اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال ؛ منها:
القول الأول: أن الماء لا ينجس مطلقًا وإن تغيَّر لونه وطعمه وريحه، وهو مذهب الظاهرية، واستدلوا بحديث: (الماءُ طَهورٌ لا يُنجِّسُه شيءٌ) .جزء من حديث صحيح: أخرجه أبو داود 66، والترمذي 66، وقال: هذا حديث حسن، والنسائي 326، وأحمد 11257، من حديث أبي سعيد الخدري، أنه قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنتوضَّأ من بئر بُضَاعة، وهي بئر يُطرَح فيها الحَيض ولحم الكلاب والنَّتْن؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الماء طهور لا يُنجِّسه شيء))؛ نقل المزِّي في تهذيب الكمال 19/84، عن الإمام أحمد قولَه: حديث بئر بضاعة صحيح، وزاد الحافظ في التلخيص 1/13، أنه صحَّحه أيضًا يحيى بن معين، وأبو محمد بن حزم، وصححه الألباني في المشكاة 288، والإرواء 14، وكذا محققو المسند 17/359.
القول الثاني: أن الماء لا يتنجس إلا إذا تغير لونه أو ريحه أو طعمه، وهو مذهب المالكية، واستدلوا:
أن عمر بن الخطاب خرج في ركبٍ فيهم عمرو بن العاص، حتى وردوا حوضًا، فقال عمرو بن العاص لصاحب الحوض: يا صاحب الحوض، هل تَرِدُ حوضَك السباع؟ فقال عمر بن الخطاب: يا صاحب الحوض، لا تُخبِرنا، فإنا نَرِدُ على السِّباع وتَرِدُ علينا. أخرجه مالك في الموطأ 14، وعبدالرزاق في المصنف 250، والدارقطني في السنن 62، والبيهقي في السنن الكبرى 1181، قال ابن عبدالهادي في تنقيح التحقيق 1/75: في إسناده انقطاع.
القول الثالث: أنه إن كان الماء قُلَّتين لا يتنجس، وإلا تنجس، وهو مذهب الشافعية، واستدلوا بحديث عن عبدالله بن عمر، قال: سُئِل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الماء وما ينوبُه من الدوابِّ والسِّباع، فقال - صلى الله عليه وسلم -: (إذا كان الماء قُلَّتينِ، لم يحمِلِ الخَبَث). أبو داود 63، كتاب الطهارة، باب ما ينجس الماء، والترمذي 67، كتاب الطهارة، باب ما جاء أن الماء لا ينجسه شيء، والنسائي 52، كتاب الطهارة، باب التوقيت في الماء، وابن ماجه 517، كتاب الطهارة، باب مقدار الماء الذي لا ينجس، وأحمد 4605، والدارمي 759، كتاب الطهارة، باب قدر الماء الذي لا ينجس، وصحَّحه ابن خزيمة، والحاكم، وابن منده، وابن دقيق العيد، انظر: التلخيص الحبير 1/16 - 20، وقال الألباني: حسن صحيح.
.
القول الرابع: فرَّقوا بين قليل الماء وكثيرِه، فقالوا: إذا كان قليلاً تنجَّس، وإذا كان كثيرًا لا يتنجَّس، وهو مذهب الحنفية، واختلفوا فيما بينهم في تحديد القليل والكثير، فمنهم مَن قال: التحديد بالكدرة، ومنهم مَن قال: التحديد بالصبغ، ومنهم مَن قال: التحديد بالسبع في السبع، ومنهم مَن قال: التحديد بالثمانية في الثمانية، ومنهم مَن قال: عشرون في عشرين، ومنهم مَن قال: العشر في العشر، ومنهم مَن قال: خمسة عشر في خمسة عشر، ومنهم مَن قال: اثنا عشر في اثني عشر، ومنهم مَن قال: بالتحريك باليد أو الغسل أو الوضوء، وكلها تحديدات لا دليل عليها.
القول الخامس: فرَّقوا بين بَوْل الآدمي وعَذرته المائعة وغيرها من النجاسات، فقالوا: إذا خالط الماء، تنجَّس إذا كان دون القُلَّتين أو بلغ القُلَّتين، تغير أم لم يتغير.
أما غيره من النجاسات، فجعلوا المعتبر فيه القُلَّتين، فإذا بلغ قُلَّتين ولم يتغير، فطهور، وإن لم يبلغ القلتين، فنجسٌ بمجرد الملاقاة.واعتمَدوا في التفريق بين بَوْل الآدمي وعذرته المائعة وغيرها من النجاسات على قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يبولنَّ أحدُكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسل فيه) . متفق عليه: البخاري 236، ومسلم 282، من حديث أبي هريرة.
ورُدَّ عليه بأن الحديث لم يتعرَّض للنجاسة لا من قريب ولا من بعيد، ولكن نهى عن البول في الماء، ثم الاغتسال فيه؛ لأنه كيف يغتسل في ماء بال هو فيه، وهذا نظير قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يجلد أحدُكم امرأتَه جلد العبد، ثم يجامعها في آخر اليوم) . متفق عليه: البخاري 5204، ومسلم 2855، من حديث عبدالله بن زمعة.
فالحديث ليس فيه النهي عن المضاجعة (أي: الجماع)، ولكن النهي عن الجمع بين الضرب والمضاجعة؛ لأنه تناقض.
• والراجح من هذه الأقوال أن الماء قليلاً كان أم كثيرًا، إذا لم تتغير أحد أوصافه الثلاثة (الطعم - اللون - الرائحة)، فهو على طهوريته، ولم يخرج من كونه ماءً طاهرًا مطهِّرًا، ولا فرقَ بين نجاسة وأخرى، والدليل على ذلك حديث أبي سعيد الخدري، أنه قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنتوضَّأ من بئر بُضَاعة، وهي بئر يُطرَح فيها الحَيض ولحم الكلاب والنَّتْن؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (الماء طهور لا يُنجِّسه شيء) .
• وقد نقل الإجماعَ ابنُ المنذر، فقال: (أجمعوا على أن الماء القليلَ أو الكثير إذا وقعت فيه نجاسةٌ فغيَّرت للماء طعمًا أو لونًا أو ريحًا، أنه نجسٌ ما دام كذلك) . الإجماع 4، والمجموع للنووي 1/110، وقد ورد حديث بلفظ: ((إن الماء لا ينجِّسه شيء، إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه))، روي مسندًا مرفوعًا من حديث أبي أمامة الباهلي وثوبان، ومرسلاً عن راشد بن سعد، وكلها ضعيفة، قال ابن الملقن في البدر المنير 1/399: فتلخَّص أن الاستثناء ضعيف، لا يحل الاحتجاج به؛ لأنه ما بين مرسل وضعيف؛ انظر: السلسلة الضعيفة 2644 للعلامة الألباني، ولشيخنا عاطف بن حسن الفاروقي - حفظه الله - رسالة ماتعة نافعة تحت عنوان: "أحاديث ضعاف، وعليها العمل بغير خلاف"، وذكر هذا الحديث 62 - 79.
• وقال ابن القيم: (إن الذي دلَّت عليه سنةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآثارُ أصحابه أن الماء لا ينجُسُ إلا بالتغير وإن كان يسيرًا، وهذا قول أهل المدينة، وجمهور السلف، وأكثر أهل الحديث، وبه أفتى عطاء بن أبي رباح، وسعيد بن المسيب، ومالك بن أنس، وبه قال أهل الظاهر، ونصَّ عليه أحمد في إحدى روايتيه، واختاره جماعة من أصحابنا، منهم: ابن عقيل في مفرداته، وشيخنا أبو العباس ابن تيمية، وشيخه ابن أبي عمر) . إغاثة اللهفان بتصرف 156.
تنبيه : إن القول باعتبار التأثير وتغير اللون أو الطعم أو الرائحة يُرِيح المكلَّف ويريح طالب العلم؛ لأننا لو قلنا بالقُلَّتين فربما يؤدِّي إلى الوسوسة، هل بلغت القلتين أم لم تبلغ؟ فيدخل من الوسوسة على المكلَّف ما لا يعلمه إلا الله، والشريعة شريعة يُسْر وتخفيف وسماحة، واعتبار مذهب القلتين تتفرَّع عليه مسائل دقيقة ومضنية، فالقول ما قال المحققون: إن الأمر مَرَدُّه إلى التأثير، وإن العبرة بالتأثير، فأصبح المكلَّف مَرَدُّه إلى المؤثر الحقيقي، والحمد لله الذي جعل لنا فرجًا ومخرجًا في المسألة.