة من الحديث: أن أمره إياها أن تفطر بعد أن شرعت فيه يدل على أن الشروع في العبادة لا يستلزم الإتمام في الصوم ويقاس على الصوم غيره.
الدليل الثاني: بما روته أم هانئ رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: (الصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر)([79]).
وجه الدلالة: أن التخيير للمتطوع ينافي الوجوب، فلا يلزم بالشروع، فالتمييز يقتضي الإباحة، ولو كان الإتمام واجباً لما خيره صلى الله عليه وسلم بين الصوم والفطر، ويقاس على الصوم غيره من العبادات، إذ لا فرق.
الدليل الثالث: عن عائشة أم المؤمنين قالت (دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: "هل عندكم شيء"؟ فقلنا لا. قال: فإني – إذاً – صائم". ثم أتانا يوماً آخر فقلنا: يا رسول الله أهدب لنا حيس. فقال "أرينيه فلقد أصبحت صائماً". فأكل)([80])، وفي رواية عن عائشة أم المؤمنين قالت: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: (هل عندكم من طعام؟) قلت: لا. قال: (إذا أصوم). قالت: ثم دخل مرة أخرى، فقلت: قد أهدي لنا حيس. فقال: (إذاً أفطر اليوم وقد فرضت الصوم)([81]).
وجه الدلالة من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أفطر بعدما نوى في صوم نفل، ولو كان واجباً لما قطعه.
الدليل الرابع: في صحيح مسلم عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم (خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان، فصام حتى بلغ كراع الغميم فصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه، ثم شرب، فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام. فقال: أولئك العصاة، أولئك العصاة)([82])، وفي رواية الترمذي (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة عام الفتح فصام حتى بلغ كراع الغميم وصام الناس معه، فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام، وإن الناس ينظرون فيما فعلت. فدعا بقدح من ماء بعد العصر، فشرب والناس ينظرون إليه، فأفطر بعضهم وصام بعضهم، فبلغه أن ناساً صامواً فقال: (أولئك العصاة). قال أبو عيسى: حسن صحيح([83]). وعن ابن عباس بسند صحيح قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح إلى مكة في شهر رمضان، فصام حتى مر بغدير في الطريق وذلك في نحر الظهيرة، قال: فعطش الناس، وجعلوا يمدون أعناقهم، وتتوق أنفسهم إليه، قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدح فيه ماء، فأمسكه على يده حتى رآه الناس، ثم شرب، فشرب الناس)([84]).
وجه الدلالة من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أفطر أثناء صومه، ولو كان إتمامه واجباً لما قطع صومه، فإن قيل: أفطر لعذر وهو مشقة السفر وحر الهجير، فالجواب: أن الناس في التعب من السفر ومشقة الهجير صنوف شتى، فمنهم: من يشق عليه ومنهم: من لا يشق عليه، فوجود من لا يشق عليه أمر مقطوع به كما هو معلوم ضرورة من تتبع أحوال الناس، فيكون بعض الذين لم يشق عليهم قد أمروا بالفطر وقطع صوم النافلة دون عذر، فإن كان هذا حال بعضهم كفى للاستدلال به، كما أنه لو سلمنا – جدلاً – أن الجميع معذور في فطره، فيبقى الاستدلال به صحيحاً، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر أحد بالقضاء، ولو كان إتمام النفل واجباً لوجب قضاؤه، فعدم أمرهم بالقضاء دليل على عدم وجوب الإتمام والله تعالى أعلم.
فإن قيل: كيف تستدل بالحديث وصوم النبي صلى الله عليه وسلم كان في رمضان بنص الحديث، وهو فرض لا مندوب؟! فالجواب: أن المسافر يحق له الفطر في رمضان، فصوم المسافر في مندوب مرغوب في حقه لا واجب، فالمعتمد عند جماهير أهل العلم من الحنفية والمالكية والشافعية: أن صوم المسافر خير من فطره إن لم يتضرر به([85])، فإن صامه فله أجر الفرض، وهو صوم يوم من رمضان، وله كذلك أجر النافلة على صومه، مع أن الرخصة الفطر، لفضيلة الشهر الفضيل، فالأداء أفضل من القضاء، ونيل فضيلة الشهر خير من الصوم قضاء في غيره، فمن نوى صوم نهار رمضان ثم بدا له الفطر يكون قد قطع مندوباً لا واجباً، لأن الرخصة باقية بسفره، لكن الأفضل له إتمامه.
الدليل الخامس: عن أبي سعيد قال: (أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم على نهر من السماء([86]) والناس صيام في يوم صائف مشاة، ونبي الله على بغلة له، فقال: اشربوا أيها الناس. قال: فأبوا. قال: إني لست مثلكم أني أيسركم، إني راكب. فأبوا، قال: فثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذه فنزل فشرب وشرب الناس، وما كان يريد أن يشرب) ([87]).
وجه الدلالة: صحيح صريح وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع صومه، وقد صرح أن لا مشقة عليه، لأنه كان راكباً، فإن قيل: كان ذلك في رمضان وكان صومهم واجباً. أجيب بأنه لا دليل عليه. فإن قيل: أفطروا لعذر السفر، وهو عذر مبيح للفطر ولو دون مشقة. أجيب بأنه لم يأمرهم بالقضاء فدل على عدم وجوب الصوم بالشروع فيه.
الدليل السادس: عن أم هانئ قالت: (دخلت علي النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة فناولني فضل شرابه فشربته، فقلت: يا رسول الله، إني كنت صائمة، وإني كرهت أن أرد سؤرك. فقال: إن كان قضاء من رمضان فصومي يوماً مكانه، وإن كان تطوعاً فإن شئت فاقضيه، وإن شئت فلا تقضيه)([88]).
وجه الدلالة من الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم علق القضاء على المشيئة، وهذا ليس من شأن الواجب([89])، لأن إتمام النفل وقضاءه لو كان واجباً بالشروع لما علق على مشيئة المكلف، فدل على عدم وجوبه بالشروع.
وفي الحديث مقال، حيث أعله الدارقطني بأحد رواته، وهو سماك بن حرب([90])، وأعله كثير من أئمة أهل العلم، فالحديث ضعيف لا يعتد به، وحاصل الاختلاف فيه: أنه اختلف على سماك، فتارة رواه عن أبي صالح باذان، وهو ضعيف كما مر في الجنائز، وتارة عن جعدة، وهو مجهول([91])، لكن في معناه عن أبي سعيد الخدري: أنه قال: (صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً، فأتاني هو وأصحابه فلما وضع الطعام قال رجل من القوم: إني صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى (دعاكم أخوكم، وتكلف لكم). ثم قال له: (أفطر وصم مكانه يوماً إن شئت)([92])، قال ابن حجر العسقلاني: وإسناده حسن([93])، وأيده من المعاصرين الشيخ الألباني رحمه الله([94]).
الدليل السابع: لو أثم تارك المندوب لانقلب المندوب فرضاً، لأن الإثم على الترك يقتضي الوجوب، والمندوب ليس واجباً اتفاقاً، فثبت أنه لا يعاقب تاركه ففي إيجاب تتمة المندوب بالشروع فيه وقضائه إن قطعه منافاة لمعنى الندب، إذ أن وجوب الإتمام والقضاء حكمان يختصان بالواجب. كما أنه لا عقاب إلا على معصية، ولا معصية في ترك المندوب، ولا في فعل المكروه، لأن المكلف مخير في إتيان كل منهما وتركه، إذ لا حرج في ترك المندوب على الجملة([95])، فلو أثم تارك المندوب لانقلب المندوب واجباً، ولما عاد ثمة مندوب، وهذا يناقض وجود هذا الحكم التكليفي المتفق عليه.
الدليل الثامن: لأن لازم المندوب جواز الترك، وكما يجوز تركه ابتداء بأن لا يشتغل به أصلاً يجوز تركه ثانياً بعد الشروع فيه بأن لا يتممه فيبطل، إذ لو لم يجز تركه لانقلب واجباً وذلك باطل.
الدليل التاسع: انعقد الإجماع على أن الإنسان لو نوى الصدقة بمال مقدر وشرع في الصدقة به فأخرج بعضه لم تلزمه الصدقة بباقية، وهو نظير الاعتكاف، لأنه غير مقدر بالشرع، فأشبه الصدقة([96]) وغيرها من المندوبات من باب أولى.
الدليل العاشر: أن الإجماع منعقد على أن الشرع جوز له ترك الصوم والصلاة المتطوع فيها بجملة الأجزاء، فإذا جاز له الترك بجملة الأجزاء فكذا جاز له ترك بعض الأجزاء، وقد نسب هذا الدليل للإمام الشافعي رحمه الله([97]).
وأجاب المخالفون عنه أنه قبل الشروع لم يؤد شيئاً، فجاز له تركه، أما بعد الشروع فقد أدى بعض القربة فيجب حفظه بإتمامه والقضاء بإفساده([98]).
ولا يصح جواب المخالفين، لأن المندوب يجوز تركه ابتداء بعدم الدخول فيه أصلاً، فكذلك بعد الدخول فيه، فلا فرق بين تركه ابتداء أو بعد الدخول فيه، كفرض العين لا يجوز تركه ابتداء فكذلك بعد الشروع فيه، مع أنه لم يؤد شيئاً قبل الشروع فيه.
الدليل الحادي عشر: الشروع في نفل من صلاة أو صوم غير ملزم للشارع فيه إتمامه وقضاؤه إذا أفسد، لأنه عبادة، لا يجب المضى فيها إذا فسدت، كالوضوء، فإنه عبادة لا يمضي في فاسدها، فلم يلزم بالشروع فيه بجامع أن الكل عبادة، ولا يمضي في فاسدها([99])، وبتعبير آخر إن كل عبادة تجب بالشروع لابد أن يجب المضي فيها إذا فسدت، كما في الحج، فيلزم أن كل عبادة إذا فسدت لا يجب المضي فيها لا تجب بالشروع([100]) وأجاب الحنفية عن هذا الدليل بأن ما كان عبادة لا يمضي في فاسدها، فيستوي عمل النذر والشروع فيها كالوضوء – أي كما استوى عملهما في الضوء – فإن الوضوء لما لم يلزم بالشروع لم يلزم بالنذر، فتلزم العبادة النافلة بالشروع، لأنها تلزم بالنذر إجماعاً، لأنه كما ذكر فخر الإسلام: الشروع مع النذر في الإيجاب بمنزلة توأمين لا ينفصل أحدهما عن الآخر، لأن الناذر عهد أن يطيع الله فلزمه الوفاء به، لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ [المائدة: 1] والشارع عزم على الإيفاء فلزمه الإتمام صيانة لما أدى عن البطلان، لقوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ والأَذَى﴾ [البقرة: 264] وحيث وجبت بالنذر إجماعاً وجبت بالشروع، عملاً بقضية الاستواء، ويسمى هذا قلب التسوية وسماه فخر الإسلام عكساً([101])، لأن حاصله عكس خصوص حكم الأصل، وحكم الأصل – وهو الضوء في هذا المثال – عدم اللزوم بالنذر، والشروع في الفرع هو العبادة النافلة، وهو لزومها بهما، وهذا النوع من القلب هو المنسوب إلى الحنفية أول القياس([102]).
الفرع الثاني
أدلى القائلين بأن المندوب ينقلب واجباً بالشروع ومناقشتها
الدليل الأول: قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ ولا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ﴾ [محمد/ 33]، وفي عدم الإتمام إبطال للمؤدى، ولا معنى للإبطال إلا فعل يحصل به البطلان، ولا شك أن بطلان ما أتى به من النفل إنما حصل بفعله المناقض للعبادة، إذ لم يوجد شيء سواه([103])، ولأن المؤدى قربة وعمل فتجب صيانته عن الإبطال بالمضي فيه، وإذا وجب المضي وجب القضاء بإفساده([104]).
وأجاب ابن عبد البر المالكي أن: من احتج في هذا بقوله تعالى: {ولا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] فهو جاهل بأقوال أهل العلم، فإن الأكثر على أن المراد بذلك النهي عن الرياء، كأنه قال: لا تبطلوا أعمالكم بالرياء بل أخلصوها لله، وقال آخرون: {ولا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} بارتكاب الكبائر أو بالكفر والنفاق، أو بالمن والأذى ونحوها، ولو كان المراد بذلك النهي عن إبطال ما لم يفرضه الله عليه ولا أوجب على نفسه بنذر وغيره لامتنع عليه الإفطار إلا بما يبيح الفطر من الصوم الواجب، وهم لا يقولون بذلك والله أعلم([105])، فيكون المراد بالآية ترك الواجبات([106])، فقوله سبحانه وتعالى: {ولا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} يحمل على التنزيه جمعاً بين الدليلين، هذا إن لم يفسر بطلانها بالردة، بدليل الآية التي قبلها مباشرة، وهي قوله تعالى: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 32]([107]).
الدليل الثاني: استدلوا بقوله تعالى: {ورَهْبَانِيَّة ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد: 27]. وجه الدلالة من الآية: أن الله تعالى أخبر عما ابتدعوه من القرب والرهبانية ثم ذمهم على ترك رعايتها بقوله {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد: 27]، والابتداع قد يكون بالقول وهو ما ينذره ويوجبه على نفسه، وقد يكون بالفعل بالدخول فيه، وعمومه يتضمن وإتمامها، فوجب أن كل من دخل في صلاة أو صوم أو حج أو غير ذلك من القرب فعليه إتمامها، ولا يلزمه إتمامها إلا وهي واجبة عليه، فيجب قضاؤها إذا أفسدها([108])، فالآية سيقت في معرض ذمهم على عدم رعاية ما التزموه من القرب التي لم تكتب عليهم، والقدر المؤدى عمل كذلك، فوجب صيانته عن الأبطال، فإذا أفطر وجب قضاؤه تفادياً عن الإبطال([109]).
الدليل الثالث: استدلوا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] وهذا قد عقد الصوم فوجب أن يفي به. وبقوله تعالى: {وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ} [الحج/ 30]، وليس من تعمد الفطر بمعظم لحرمة الصوم. وأجيب بأن هذه النصوص كلها عامة، وقد تقرر أن الخاص يقدم على العام.
قال ابن المنير المالكي: "ليس في تحريم الأكل في صوم النفل من غير عذر إلا الأدلة العامة كقوله تعالى: {ولا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]، إلا أن الخاص يقدم على العام، كحديث سلمان ونحوه"([110]).
الدليل الرابع: استدلوا بحديث طلحة بن عبيد الله قال: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد، ثائر الرأس، نسمع دوي صوته، ولا نفقة ما يقول، حتى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يسأل عن الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خمس صلوات في اليوم والليلة). فقال: هل علي غيرهن؟ قال: (لا، إلا أن تطوع، وصيام شهر رمضان). فقال: هل على غيره؟ فقال: (لا، إلا أن تطوع)، وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة. فقال: هل على غيرها؟ قال: (لا، ألا أن تطوع). قال فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أفلح إن صدق) ([111]).
وجه الدلالة من الحديث: يكمن في الاستثناء "إلا أن تطوع"، فهو استثناء متصل، ومعناه: لا يجب شيء عليك سوى هذه الفروض إلا أن تتطوع فيكون التطوع بالشروع فيه واجباً مثلها، والاستثناء المتصل هو الأصل، والاستثناء من النفي إثبات، والمنفي الوجوب، فيكون المثبت وجوب التطوع أن تطوع، فقوله: "إلا أن تطوع" لا يصح استثناؤه من غير الواجب لكونه – أيضاً – غير واجب، لكنه يدل على أن النفل يلزم بالشروع([112])، فالاستثناء متصل لا منفصل، لأنه هو الأصل في الاستثناء، فالنبي صلى الله عليه وسلم نفي وجوب شيء آخر إلا ما تطوع به، والاستثناء من النفي إثبات، فيكون المثبت بالاستثناء وجوب ما تطوع به وهو المطلوب([113]).
وهذا مغالطة، لأن هذا الاستثناء من وادي قوله تعالى {لا يَذُوقُونَ فِيهَا المَوْتَ إلاَّ المَوْتَةَ الأُولَى} [الدخان/ 56]، أي لا يجب شيء إلا أن تطوع، وقد علم أن التطوع ليس بواجب فلا يجب شيء آخر([114]).
واستدل الشافعية والحنابلة بهذا الحديث على أن الشروع غير ملزم من وجهين:
أن الاستثناء في الحديث منقطع بمعنى لكن، فيكون معنى الحديث: لكن استحب لك أن تطوع([115]).
ولأنه نفي وجوب شيء آخر مطلقاً شرع فيه أو لم يشرع([116]).
ومن أراد قرينة صارفة للاستثناء من الاتصال إلى الانقطاع فالقرينة هي تلك الأحاديث السابقة الدالة على قطع النبي صلى الله عليه وسلم لبعض الطاعات: كالصوم والاعتكاف، ولو كان واجباً لما قطعه، وكذلك أمره غيره بقطع النوافل، كأمره جويرية بنت الحارث أن تفطر يوم الجمعة بعد أن شرعت فيه([117])، فدل على أن الشروع في العبادة لا يستلزم الإتمام.
ولا شك أن ظاهر الحديث المتبادر منه بالفهم لأول وهلة – وهو علامة الظهور – أن الاستثناء منقطع فالنبي صلى الله عليه وسلم يذكر لذلك الأعرابي الواجبات، وفي آخر كل واجب يحثه على التطوع، فالنبي صلى الله عليه وسلم يذكر له نوعين مختلفين من العبادات: الواجب والمندوب، فالواجب هو فقط الذي سأل عنه الأعرابي بقوله: "هل على غيرهن"، فقوله صلى الله عليه وسلم جواباً على سؤاله: "لا" هو بيان لعدم وجوب غيرها، ومنه: التطوع، فمن البعيد التعبير بلا النافية لجنس الواجب، ثم الاستثناء في كل عبادة يكررها من أركان الإسلام، استدراكاً أنها واجبة مع الأولى إذا تطوع بها، فلو كان الشروع موجباً لذكره مع الواجبات لا استثناء في كل ما ذكر والله تعالى أعلم.
ولو سلمنا جدلاً أن الاستثناء متصل لا منفصل لدل ذلك على وجوب المندوب ابتداء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم استثنى أصل التطوع بقوله "إلا أن تطوع"، ولم يذكر الشروع فيه، فيكون الاستدلال بالحديث دليلاً على وجوب النفل لا الشروع فيه، لأن النسبة كانت لأصله وهو "التطوع"، لا لوصفه وهو "الشروع فيه".
فإن قيل: لابد من تأويل الحديث بصرفه عن أصله وهو عين المندوب إلى وصفه وهو الشروع فيه، قلنا: لماذا نظرتم إلى عين التطوع من حيث هو فصرفتموه عن أصله إلى وصفه وهو الشروع فيه، ولم تنظروا إلى الاستثناء فتصرفوه عن كونه متصلاً إلى كونه منفصلاً؟ فصرفكم هو تأويل محض ليس أولى من تأويلنا بحمل الاستثناء على كونه منفصلاً، فليس تأويلكم أولى من تأويلنا أو صرفكم عن الظاهر أولى من صرفنا، فخرج الدليل عن الاستدلال به، وسلمت لنا الأدلة الأخرى.
الدليل الخامس: استدلوا بحديث عروة أن عائشة أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (خرج ذات ليلة من جوف الليل فصلى في المسجد، فصلى رجال بصلاته، فأصبح الناس فتحدثوا، فاجتمع أكثر منهم فصلوا معه، فأصبح الناس فتحدثوا، فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلوا بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله حتى خرج لصلاة الصبح، فلما قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد ثم قال: (أما بعد، فإنه لم يخف على مكانكم، لكني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها) ([118]).
وجه الدلالة من الحديث يكمن في قوله صلى الله عليه وسلم (خشيت أن يفرض عليكم)، يعني صلاة التراويح فتعجزوا عنه، ولا وجه للفرضية إلا لأنه ابتدأه، أي لو شرع صلى الله عليه وسلم في جمعهم على التراويح قصداً لوجب إتمامها.
ولا يصح الاستدلال بهذا الحديث من أوجه:
أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتدأ قيام الليل جماعة في المسجد بقصد إتمامه بقية الشهر فقطعه، ولو كان الإتمام واجباً لقضاه في المسجد، لأن القيام في المسجد جماعة مزيد فضل، وهو أمر مندوب، فعلى قولكم يلزمه قضاؤه وهو لم يقضيه فبطل استدلالكم.
لما فهم خشيته صلى الله عليه وسلم أن يفرض عليهم أن الفرضية آتية من الشروع، لماذا لا نفهمها أنها آتية من قبل الشرع إن داموا عليها من باب (لا تسألوا عن أشياء أن تبد لكم تسؤكم)، أو يكون المعنى: تفرض عليكم بظنكم، أي تظنوا أنه فرض، أي في ظنكم وتخمينكم.
أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك اعتكافه ولو كان واجباً لما تركه، وأزواجه تركن الاعتكاف بعد نيته، وضرب أبنيتهن له، ولم يوجد عذر يمنع فعل الواجب، ولا أمرن بالقضاء، وقضاء النبي لم يكن واجباً عليه، وإنما فعله تطوعاً، لأنه كان إذا عمل عملاً أثبته، كما قضى السنة التي فاتته بعد الظهر وقبل الفجر، فتركه له دليل عدم الوجوب، لتحريم ترك الواجب، وفعله للقضاء لا يدل على الوجوب، لأن قضاء السنن مشروع([119])، فالقضاء ليس دليلاً على الوجوب.
الدليل السادس: عن عائشة رضي الله عنها قالت: (أصبحت صائمة أنا وحفصة فأهدي لنا طعام فأعجبنا فأفطرنا، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فبادرتني حفصة فسألته، فقال: (صوماً يوماً مكانه)([120])، وفي رواية فقالت حفصة: وبدرتني بالكلام وكانت ابنة أبيها: يا رسول الله، أني أصبحت أنا وعائشة صائمتين متطوعتين وأهدى لنا طعام فأفطرنا عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقضيا مكانه يوماً آخر)([121])، فهذا يدل على أنه إذا أفسده وجب عليه قضاؤه([122]).
وجه الدلالة من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالقضاء، والأمر للوجوب، فدل على أن الشروع ملزم وأن القضاء بالإفساد واجب([123]). وقد ضعف عدد من الحفاظ الحديث، ومنهم: البخاري([124])، وأجاب المباركفوري بأنه حديث ضعيف لا يصلح للاستدلال، فهو منقطع([125])، فهذا حديث رواه الثقات الحفاظ من أصحاب الزهري عنه منقطعاً([126]). وقال البخاري: في سند هذا الحديث زميل. وقال: لا يعرف لزميل سماع من عروة، ولا ليزيد سماع من زميل، ولا تقوم به الحجة وقال الخطابي: إسناده ضعيف، وزميل مجهول([127]).
وقد حاول المنبجي الانتصار للحديث بأن البخاري لم يذكر للحديث علة سوى عدم معرفة سماع بعض الرواة من بعض، وهذا لا يوجب ضعفاً في الحديث، لجواز أن يكون روى عنه إجازة، أو مناولة، أو سمعه يزيد ممن سمع من زميل، وسمعه زميل ممن سمع من عروة، وترك كل واحد منهما من سمع منه وذكر من فوقه يوهم بذلك علو إسناده، وكل ذلك ليس بعلة يسقط الاحتجاج بالحديث لأجله([128]). والحقيقة أن بناء التصحيح على الاحتمال مجازفة لا تحمد عقباها تفتح الباب واسعاً لقبول كل الأحاديث المنقطعة بنفس الدعوى التي ذكرها، وفي هذا هدم لأصول راسخة في علم الحديث، لا يصح هدمها دعماً لرأي فقهي معين.
ولو سلمنا – جدلاً – أن الحديث ثابت عنه صلى الله عليه وسلم فيحمل الأمر بالقضاء على الاستحباب، لتجتمع الأحاديث الواردة في الباب([129]). قال الخطابي: لو ثبت الحديث أشبه أن يكون إنما أمرهما بذلك استحباباً، لأن بدل الشيء في أكثر أحكام الأصول يحل محل أصله، وهو في الأصل مخير، فكذلك في البدل([130]). فيكون الأمر فيهما محمول على الندب كما يدل عليه رواية أبي سعيد عند البيهقي بلفظ: صم مكانه يوماً إن شئت، فعلق القضاء على المشيئة، وهذا ليس من شأن الواجب([131]).
الدليل السابع: قوله صلى الله عليه وسلم (ما ينبغي لنبي أن يضع أداته بعد أن لبسها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه)([132]) احتج به من يقول: إن النوافل تلزم بالشروع، وأن الشروع فيها جار مجرى التزامها بالنذر، فإن الشروع التزام بالفعل، والنذر التزام بالقول، والالتزام بالفعل أقوى، لأنه الغاية([133]).
وأجابوا عن الاستدلال بهذا الحديث بأنه لا دلالة فيه على العموم، وإنما هو خاص بالأنبياء بنص قوله صلى الله عليه وسلم إذ قال: "ما ينبغي لنبي" ولم يقل: (ما ينبغي لأحد)، ولا (ما ينبغي لكم)، فدل على مخالفة حكم غيره له في هذا، وأنه من خواصه، ويدل عليه أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا عمل عملاً أثبته وداوم عليه، ولهذا لما قضي سنة الظهر بعد العصر أثبتها وداوم عليها([134]). كما يجاب بأن لبس ملابس الحرب وأدواته أو اللامة إنما يكون في الجهاد، ولا يكون الجهاد مندوباً، بل أقل حالاته أنه فرض كفاية، فهو خارج موضوع بحثنا.
الدليل الثامن: عن أنس رضي الله عنه: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم على أم سليم فأتته بتمر وسمن، قال: (أعيدوا سمنكم في سقائه، وتمركم في وعائه، فإني صائم)([135])، يدل على أن من شرع في صلاة نفل أو صيام نفل وجب عليه إتمامه([136]).
والصحيح: أنه لا دلالة فيه، فامتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن الفطر لا يدل على وجوب الإتمام، فمطلق الامتناع سلب محض لا دلالة فيه على الوجوب، بل قد يحمل على كراهة الفطر دون سبب لمن شرع في النافلة أو أنه خلاف الأولى، فمن شرع في نافلة: فالإجماع على استحباب إتمامها، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يفطر جرياً مع عادة العقلاء والربانيين الذين إذا شرعوا في خير اتموه ولو لم يكن إتمامه واجباً، وهذا الجواب من القواعد المقررة عند جماهير علماء الأصول أن مطلق ترك النبي صلى الله عليه وسلم لا يدل على تحريم المتروك دون قرائن.
الدليل التاسع: استدلوا بما روي عن جابر قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: استتمام المعروف خير من ابتدائه)([137]). والجواب أن الحديث ضعيف([138]) لا يصح الاستدلال به، ولو صح فلا دلالة فيه، إذ لا دلالة فيه على وجوب الاستتمام وإنما هو تفضيل الاستتمام على الشروع، ومن أبرز معاني التفضيل والخيرية وأظهرها: الندب، فلا دلالة فيه على وجوب الاستتمام.
الدليل العاشر: استدلوا بإجماع الصحابة على وجوب النافلة بالشروع، وهو إجماع ذكره الإمام العيني الحنفي في عمدته([139]). والجواب أنه دعوى عجيبة غريبة للإجماع لا دليل البتة على إثباتها، بل كيف تثبت والآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم متعارضة، والمنقول عن الصحابة – أيضاً – متضارب متعارض، فلله دره – رحمه الله – كيف يدعى دعوى عريضة كهذه يستحيل إثباتها في مثل هذا المقام مع كثرة هذا التضارب!!!.
الدليل الحادي عشر: أن المنذور قد صار لله تعالى تسمية بمنزلة الوعد، فيكون أدنى حالاً مما صار لله تعالى فعلاً وهو المؤدي، ثم إبقاء الشيء وصيانته عن البطلان أسهل من ابتداء وجوده، وإذا وجب أقوى الأمرين وهو ابتداء الفعل لصيانة أدنى الشيئين وهو ما صار لله تعالى تسمية، فلأن يجب أسهل الأمرين وهو إبقاء الفعل لصيانة أقوى الشيئين وهو ما صار لله تعالى فعلاً أولى([140]). فإن علماءنا استدلوا في أن الشروع في النافلة ملزم كالنذر، فقالوا: ما يلتزم بالنذر يلتزم بالشروع إذا صح الشروع([141]).
الدليل الثاني عشر: واحتجوا – أيضاً – بالقياس على نفل الحج والعمرة حيث يجب قضاؤهما إذا أفسدهما اتفاقاً، للاتفاق "على أن حج التطوع يلزم بالشروع"([142]). والجواب أنه: لا يصح قياسه على الحج والعمرة، لأن الوصول إليهما لا يحصل في الغالب إلا بعد كلفة عظمى ومشقة شديدة وإنفاق مال كثير، ففي إبطالهما تضييع لماله، وإبطال لأعماله الكثيرة، وقد نهينا عن إضاعة المال وإبطال الأعمال، وليس في ترك الاعتكاف بعد الشروع فيه مال يضيع، ولا عمل يبطل، فإن ما مضى عن اعتكافه لا يبطل بترك اعتكاف المستقبل، ولأن النسك يتعلق بالمسجد الحرام على الخصوص والاعتكاف بخلافه([143]).
فالحج والعمرة امتازا بأحكام لا يقاس غيرهما عليهما فيهما، فمن ذلك: أن الحج يؤمر مفسده بالمضي في فاسده، والصيام لا يؤمر مفسده بالمضي فيه فافترقا، ولأنه قياس في مقابلة النص فلا يعتد به([144]). فهو قياس مع الفارق، ولأن الحج فيه دليل خاص وهو قوله تعالى (وأتموا الحج والعمرة لله).
الدليل الثالث عشر: قياساً على النذر، ووجه الشبه: أن النذر ليس واجباً، فمن نذر فقد أوجبه على نفسه، فإن لم يف به فعليه كفارة يمين. وهكذا كل من شرع في عبادة ليست لازمة، لأنه قبل ذلك كان مختاراً في الفعل وعدمه، فإذا دخل في الفعل فقد قيد نفسه، ومقيد نفسه طليق([145]).
والجواب أنه قياس مع الفارق، فكيف نقيس ما ألزم المرء به نفسه على ما لم يلزم به نفسه، فشروعه في المندوب ليس فيه أي دليل على التزام الشارع به، بخلاف النذر الذي حقيقته إلزام المرء نفسه بما لا يلزم بلفظ يدل على الإلزام.
الدليل الرابع عشر: أن الجزء الذي أداه صار عبادة لله تعالى حقاً له فتجب صيانته، لأن التعرض لحق غيره بالإفساد حرام، ولا طريق إلى صيانة المؤدى سوى لزوم الباقي، إذ لا صحة له بدون الباقي، لأن الكل عبادة واحدة بتمامها يتحقق استحقاق الثواب([146]).
والجواب أن صاحب الحق – وهو الله عز وجل – جعل هذا الفعل مندوباً أصالة، ومعنى الندب وحقيقته جواز الفعل مع الأجر، وجواز الترك مع نفي الإثم، فليس التعرض لحق الآخرين بإفساد المندوب حرام، لأن صاحب الحق هو الذي أذن أصالة بترك المندوب اتفاقاً، فليس الشروع فيه، بأمر يغير حكم الابتداء فيه، وهو حقيقة الندب جائز الفعل والترك.
الدليل الخامس عشر: قال العيني: "ولو وقع التعارض بين الأخبار فالترجيح معنا لثلاثة أوجه: أحدها: إجماع الصحابة. والثاني: أن أحاديثنا مثبتة وأحاديثهم نافية والمثبت مقدم. والثالث: أنه احتياط في العبادة فافهم"([147]).
والجواب: إن الإجماع سبق ورددنا دعوى وقوع الإجماع في المسألة، أما أنهم مثبتون والإثبات مقدم على النفي، فإن النفي للوجوب هو الأصل والأصل مقدم، كما أن نفي الوجوب بالشروع هو إثبات لبقاء الندب على أصل معناه وهو الندب، أما أنتم فقلبتم الندب إلى الوجوب بالشروع فنفيتم بقاءه على أصل معناه، فنحن المثبتون وأنتم النافون، كما أن الآثار الدالة على النفي صريحة صحيحة بخلاف ما استدللتم به، فالنفي جاء بالأدلة الصريحة الصحة وهي مقدمة على الإثبات إن جاء بأدلة ضعيفة.
يتبع