"سلسلة منبرية ألقاها فضيلة شيخنا الدكتور عبدالبديع أبو هاشم رحمه الله، جمعتها ورتبتها وحققتها ونشرتها بإذن من نجله فضيلة الشيخ محمد عبدالبديع أبو هاشم"
(37) سورة الصافات
أيها الإخوة، عباد الله، حديثنا اليوم مع السورة الثانية من الربع الأخير من القرآن الكريم، ألا وهي سورة الصافات[1]، والصافات جمعٌ الواحدة منه يقال لها: صافَّة[2]، والمراد بها في هذه الآية: ﴿ وَالصَّافَّاتِ صَفًّا ﴾ [الصافات: 1]، وقسم السورة، المراد بها هم الملائكة الأبرار الذين يصطفون عبادةً وخضوعًا لله تبارك وتعالى[3]، وجاء في أواخر هذه السورة على لسان الملائكة عليهم السلام: ﴿ وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ﴾ [الصافات: 164 - 166]، فكأن الملائكة تصطفُّ تسبيحًا لله وتعظيمًا له، كما يصطف الناس في صلاة الجماعة في المسجد وفي الميدان، ويصطفون بشكلٍ معنوي حينما يصومون جميعًا في شهرٍ واحدٍ لرب واحد بطريقة واحدة، فكأنهم في هذه العبادة صفٌّ واحد، وكذلك في الحج وغير ذلك من العبادات.
وهذا الاسم في كتب التفسير من أول الأمة إلى الآن، علَمٌ على هذه السورة، ومَعلمٌ لها، بينما أطلق عليها البعض اجتهادًا سورة الذبيح؛ وذلك لأنه ورد فيها دون غيرها قصة الذبيح سيدنا وجدنا إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام وعلى أبيه السلام، وعلى نبينا الصلاة والسلام، حين بشَّره الله تعالى بغلامٍ حليم: ﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ﴾ [الصافات: 102]، إلى آخر هذا، فسميتْ عند بعض العلماء اجتهادًا بسورة الذبيح[4]، ولكن الاسم الأول هو الأَولَى؛ لأنه توقيفٌ من عند الله تبارك وتعالى، ولأنه يلمس روح السورة وهدفها، كما سيتبين ذلك عند بيان هدف السورة إن شاء الله، وهذه هي البلاغة أن يوضع عنوانٌ على الموضوع أو على الخطبة، أو السورة أو على الكتاب، يُشير إلى روح ما في هذا الموضوع، وإلى هدف هذه السورة، تلك بلاغةٌ عالية مَن تلمَّسها واكتشفها في القرآن، كان على بلاغة، فما بالك بمن وضعها؟ فما بالك بمن صنعها؟ وهذا من شأن الله تبارك وتعالى حين تكلم بالقرآن، جعله سورًا وجعل لكل سورةٍ اسمًا، وجعل اسم كل سورة متصلًا اتصالًا وثيقًا بكل موضوعاتها، مشيرًا إشارةً لطيفةً إلى هدفها، وسنأتي على ذلك بعون الله تعالى في درسنا هذا.
أما عن نزول السورة، فهي إحدى السورة المكية التي نزلت قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فكان نزولها في الزمان المكي[5]... والمخاطب في مكة كان على نوعين؛ مؤمنٌ مصدق وهو قليل، وكافرٌ مكذبٌ تكذيبًا واضحًا صريحًا، وهذا لا تقنعه العبارة، إنما يحتاج إلى توثيقها وتوكيدها، فأعطاه الله حقه في الخطاب، فأقسَم له، مع أن كلام الله حق لا يحتاج إلى قسم: ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ﴾ [النساء: 122]؟ لا أحد، ومع أن الحقيقة واضحةٌ في كلام الله لا تحتاج إلى تأكيد، ومع أن الله غنيٌّ عن ذلك الكافر، لكن الله يعطي كل إنسان حقَّه؛ حتى لا يأتي يوم القيامة، ويقول: يا رب، لو أقسمت لنا يمينًا على هذا الكلام لصدقناه، فقد أقسمنا لك، ولذلك تجد في القرآن الكريم قول الله تعالى في أكثر من مرة لا أقسم بكذا، لا أقسم، الأمر والحال لا يحتاج إلى قسم، لكني أقسم لكم حتى أقطع حجتكم ومعاذيركم يوم القيامة، فهذه سورةٌ بُدئت بالقسم، وأقسم الله في أولها بالصافات الزاجرات التاليات للذكر، وهم الملائكة، فإنهم يصطفون عبادةً لله، ويتلون ذكر الله تبارك وتعالى، ويستعملهم الله تعالى في أعمال أخرى، ليست هذه مهمتهم، لكنهم يعبدون الله ويسبِّحونه ويتلون آياته؛ زيادةً على المهمة التي كلفهم بها، فمنهم مَن كُلِّف بزجر السحاب وسوقه إلى بلدٍ ميت، ومنهم مَن مهنته أن يتتبع العباد؛ ليكتب عليهم أعمالهم ويرصدها، ومنهم من كلفه الله بالنفخ في الصور، ومنهم من كلفه الله بتبليغ الوحي، لكل منهم مهمة، لكن فوق هذه المهمة، ومن المحبة التي ملأتهم لله تبارك وتعالى، فهم يسبحون الله ويتلون آياته ويعبدونه، ويصطفون لذلك مع المصطفين من الناس في الأرض، ولذلك قد ورد في الحديث أنهم يحضرون صلاة الفجر وصلاة العصر مع الناس في المساجد، وهذا في قول الله تعالى: ﴿ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ﴾ [الإسراء: 78]؛ أي: إن صلاة الفجر صلاةٌ مشهودة من الملائكة، يسمعون القرآن الذي يتلى أثناء الصلاة.
أما عن موضوع هذه السورة أو موضوعاتها وسياقها، فإنها في الحقيقة تدور حول محورٍ معين، بدأت الحديث عنه أولًا بأن الله أقسم بالملائكة؛ وذلك تعظيمًا لشأن الملائكة، وضمن القسم بين الله أن هذه الملائكة مع عظمتها، فهي عبادٌ لله وليست من أولاد الله، وليس لله ولد، فجعلها عابدةً مسبحةً تاليةً لذكر الله وآيات الله، ولا يفعل هذا إلا عابد، إلا مخلوقٌ لخالقه، إلا مُؤَلِّهٌ لإلهه، فليست الملائكة بناتًا لله، ثم ذكر الله بعد ذلك طرفًا من أحوال الجن، وأنهم ضعاف وأنهم محجوزون عن التقاط واستراق السمع من السماء، كما كان مأذونًا لهم قبل بعثة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ومن اعتدى على هذه الحدود الربانية العظيمة، فحاول أن يسترق السمع من السماء، فإن الله يسلط عليه شهبًا تدحره وتطرده أولًا قبل أن يقترب، فإن خاف ورجع فقد سلم، وإن راوغ وحاول مرةً بعد مرة، فيأتيه شهابٌ ثاقب يحرقه ويفركه ويقتله، ولا يرتد إلى الأرض مرةً أخرى.
ثم من هنا يتفرع الحديث عن الكافرين وبعض شُبههم عن يوم القيامة وعن البعث، تلك القضية التي شغلت المجتمع المكي شغلًا عظيمًا وفترةً طويلةً من الزمان، يستقدمون أن يبعثهم الله من جديد وقد خلقهم أول مرةٍ من عدم والإعادة أسهل وأهون وأيسر من البدء في عرف الصناعة، لكن الله تعالى لا يسهل عليه عودٌ ولا يصعب عليه بدء سبحانه: ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [يس: 82]، فذكر الله قول الكافرين عن البعث: ﴿ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ ﴾ [الصافات: 16، 17]، يعني أيضًا آباءنا السابقين في أول الدنيا سيبعثون أيضًا بعد هذا العمر الطويل والفناء العظيم في الدنيا؟! جاء الجواب: ﴿ قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ ﴾ [الصافات: 18]، تبعثون أذلاءَ مقهورين يوم القيامة.
ثم اتصل الحديث عن يوم القيامة حين يراه الكافرون يقولون: ﴿ يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ ﴾ [الصافات: 20]، فيقال لهم: ﴿ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ * احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ ﴾ [الصافات: 21، 22]، حُشر الظالم ومن كان معه، ومَن كان يتبعه وإلهه معه من الحجارة أو غيرها، كل من رضي أن يُعبد من دون الله الكل يحشر جماعةً واحدة يتقدمهم أميرُهم؛ كما قال الله عن فرعون: ﴿ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ﴾ [هود: 98]، ويتبعه أتباعه لا يتخلف منهم أحدٌ، كما تبعه في الدنيا يتبعه يوم القيامة إلى النار، دخلوها اصطلوها صاروا يتلاومون فيها: ﴿ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ ﴾ [الصافات: 27، 28]، الضعاف يقولون للكبراء الذين يشرِّعون غير ما شرَّع الله، ويُجبرونهم على فعل ما يرضي الله عز وجل، كما يمنع شخص مِن لُبس النقاب، ويمنع المنتقبات من دخول مدينةٍ جامعية أو جامعة أو مدرسة، أو ما إلى ذلك، تأتوننا عن اليمين؛ يعني تأتوننا بقوة، تمنعوننا عن دين الله بقوة، تضلوننا بقوتكم، ولا تتقون الله في هذه الأمانة لتتخذوها فيما يصلح: ﴿ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ * قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ * فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ * فَأَغْوَيْنَاكُ مْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ ﴾ [الصافات: 28 - 32]، للأسف لا تظهر هذه الحقيقة إلا يوم القيامة أن يعترف الكبراء أنهم كانوا إلى غي ﴿ فَأَغْوَيْنَاكُ مْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ ﴾، ويا أيها التابع الضعيف المستضعف، اعلم أن من أمامك في الضلال غاوٍ فلا تتبعه من الآن، والله يوضح لك هذه السورة؛ لتتعلم ولتحذر، انظر وراء من تمشي ووراء من تمضي، ومن تتَّبع، انظر إلى أُسوتك وقدوتك التي اتخذتها، أين تذهب بك وأين تنتهي بك؛ حتى لا يقال لك يوم القيامة: ﴿ فَأَغْوَيْنَاكُ مْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ * فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ﴾ [الصافات: 32، 33]، لا ينفع أحدٌ أحدًا، ولا يغني مولى عن مولى شيئًا.
وتَمضي الآيات حيث ذكر الله أهل النار، فلا يكتمل أمر العذاب، ولا تكتمل صورته البشعة ولا يشتد ألَمه، ويكتمل حتى يرى أهل النار أهل الجنة منعمين، فلو كان الكل بعد هذه الدنيا في النار فلا حرج، الكل كذلك يعزي بعضهم بعضًا بقوله، لكن حينما يرى نفسه في النار ويرى مؤمنًا كان يصاحبه، أو كان يجاوره في الدنيا، أو كان يعرفه، لا يراه مثلَه في النار، وإنما يراه في أعالي الجنات: ﴿ أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴾ [الصافات: 41 - 43]، ما شاء الله، فعند ذلك تكتمل حسرة الكافر، فكان الموقف يَستدعي ذكر صورة من صور المؤمنين في الجنة، وكما تخاصم أهل النار وتنازعوا الحديث فيما بينهم يتلاومون، ذكر الله أن أهل الجنة أيضًا يتنازعون أطراف الحديث، لكن متفكهين متذكرين الدنيا، وما كان فيها، مستذكرين فضل الله ونعمته عليهم: ﴿ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ ﴾ [الصافات: 50، 51]، من أهل الجنة لبعض أصحابه يُحاكيهم ويسمعون ويتسلون: ﴿ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ ﴾ [الصافات: 51 - 54]، بينما هو يحكي القصة عينه من أعلى تنظر في أسفل النار، فيرى أهلها وإذا به يُميز من بين أهلها ذلك القرين السيئ، ويظهره الله له فيراه، فيقول أصحابه: ﴿ قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ ﴾، انظروا، انظروا: ﴿ فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ * قَالَ ﴾ [الصافات: 55، 56]، صاحب الجنة، قال معترفًا بفضل الله عليه: ﴿ قَالَ تَاللَّهِ ﴾؛ أي: واللهِ ﴿ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴾ [الصافات: 56، 57]، شيئًا فشيئًا، كما نقول: شوية شوية، يعني شيئٍا بسيطًا وخطوات قليلة، واتباعًا يسيرًا كنت سترديني معك في النار، وتجرني إليها، لو أني اتبعتك وأطعتك، ولولا قوتي الإيمانية، ولولا ثقتي في الله ولولا..، لا.. لا.. لا، الفضل لله، ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين معك للعذاب في النار.
هكذا تمضي السورة بهذا التسلسل الجميل، هذا كله تذكيرٌ لكفار هذه الأمة، ستجد السورة أسلوبًا آخر من التذكير كما هددت الكافرين تبشر المؤمنين، ويأتي ذلك بعد الحديث عن الجنة، فيذكر الله تعالى أطرافًا من قصص الأنبياء السابقين من أُممهم: ﴿ وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ ﴾ [الصافات: 75]، ومن بعده: ﴿ وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ ﴾ [الصافات: 83].
وكذا حتى قال: ﴿ وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [الصافات: 123]، ﴿ وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [الصافات: 133]، ﴿ وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [الصافات: 139]، عدد من الأنبياء مع أممهم، لكن هذه المرة تركز القصة على مآل ومصير الأنبياء والمؤمنين معهم، وأن الله نصرهم، وأن الله أيَّدهم واستجاب لهم، وأن الله أظهرهم وأعلاهم، وأعزهم في الدنيا، وترك عليهم سلامًا في الآخرين، إلى الآن نقول: سلامًا على نوح، سلامًا على آدم، سلامًا على إبراهيم، كلما ذكرنا نبيًّا قلنا: عليه السلام، ومن الواجب علينا كذلك أن نسترحم الله تعالى على إخواننا المؤمنين من أول الدنيا إلى آخرها، ولذلك ورد على سبيل المدح في آيات القرآن الكريم قول الله تبارك وتعالى: ﴿ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَ ا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ ﴾ [الحشر: 10]، سبقونا بالإيمان، ندعو لهم بالرحمة والمغفرة كما ندعو لأنفسنا.
وهكذا إلى أن تأتي خواتيم السورة بعد هذا الطرف من القصص القرآني العظيم، مبرزةً أن الأنبياء وأتباعهم هم أهل النصرة والعلو والعزة والكرام، بعد أن بيَّن أن أتباع الغواة الطغاة إلى ضلالٍ وإلى جحيم.
يأتي الطرف الأخير في السورة ليتصل بالطرف الأول: ﴿ وَالصَّافَّاتِ صَفًّا ﴾؛ ليُبين سبحانه وتعالى حكمة بدايته بهذا القسم، ولماذا يقسم بالملائكة بهذا الوصف، لم يقل: والملائكة، وملائكة الله، إنما قال: والصافات؛ ذلك لأن الكافرين كانت لديهم شبهةٌ معقدة، شبهة ملتفة ملتوية، لا يكادون يفكون منها عقدة، فتنعقد أخرى، صعبٌ خلعها من قلوبهم إلا مَنْ مَنَّ الله عليه، وذلك أنهم اعتقدوا باطلًا وجهلًا وافتراءً على الله عز وجل - أنه حصل تزاوج بين الله ذي الجلال والإكرام تنزَّه الله عن ذلك وتعالى علوًّا كبيرًا، وبين الجن، فنتج عن هذا التزاوج أولاد، لكنهم كانوا بنات وهم الملائكة، والملائكة - بزعم الكافرين - أرواحٌ، فتحل بأرواحها في أصنام المشركين، فيزعمون أنهم يعبدون هذه الأصنام لا لذات الأحجار، وإنما لما يحل فيها من أرواح الملائكة الذين هم بنات الله من الجن، يا ألله!.. انظر إلى العقيدة المعقدة، انظر إلى السفه... ثم عامة الناس يحبون البنين، يحب ولدًا يفتح بيته من بعده، فيبقى البيت عامرًا مفتوحًا، ويحمل اسمه في الدنيا، يبقى مرفوعًا، فيذكر الأب بوجود ولده، أما البنت فتضاف إلى زوجها بعد ذلك هي زوجة فلان، وخاصة بالمنطق الجاهلي، فإنها تأخذ نسب زوجها ويقطع نسبها من أبيها، هذا منطق الجاهلية الأولى والجاهلية الحديثة أيضًا، يفعلون ذلك، فملك الملوك سبحانه وتعالى حينما يتخذ ولدًا وهو القادر على أن يخلق لنفسه أولادًا، فلا يُضطر إلى أن ينجب بنات أو بنين، إنما يتخير ما يشاء سبحانه وتعالى، فإذا بهم ينسبون له البنات، وهذا صنفٌ من الخَلق كريم ولطيف وجميل، لكنه ضعيف لا يتناسب أن يكون مع ذي الجلال والإكرام، مع الله صاحب القوة، فلا بد أن يكون له ولدٌ قوي، ولكن الله غني، ولكن الله لا يحتاج إلى أحد، استغنى عن الولد، استغنى عن الولي، استغنى عن الزوجة، لا يحتاج إلى ذلك، فهو غني بذاته سبحانه وتعالى، فترى في كلامهم افتراءً بعد افتراء بعد افتراء، فيقول الله لهم: ﴿ فَاسْتَفْتِهِمْ ﴾ استفتهم يا نبي الله عليه الصلاة والسلام، ناقشهم: ﴿ فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ * أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ ﴾ [الصافات: 149، 150]، هل كان كفار مكة حاضرين والله يخلق ملائكته، فرأوا علامات الأنوثة على الملائكة، ما رأوهم عند خلقهم ولا رأوهم بعد خلقهم، ولا ترى الملائكة أبدًا إلا إذا تجسَّد ملكٌ في صورة رجل، فكلما ذُكرت الملائكة أنهم جاؤوا نبيًّا من الأنبياء، كما جاؤوا لإبراهيم عليه السلام يبشرونه، وكما جاؤوا للوط عليه السلام ليُهلكوا قومه الفاسقين، وكما جاؤوا لمريم عليها السلام، في كل الأحوال التي جاءت فيها الملائكة لبعض الأشخاص من البشر بتدبير وترتيب من الله تعالى، كانوا دائمًا يأتون على هيئة الرجال، ما جاء ملكٌ أبدًا مرةً على صورة أنثى، وإلا لكان مِن الأَولى أن يأتي الملك المبشر لمريم بعيسى عليهم السلام أن يأتي في صورة امرأة، فتُفاجأ مريم بامرأة أو فتاةٍ جميلةٍ في خدرها وفي معبدها الخاص فلا تفزَع، وإنما فزعت لأنها رأت رجلًا: ﴿ قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ ﴾ [مريم: 18]، حين تمثل لها بشرًا سويًّا، ﴿ قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ ﴾؛ أي: أعوذ بالرحمن منك أن تؤذيني، أن تعتدي عليَّ، أن تضرني في شيء، ﴿ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا ﴾، والبقية معروفة؛ أي: إن كنت تقيًّا فاتقِ الله فيَّ، اتقِ الله فيَّ ولا تُؤذني، كانت الإجابة: ﴿ قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ ﴾ [مريم: 19]، وليس رسوله ربك، كان رجلًا، وهذا أولى بأن يكون الملك فيه على صورة أنثى، وهو قادرٌ على هذا التشكُّل، عليهم السلام جميعًا، ولكن ما تشكلوا إلا في صورة رجال، وبعد ذلك كله يأتي الكفار الجهال يقولون: إن الملائكة بنات الله.
وتستمر المناقشة إلى أن تُختَم السورةُ بإعلان النتيجة التي تظهر دائمًا في كل مباراةٍ على أرض هذه الدنيا بين فريق الإيمان وفريق الكفران، بين الرسل والكفار الذين لم يتعبوهم، ولقد سبقت، انتهت، قضيت، قضيناها من أول الدنيا: ﴿ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ﴾ [الصافات: 171 - 173] الذين من الأنبياء والمرسلين وأتباعهم: ﴿ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ﴾ [الصافات: 173]، هذه قضيةٌ مسلمةٌ عند الله تعالى، إلى أن نزه الله نفسه فقال: ﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الصافات: 180 - 182]، فيلتقي بذلك ختام السورة مع أول السورة؛ حيث يقول الله تعالى هناك: ﴿ وَالصَّافَّاتِ صَفًّا * ﴿ وَالصَّافَّاتِ صَفًّا * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا * فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا * إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ ﴾ [الصافات: 1 - 4]، وهنا يقول: ﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ وصفوه بأنه أنجب الملائكة، وكانت الملائكة بناتًا، ولم ينجب الله ذكرانًا، وإنما أنجب بناتًا، افتراءٌ عظيم قبيح، لعنَهم الله به، وتنزه الله عن ذلك وتعالى علوًّا كبيرًا، فتأتي أطراف السورة هكذا؛ لتوحي بهدفها الصافات؛ أي: الملائكة الذين اعتبرتموهم بناتًا لله، وعبدتموهم وهمًا، ولا يعترفون بعبادتكم، إنما هم ليسوا بناتًا لله، ولا بنين حتى لله، وإنما هم خلقٌ من خلق الله، عبيدٌ من عبيده، يسبحون له ويعبدونه، ويتلون ذكره ويصطفون في ذلك، والاصطفاف أحبتي الكرام دليلٌ على مدى الانتظام ومدى الرهبة لصاحب المقام، فإذا كان المقام ذا رهبةٍ وكان صاحبه ذا هيبة، اصطف الجالسون أو اصطف الواقفون، وهكذا يصطف الناس لربهم في صلاة الجمعة، وفي صلاة الجماعات، وكذلك: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ﴾ [الصف: 4]، هذا من باب الانتظام أمام الله تعالى، فهو ينظر إلينا ويرانا سبحانه، وكذلك الملائكة تصطف إذًا مهابةً لله وتعظيمًا لله، وهذا ليس خُلُق الأولاد مع والدهم، وإنما هذا خُلُق العبيد أمام سيدهم وخالقهم سبحانه وتعالى.
فكان اسم السورة مشيرًا إلى الجريمة التي اقترَفها الكفار والفرية التي كذبوها حول الملائكة؛ حيث جعلوهم بناتًا لله تبارك وتعالى.
تتناسب هذه السورة مع سورة يس، كما تناسبت كل سورة مع ما قبلها بعدة نقاط، فإن في سورة يس كما هو اسمها يس، وأخطأ البعض في إطلاق هذه الكلمة كما عرفنا، فظن أنها اسم لله أو اسمٌ للرسول صلى الله عليه وسلم، أو غير ذلك، وهذا خطأ.
في هذه السورة سورة الصافات الله تعالى يقول: ﴿ وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾، إلياس هذا نبيٌّ من أنبياء بني إسرائيل فيما بين موسى وعيسى، أرسل الله بالرسالة موسى عليه السلام بالتوراة، ومن بعده تابع بالأنبياء ليحافظوا بني إسرائيل على أمر الله من بعد موسى، وبدأ الأنبياء بهارون الذي كان في زمان موسى عليهما السلام، وتبع ذلك أنبياء كثيرون وليٌّ من بعد ولي: ﴿ فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ﴾ [مريم: 5، 6]، فكان من هؤلاء سيدنا إلياس عليه السلام، يقال له: إلياس، ويقال له: إلياسين؛ كما جاء في القرآن: ﴿ وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾، ثم قال: ﴿ سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ ﴾، والذين ذكروا نسب هذا النبي قالوا: هو إلياس بن يس من ولد هارون أخي موسى عليه السلام؛ أي: هو من ذرية وسلالة هارون النبي عليهم جميعًا وعلى نبينا الصلاة والسلام، فكأن هذا الاسم هنا اسمٌ مبهم يا رجل يا إنسان، وهنا بيَّن الله تعالى من خلال ذكر هذه القصة، أو أشار إلى رجلٍ كان في بني إسرائيل اسمه يس وهو أبو إلياس على إلياس السلام.
في سورة ذكر الله مجملًا: ﴿ أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ ﴾ [يس: 31]، ولم يفصل هذه القرون، جاء تفصيلها وذكر خبرها مفردةً قومًا بعد قوم وقرنًا بعد قرن في سورة الصافات، بدءًا من نوحٍ عليه السلام، وانتهاءً بيونس عليهم جميعًا السلام.
فبين السورتين تعانق، والسورتان مكيتان، فهما لبنتان، يعني حجران للبناء، لبنتان في صرح وبناء وتعمير العقيدة الإسلامية الصحيحة في قلوب المسلمين، وفي قلوب العالمين إن استجابوا لذلك، وهكذا تتوالى سور القرآن وتتواصل رغم اختلاف نزولها في المكان والزمان، إلا أنها تتصل فيما بينها بعلاقات عظيمة، وهذا علمٌ اجتهاديٌّ يكشف الله عنه للمتدبرين، كلما تدبرت بين السورة والسورة، ولاحظت هنا ولاحظت هناك، وجدت أوجهًا للربط عظيمة، تُشعرك فعلًا بأن ترتيب سور القرآن ليس من عند البشر، وما كان لبشرٍ أن يصل إلى هذا الحد من الذكاء والعبقرية والبلاغة التي تربط بين سور القرآن بهذا الربط العظيم.
بهذا نختم حديثنا عن سورة الصافات؛ لنستقبل سورةً أخرى إن شاء الله تعالى في لقاءٍ قادم.
نسأل الله تعالى أن يتقبل منا صالح الأعمال، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول، فيتبعون أحسنه، أقول قولي هذا وأستغفر الله تعالى لي ولكم، فاستغفروه دائمًا إنه هو الغفور الرحيم.
أيها الإخوة المسلمون الكرام، هذه سورة الصافات المكية، السورة العظيمة التي تركز على جانب العقيدة أيضًا؛ لأنها نزلت في هذا العهد الذي كانت تُبنى فيه العقيدة وتؤسس في النفوس، مؤكدةً وحدانية الله تبارك وتعالى، وهذا هو أركن أركان العقيدة وأعظمها، وحدانية الله، وترجمة هذه الوحدانية في الكلمة الجميلة اللطيفة، أفضل الكلمات على الإطلاق، لا إله إلا الله، تلكم الكلمة السهلة التي يتفوه بها كثيرٌ من الناس، وكل المسلمين يقولونها سهلةً لا يبذلون فيها جهدًا، ولا يجدون فيها عناءً، لكن في الحقيقة التوحيد ليس كلمة، ليس شعارًا، التوحيد ليس إعلانًا نعلقه هنا أو هناك، التوحيد ليس كتابًا نحفظه، التوحيد واقع، التوحيد حياة، فمن التوحيد ألا أقبل توجيهًا من أحد يخالف ما شرع الله، ألا أقبل توجيهًا من أحد أمرًا أو نهيًا يخالف شرع الله تبارك وتعالى، وبكل هدوء لو اضطررت إلى ذلك، أو تعارضت دنياي مع شريعة ربي الواحد، أُضحي بالدنيا، أستغني عنها وأوثر وحدانية الله تبارك وتعالى، حينما أضطر إلى ذلك ضرورة حياة أو موت... ساعتها لي الرخصة أن أقولها بلساني وقلبي مطمئنٌ بوحدانية الله، وأنا أعلم أنه لا حق لأحدٍ أن يشرِّع غير الله سبحانه وتعالى، ولكن أقولها بلساني الله سمح بذلك: ﴿ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ﴾ [النحل: 106]...





والسيدة سمية رضي الله عنها قبل زوجها وولدها، ففضلت أن تموت على أن تقول كلمةً تسيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو تشينه، وقتلت وماتت مسجلةً بدمائها الشريفة أول شهيدٍ في الإسلام[6]، امرأة، الإسلام يصنع رجالًا حتى من النساء، لكن لا نصطدم مع أحد، الإسلام مسالم، الإسلام سلام، الإسلام هدوءٌ ومعايشة وحياة، فأعيش بتوحيد الله تبارك وتعالى لا أكتفي بهذه الكلمة، كيف أقول: لا إله إلا الله، وأنا أفعل أمورًا تعارض شرع الله عز وجل، كيف لامرأة مسلمة تكره النقاب أو تشمئز منه، وقد شرعه الله في القرآن والسنة، وتزعم أنها موحدة، وتقول: أنا مؤمنة وموحدة بالله، وأقول: لا إله إلا الله، قولك يخالف صنعك، نعم تقولينها، نعم تدعينها، لكن الواقع مخالف، لا تلبسين النقاب.. ولكن لا تكرهيه، فإنه شرع الله، لا تفضلي عليه التبرج أو غيره، فإنه شرع الله ولا يَفضُله شيء، لا تكرهي من فعلَته، فإنها خيرٌ منك وأفضل منك إيمانًا وتدينًا، يا أيها الزوج، يا ناظر المدرسة، يا ولي الأمر في أي مكان، اتَّقِ الله، والله ستسألون: ﴿ فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ ﴾ [الأعراف: 6]؛ أعلى ولي أمرٍ في الدنيا هو رسول الأمة صلى الله عليه وسلم، سيسأل ﴿ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ﴾ [المائدة: 109]، ﴿ فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [الأعراف: 6]، ويقول سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم: (كلكم راعٍ وكلكم مسؤولٌ عن رعيته)[7]، أنا زوجٌ ليس لي شأن أنٌ أن آمر زوجتي بخلع نقابها، لأنها لن تنتقب أمامي إنما تنتقب على غيري، وأنا محرمها وزوجها، فلي منها ما أعلم وتعلمون وهي تعلم كذلك، إنما تنتقب على الآخرين الذين ليست لهم عندها نظرة، ولا مددٌ بشيء من عورة، لا يستحقون أن يروا منها شعرة، فإنها تحتجب عنهم، فنشجعها ونحييها، ولتتقِ الله يا وليَّها ولا تنهها عن ذلك، فقد تدخلت فيما شرع الله، ليس النقاب وعدم النقاب من حق الزوج، إنما هذا حق الله عز وجل، أما أنت كزوج، فالله علمها كيف تعاملك، وأنت ترى هذا في واقع حياتك، والنقاب لا يعطل أمرك في شيء، يا أيها الأب اتَّقِ الله في بناتك، يا مدير مدينةٍ جامعية، يا عميد كلية، يا ناظر مدرسة، في أي مكانٍ وفي أي موقعٍ، اتق الله، اؤْمُر بما أمر الله به، وانْهَ عما نهى الله عنه، ودعوكم من الشبهات التي لا قيمة لها، فإن من أراد التخفي لن يتخفى فقط تحت نقاب، ربما يتخفى الرجل بثوب نساء، وتتخفى المرأة بثوب رجال، وقد مُثِّل هذا للناس، ورأوا كيف يصنعونه، وقد وقع في واقع الحياة، تخفى الناس في غير النقاب، وارتكبوا جرائمَ، وسرقوا وقتلوا ونهبوا، في ثوب القاضي وفي ثوب الشرطي، وغير ذلك صنعوا كثيرًا، فليست هي الصورة الواحدة التي يختفي وراءها المجرمون، وإن استغلها فيستغلها المجرمون، أما أصل أهلها فإنهم كما نحسبهم صالحون، أما من يستغلها أو غيرها من الصور في التخفي، فعليه جزاؤه، ويوقِّع عليه العقاب الذي يستحقه بما يحفظ أمن البلاد والعباد، ولا يعارض أحدٌ في ذلك، وقلت قديمًا كلمةً ربما نُسيت أو تغير الناس الذين استمعوا إليها أُكررها اليوم، فلنعتبر أن المنتقبة فرضًا محالًا واحدة من شياطين النساء لبست النقاب، شيطنتها بينها وبين ربها، شيطنتها على نفسها، لكن هي معي في الطريق في الميدان في العمل هنا وهناك، حافظت على عيني، فلم تسبب لي عناءً في غض البصر، لم تسبب في قلبي فتنةً، فرأيتها أجمل من امرأتي في البيت، وقد ذهبت إلى الشارع بأبهى زينتها، فأنعي حظي في زوجتي التي ابتلاني الله بها، أو لم تكن في جمال هذه المرأة، غطت كل شيء، فلم أر شيئًا، فلا عناء في غض البصر، ولا فتنة في القلب، ولا يفتنني الشيطاني بمحاولة معاكستها وملاطفتها، ونحو ذلك، إنما النقاب فعل أفضل النساء، نساء النبي، أمهاتنا، أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، فعلى الأقل من فعلته إنما هي تبغي التشبه بهؤلاء الفضليات اللاتي لا يفضلهن أحدٌ، ولا يساويهن في الفضل أحدٌ من رجل أو امرأة، فإنهن خيِّرات حِسان، رضي الله عنهن وأرضاهن.
ومن سلك طريق الفضيلة وراء الفضلاء، فمن نهاهنَّ عن ذلك ومن أبعدهنَّ عن ذلك، فليس من العقلاء ولا من الفضلاء، إنما يبغون الرذيلة...
وفَّقنا اللهم لما تحب وترضى، يسر لنا أمرنا، وفقنا يا ربنا للتوحيد القولي والعملي، وفقنا أن نوحدك بأبداننا وقلوبنا وأقوالنا وأفعالنا يا رب العالمين، اللهم ابنِ لنا في قلوبنا مبنى صحيحًا للعقيدة الإسلامية، اللهم كما مننتَ على أصحاب رسولك، منَّ علينا حتى نعرفك حقَّ معرفتك، ونقدرك حق قدرك، ونقيم للنبي صلى الله عليه وسلم مقامه، ونحفظ للكتاب العظيم حرمته، وللسنة المطهرة حقها، حتى نلقاك وأنت راضٍ عنا غير غضبان.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــ
[1] اسمها المشهور المتفق عليه (الصافات)، وبذلك سميت في كتب التفسير وكتب السنة وفي المصاحف كلها، ولم يثبت شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم في تسميتها؛ اهـ؛ التحرير والتنوير (23/ 81).
[2] انظر: لسان العرب (9/ 194).
[3] انظر: تفسير ابن كثير (7/ 5).
[4] انظر: الإتقان في علوم القرآن (1/ 157).
[5] انظر: تفسير ابن كثير (7/ 5).
[6] انظر: السيرة النبوية لابن هشام (2 /68)، صحيح السيرة النبوية، إبراهيم العلي: (ص97، 98).
[7] أخرجه البخاري (7138)، ومسلم (1829).

رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/131421/#ixzz5a1Fvu700