هجمات قراصنة الغرب ضد دولة المماليك البحرية
د. يوسف بن نصرة الله محمد[·]
المقدمة:
الحمد لله والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ... أما بعد:
تعد العلاقات بين الشرق الإسلامي والغرب المسيحي في زمن الحروب الصليبية من الموضوعات التي مازالت تحتاج إلى دراسة مستفيضة ، وتمثل القرصنة ([1]) إحدى مظاهر هذه العلاقة، ولكن هذا المظهر غير مقبول عالميا، لأن القوانين الشرعية تحرمه.
والقرصنة في العصر المملوكي الأول لعبت دورا بارزا في العلاقات بين المسلمين والصليبين، كما أسهمت القرصنة في أوضاع الصليبين من حيث القوة والضعف، وأثرت على الجانب الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والعسكري لديهم، حيث تكبدوا خسائر فادحة من تلك الأعمال، وشاركت أيضا في تشكيل السياسة الصليبية العامة تجاه المسلمين، كما شاركت في غالبية الصراع بين الطرفين بصورة غير مباشرة أحيانا، وبصورة مباشرة وفعالة في أغلب الأحيان. ومما لاشك فيه أن القرصنة تهدد طرق النقل البحري والتجاري، فهي إذن تمس حياة الإنسان ومصالحه، مما يدفع إلى الأخذ بأن القرصنة في عصر المماليك يمثل تاريخا وحدثا هاما يدفع إلى التعرض إلى جانبا هاما في تاريخ الحروب الصليبية.
وقد ساندت بعض الحكومات عمليات القرصنة، إضافة إلى الدعم الذي يقدم للقراصنة من المال والرجال أحيانا، وقد كتب لنا التاريخ عن مواقف لملك قبرص ورودس ودورهم في التعاون مع القراصنة ضد دولة المماليك، وعندما تأكد المماليك كان لابد من الأعمال الحربية ضد قبرص ورودس وهو تأمين التجارة المصرية في البحر المتوسط ضد أعمال القرصنة والذي تطلب القضاء على ما يقي من أركان الصليبين في المنطقة وخاصة قبرص ورودس حيث كان يحكم قادتهم فكرة قتال المسلمين والدفاع عن جميع القوى المسيحية ضد خطرهم. وإذا كانت السمة العامة لتوظيف الأداة القتالية كرد فعل لتحريك الحرب إلا أن الدولة المملوكية البحرية شهدت أيضا استخدام الأداة في الفتح وإن كان هذا الخطر محددا في تاريخ المماليك، ومن ذلك تحرك الدولة المملوكية في عصر الناصر محمد والذي يعد عصره من أعظم عصور التاريخ المملوكي حيث تنوعت سياسته ما بين الفتح والدفاع. ومن أهم الأحداث الخارجية في عهده توجه مصر المملوكية نحو الجنوب ومن ثم كانت حملاته المتوالية الأربع على مملوكة النوبة المسيحية والتي تمكنت من إقامة أول ملك مسلم على تلك البلاد.
أهمية الموضوع:
تأتي أهمية البحث في هذا الموضوع من الناحيتين العلمية التطبيقية والنظرية، فمن الناحية العلمية يواجه الأمن البحري تحديات ومشكلات عديدة سواء على المستوي الدولي أو الإقليمي وقتذاك، لاسيما وأن حركة النقل البحري كانت لها قيمة كبري في التبادل التجاري، أو في نقل آلاف المسافرين بين دولة المماليك البحرية وكافة الدول في الغرب. وتعتمد القرصنة على القوة واستخدام السلاح في الاعتداء على السفن في جهات متعددة من البحر المتوسط، إضافة إلى ذلك فإن القرصنة تطورت على مر السنين، فقد كانت تشكل خطرا على السفن في البحر فقط، ثم تطورت فأصبحت تشكل خطرا على المدن الساحلية، وصارت القرصنة تمد يدها على سكان السواحل، ويقومون بالسلب والنهب وخطف الأسرى من المدن الساحلية، ومن ثم يطالبون بالفدية قبل رحيلهم وهم على سفنهم، وقد سجل التاريخ العديد من هذه الحالات لعمليات القرصنة. ومن هذا المنطلق تأتي أهمية البحث في هذا الموضوع في سبيل لفت الأنظار إلى خطورة حركة القرصنة وبيان التدابير الوقائية لمواجهتها والحد من آثارها على أمن الملاحة التجارية والنقل البحري، كما تلقي هذه الدراسة الضوء على الجهود التي قامت بها الدولة المملوكية البحرية لمواجهة القرصنة.
دواعي اختيار الموضوع:
تعد القرصنة البحرية من الأعمال التي تؤثر على المجتمعات الإنسانية، ومعلوم أن القرصنة عرفت منذ قديم الأزل.
ظهرت القرصنة البحرية مع ظهور الملاحة البحرية في العالم القديم، والفينيقيون أول من ركب البحر ثم الإغريق، ودخلت القرصنة مع بعض قبائل الإغريق، وبمرور الزمن وصلت إلى البحر الأبيض المتوسط، وأخذت تهدد الإمبراطورية الرومانية وقتذاك، ثم انتقلت إلى بعض الأوروبيين الذين مارسوها على بلاد المسلمين بعد ظهور الإسلام. ([2])
اتجهت القرصنة اتجاها مغايرا بعد تطور الملاحة وحركة النقل وأصبحت تتسم بالخطورة والقسوة وتنطوي على الاعتداء المباشر على النفس والأموال، ولذا لابد من إيضاح جوانبها الأساسية، من حيث الأسباب، وأماكن انتشارها، أو من حيث مخاطرها وآثارها على الدولة الإسلامية بكافة نواحيها، والتدابير الضرورية لمواجهتها.
حدود الدراسة:
الناحية الموضوعية: تنحصر الدراسة من الناحية الموضوعية على القرصنة البحرية فقط، بمعني أنها تشمل الاعتداء على السفن الإسلامية أو الاعتداء على سواحل المدن الإسلامية، إضافة إلى ذلك بيان مفهوم القرصنة وأسباب ظهورها، وتأثيرها على العلاقات الدولية، وموقف القوى الإسلامية منها والتدابير الوقائية لمواجهتها وآثارها.
الناحية الزمنية: إلقاء الضوء على كل أعمال القرصنة التي تعرضت لها دولة المماليك البحرية (648- 783هــ/ 1250- 1381م).
الناحية المكانية: تنحصر الدراسة من الناحية المكانية على البحر الأبيض المتوسط وسواحل مصر والشام.
مصطلحات الدراسة:
القرصنة البحرية لغة: القرصان لص البحر، والقرصنة: السطو على سفن البحار. ([3]) والقرصنة اصطلاحا: هي اعتداء مسلح يقوم به طاقم سفينة في أعالي البحار على سفينة أخرى بقصد النهب والسلب ([4]).
التعريف الإجرائي ([5]): يقصد بالقرصنة في هذه الدراسة: ما قام به مجموعة من البحارة الفرنج أو الإيطاليين أو القبارصة أو غيرهم من أعمال العنف غير المشروع الموجه ضد دولة المماليك البحرية، لتحقيق منفعة اقتصادية أو سياسية في البحر المتوسط.
السطو في اللغة: السطو، يقال سطا عليه وبطش به وقهره، وسطا اللص على المتاع، انتهبه في بطش. ([6]).
والسطو على السفن في الاصطلاح: أي عمل من أعمال العنف أو الاحتجاز أو أي عمل من أعمال السلب أو التهديد بالسلب.
غير أعمال القرصنة يكون موجها ضد سفينة أو ممتلكات على متن تلك السفينة. ([7])
التعريف الإجرائي: يقصد بالسطو في هذه الدراسة: أعمال العنف غير المشروع من سلب ونهب يعتمد على التهديد دون القتل على البحر أو السواحل.
السفن: جمع سفينة، وهي: كل منشأة قابلة للتنقل والتوجيه وتقوم بالملاحة البحرية. ([8])
السفن في الاصطلاح: جمع سفينة وهي كل منشأة قابلة للتنقل والتوجيه وتقوم بالملاحة البحرية على وجه الاعتبار. ([9])
التمهيد
الجذور التاريخية للقرصنة.
القرصنة الصليبية قبل فترة الدراسة.
المبحث الأول: التعريف بالقرصنة البحرية.
الأهداف والدوافع السياسية والاقتصادية والدينية للقرصنة.
تأثير القرصنة على العلاقات الدولية.
القوى الأوربية (البابوية والكنيسة) وموقفها من القرصنة.
موقف القوى الإسلامية من القرصنة.
المبحث الثاني: حوادث القرصنة الأوربية في بحار المسلمين.
القراصنة في سواحل الشام.
القراصنة في سواحل مصر.
القراصنة في أواسط البحر المتوسط.
المبحث الثالث: مواجهة المماليك للقرصنة الأوربية
تطهير الساحل الشامي من القرصنة.
تطهير سواحل مصر من القرصنة.
تطهير أواسط البحر المتوسط.
المبحث الرابع: آثار القرصنة على البلاد الإسلامية
الآثار الاقتصادية.
الآثار السياسية.
الآثار العسكرية.
الآثار الاجتماعية.
الخاتمة: النتائج والتوصيات.
الملحق: خريطة المدن الساحلية في بلاد الشام.
المصادر والمراجع.
الفهرس.
التمهيد
القرصنة البحرية في القرآن الكريم وجذورها التاريخية قبل الميلاد:
أولا: ورد ذكر القراصنة البحرية في القرآن الكريم كأحد صور القرصنة والاعتداء على السفن في سورة الكهف في قصة موسي عليه السلام مع الخضر في قوله تعالي: (وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)) [الكهف]، وذكر ابن كثير -رحمه الله- أنه ملك من الظلمة ([10])، مما يدل على وجود أعمال القرصنة الغير مشروعة التي تعترض الملاحة ووسائل النقل في البحر منذ ذلك العهد قبل الميلاد، وهنا لابد من الإشارة إلى أن القرصنة في الآية تختلف عن القرصنة في مفهومها القانوني العام، لأنها تمت من قبل الملك وهو صاحب السلطة كما تشير الآية الكريمة لكنها تعد اعتداء وعملا غير مشروع تنفذ بواسطة قراصنة البحر، لأنه من المستبعد أن يباشر الملك ذلك بنفسه، وهذا النوع من القرصنة البحرية الذي تتداخل فيه المصالح الخاصة للقراصنة مع مصالح الحكام وتطورت بشكل ملفت في فترات لاحقة.
ثانيا: نشأة القرصنة البحرية: يري بعض الباحثين أن تاريخ القرصنة البحرية يرجع إلى أكثر من (3000) سنة قبل الميلاد هذا من حيث وجود الجريمة أما التسمية فتشير الوثائق إلى استخدام اسم القرصنة لأول مرة منذ حوالي (140) سنة قبل الميلاد بواسطة المؤرخ الروماني (بولييس) ([11]) كما أشار المؤلف (كريزستوف ويلكزينسكي) إلى وجود وثائق تاريخية قديمة منها مخطوطة على لوح من الطين ترجع إلى عام (1350) قبل الميلاد منذ عهد الفرعون اخناتون تدل على وجود أعمال القرصنة في البحر الأبيض المتوسط وشمال أفريقيا ([12]) وقد تزايدت أعمال القرصنة البحرية في البحر الأبيض المتوسط وحدثت غارات متكررة من القراصنة على السفن التجارية اليونانية في القرنين السادس والسابع قبل الميلاد، وأصبحت تدفع فدية مقابل إطلاق سراح بعض التجار اليونانيين، وبعد ذلك في حوالي القرن الثالث قبل الميلاد لجأ بعض حكام المدن الساحلية على البحر الأبيض المتوسط إلى التعاون مع القراصنة اتقاء لشرهم ولتوفير شيء من الحماية لسفنهم وموانئهم، وكانت جزيرة (رودس) هي مأوى القراصنة في هذه الحقبة كما تعرضت التجارة الفينيقية واليونانية والرومانية لغارات القراصنة، ولم يكن هناك نية جادة للتخلص من القراصنة، لأنهم كانوا يمدون الأسواق بالعبيد وتجري التعاملات التجارية بما يغتصبونه من بضائع يجلبونها إلى الساحل، كما فضل القراصنة في القرن الثاني قبل الميلاد اللجوء إلى سواحل تركيا لتكون قواعد لهم، نظرا لطبيعتها الجغرافية التي توفر لهم الملاذ الآمن ثم الهجوم على شواطئ شمال إفريقيا وإيطاليا واليونان وسوريا، ويمكن أن نعتبر تلك الفترات مرحلة أولي من تاريخ القرصنة البحرية. ([13])
ومع بداية القرن الثاني قبل الميلاد ظهرت مرحلة أخرى وهي مرحلة انتشار هجمات القراصنة بشكل واسع، وظهر لهم نمط وأعراف، وملابس تميزهم عن غيرهم، نتيجة لرضا روما عن هذه الأعمال حيث سمع للقراصنة بالانتشار، لأنها تحقق مصالح وأهداف حكومتها في ذلك الوقت كما ساعدت على ذلك الأحوال الاجتماعية والاقتصادية التي كانت سائدة، وأصبح للقراصنة قوة كبيرة تهدد التجارة في مناطق مختلفة، وتشير بعض الروايات التاريخية إلى وجود أنظمة تقيد عمل القرصنة في العصور الرومانية فأحد المخطوطات في دلهي وهي عبارة عن وثيقة عمرها (100) عام قبل الميلاد ورد فيها "على أن المواطنين الرومان يستطيعون التصرف دون التعرض للخطر مهما كان العمل الذي يرغبون فيه" ([14]) وأرسلت نسخ من التنظيم بواسطة مندوب إلى ملوك قبرص، والإسكندرية، وسوريا، لإبلاغهم بأنه يمنع أي قرصان من استخدام المملكة أو أراض، أو أقاليم أي حليف للرومان كقاعدة لعمليات القرصنة البحرية، ويمنع أي موظف رسمي، أو حامية من إيواء القراصنة البحريين، وأن هؤلاء الملوك يعتبرون متعاونين من أجل سلامة الجميع، وبعد أن ظهرت خطورة القراصنة البحريين على التجارة، نظرا لميل حكام المدن الساحلية الأخرى إلى التعاون معهم، اضطرت إلى التوجه لمكافحتهم وأصدرت الحكومة أمرا بتفحص عدد القراصنة في سبيل الحد من خطورتهم، والتي أصبحت تهدد الرومان حيث كان يتعرض الكثير من القرويين منهم للأسر، وأصبحت تهدد النشاط التجاري في البحر الأبيض المتوسط خصوصا سفن نقل الأغذية والحبوب ([15]) وفيما بين عامي (75- 77) قبل الميلاد أرسل أحد قادة الرومان ويدعي سيرقيلوس قوة لمساعدة حلفائه بالمقاطعات الأخرى في محاولة من روما لتحجيم أعمال القراصنة بعد أن بلغت ذروتها في ذلك الوقت، وتلا ذلك قيام روما بحملات عسكرية عديدة على قراصنة البحر الأبيض المتوسط، ورغم ذلك استمرت أعمال القرصنة على وتيرتها إلى ما بعد الميلاد. ([16])
ويتضح لنا مما سبق أن القرصنة البحرية يرجع تاريخها إلى ما قبل الميلاد بقرون وظهرت وتواجدت بصورة مختلفة خلال تلك الحقبة الزمنية التي تتضمن مرحلتين، وتجدر الإشارة إلى أبرز صورها وهي التي جاء تأكيدها في القرآن الكريم، كما جاء في قصة موسي عليه السلام، والتي عرضت بعض الأعمال غير المشروعة التي تجري في البحر، وتهدد سلامة الملاحة فيه ويشترك فيها الحكام مع القراصنة لتحقيق مصالحهم، ونجد هذه الصورة في الروايات التاريخية مثل علاقة الحكومة الرومانية وغيرها بالقراصنة البحريين التي استندت إليهم واستعانت بهم لتحقيق مصالحها آنذاك.
القرصنة البحرية بعد الميلاد
استمرت أعمال القرصنة بعد الميلاد على نحو قريب من أوضاعها قبله من حيث الانتشار في البحر الأبيض المتوسط رغم استمرار الحملات الرومانية التي تعمل على محاربة القراصنة، وفي هذه الفترة وجد أقدم تعريف للقرصنة البحرية من المؤرخ الروماني (بلوتارش) والذي كتب تعريف القرصنة في العام (100) ميلادي حيث وصف القراصنة "بأنهم أولئك الذين يهاجمون دون وضع قانوني ليس فقط السفن ولكن أيضا المدن البحرية" ([17]) وتذكر إحدى الروايات الإغريقية القديمة (أثيويبيكا) التي تعود إلى القرن الثالث ميلادي قصص وروايات عن حوادث تعترض لها الرحلات البحرية عن عمليات سرقة واعتداء وتعذيب، وتشر بعض النقوش إلى نشاط القراصنة في الأربعينات من القرن الرابع حيث كان يحتفل الطاغية ميثيامنا في ليسبوس لتحريره عدد من سكان أثينا الذين أسروا بواسطة القراصنة ([18]) ويمكن اعتبار هذه مرحلة ثالثة من تاريخ القرصنة البحرية وإن كانت متشابهة لحد كبير مع الفترة الثانية التي قبل الميلاد.
أما المرحلة الرابعة فبدأت في حوالي 183هــ/ 800م أو قبل هذا التاريخ حيث ظهر في شمال أوروبا أشهر القراصنة في هذه الحقبة، وهم ممن يسمون بالفايكنج من شعوب شمال أوروبا- دول الدانمرك والسويد والنرويج حاليا- والذين اكتسحوا بحر البلطيق، والقنال الإنجليزي بين عام 183هــ/ 800م و493هــ/ 1100م([19]) وقد اشتهر الفايكنج بالعنف، والقسوة، والنهب، والاغتصاب، وتوغلوا في الأراضي الروسية وأسسوا مدنا وفتحوا الطريق إلى القسطنطينية (اسطنبول)، وحاربوا في شمال فرنسا حيث استولوا على منطقة نورماندي شمال فرنسا واستقروا هناك بموجب معاهدة عام 298هــ/ 911م مع ملك فرنسا (شارل الثالث)، وبحلول القرن الحادي عشر أسس الفايكنج الإمبراطورية الاسكندينافية في بحر الشمال مكونة من السويد والدانمرك والنرويج. ([20])
كما ساهم القراصنة أو من يسمون بالغزاة البحريين الأندلسيين أو المغاوير([21]) في فتح أقرطش سنة 212هــ/ 827م وهي (إحدى مدن الأندلس) وكانوا يشتغلون بالنهب على السواحل الجنوبية لإيطاليا وفرنسا وجزر البحر المتوسط مثل صقلية وأقربطش، وينبغي أن نشير هنا إلى أن الأعمال غير المشروعة التي يقوم بها هؤلاء القراصنة لم تكن تتم بموافقة رسمية من حكومة قرطبة في ذلك الوقت ([22]) وعلى هذا الأساس نستنتج -مما سبق ذكره- أن الأندلس كانت تضم قواعد بحرية ينتمي إليها جماعة من البحريين الذين كانت لديهم خبرات كبيرة ودراية متوارثة في شؤون البحر، وأن معظم هؤلاء كانوا مولدين، ونصارى وأقلهم كانوا من العرب والبربر، وأن هؤلاء البحريين كانوا يشتغلون إما بالتجارة بين المغرب والأندلس أو بالغزو البحري الذي يعرف بالقرصنة البحرية. ([23])
وفيما يتعلق بالقرصنة في عصر الدولة الأيوبية نجد أن الأسطول البحري الذي أنشأه صلاح الدين كان من ضمن أهدافه دحر حركة القرصنة في البحر المتوسط والبحر الأحمر إذ أن القراصنة كانت لهم محاولات في تلك البحار، فمن ذلك:
واجهت بحرية صلاح الدين الأيوبي في عباب البحر المتوسط قراصنة يصل عددهم إلى 375 مقاتلا في عام 579هــ/ 1183م ودار بين الطرفين صراع قوى استطاعت البحرية الأيوبية من الظفر بهم وأسروا مجموعة منهم وعادوا بالغنائم إلى مصر. ([24])
جنح القبارصة في عام 604هــ/ 1207م إلى الاستيلاء على عدة قطع من الأسطول المصري، فأثار ذلك السلطان العادل، ثم دارت مراسلات نتج عنها رد الأسري المسلمين. ([25])
كرر القراصنة القبارصة هجومهم ثانية على الشواطئ المصرية غرب دمياط في عام 609هــ/ 1210م ولكن الأسطول البحري ضيق عليهم وقتل قائدهم وكل من كان معهم. ([26])
وخلاصة القول نلاحظ أن للقرصنة تاريخ طويل، وقد تعرفنا على جذور القرصنة وتتبعناها عبر التاريخ، والجدير بالذكر أن لحركة القرصنة أهداف ودوافع تختلف حسب الظروف والأزمان، كما نلاحظ أيضا أن البحر المتوسط كان مرتعا للقراصنة، لاسيما وأنها تعتبر من أهم البحار التجارية، إذ أنها تطل على عدة دول مثل تركيا وإيطاليا وفرنسا وأسبانيا وبريطانيا وغيرها من الدول، فكانت السفن التجارية هي الهدف الأول للقراصنة.
المبحث الأول
التعريف بالقرصنة البحرية
الأهداف والدوافع السياسية والاقتصادية والدينية للقرصنة:
الدوافع السياسية:
ظهرت العديد من الأعمال للقيام بمحاولة استرداد الإمارات الصليبية بعد أن نجح المسلمون في طرد الفرنج من أراضيهم، ومن تلك الأعمال إعادة النظر في التنظيمات الخاصة بالدول الأوربية ومحاولة توحيد الأطراف المتنازعة والرجوع إلى مبدأ التعاون بين الدول الأوربية من أجل بناء جيش قوى للقضاء على المسلمين في مصر والشام، ومن أجل تحقيق هذا الهدف كان لابد من دراسة وافية عن شعوب الدول الأوربية، وقد ظهرت عدد من الدراسات أفادت أنه لابد من التعاون والاعتماد على القراصنة الذين لديهم المعرفة الكاملة عن أسطول المسلمين العسكري والسفن التجارية الخاصة بالمسلمين، إضافة إلى معرفتهم بطرق البحر المتوسط. وقد أثار هذا الرأي لجة بين المسئولين فمنهم المؤيد ومنهم الرافض، وقد كان لهذا الرأي وهو الاعتماد على القراصنة أثر بين المشتغلين في البحار بل وشجعتهم على القيام بأعمال القرصنة ضد المسلمين من أجل التوسع بالقوة أو بأي طريقة لتحقيق التكامل السياسي بين دول أوربا. ([27])
ولقد أدي نمو الروح القومية في أوربا، وقيام الدول ذات سلطة مركزية إلى حد ما، وهي تختلف إلى حد كبير عن ملكيات أوربا، إلى اتجاه هذه الدول الحديثة إلى توسيع أملاكها داخل أوربا أو خارجها، إرضاء لحب السيطرة والاستحواذ وتكوين الإمبراطوريات الاستعمارية فيما وراء البحار. وقد اتضح ذلك بعد أن وصل الفرنج إلى السواحل المصرية والشامية وعملهم على إنشاء إمبراطورية ساحلية قوية تقبض على تجارة الشرق، وتقوم بعملية وأد للوجود الإسلامي العربي في جميع البحار الشرقية. كذلك اتضحت الرغبة في إقامة الإمبراطوريات، كذلك كان للوضع السياسي والحربي في أوربا دورا لا بأس به في دفع حركة الاستعمار والسيطرة إلى أوربا بأي طريقة كانت ولو وصل الأمر بمساندة القراصنة للتحقيق هذا الهدف، فالتطاحن بين كل من إنجلترا وفرنسا -على سبيل المثال- في القرن السابع والثامن الهجري/ الثالث عشر والرابع عشر الميلادي حتى ولو لم يكن ظاهرا فإنه قد ظهرت ملامحه، وكان له دور فعال في حركة الدولتين الاستعمارية خارج أوربا بصفة عامة وحول آسيا بصفة خاصة. وقد يكون للأوضاع السياسية الداخلية في بعض الدول الأوربية، أثر في دفعها إلى التنفيس عن نفسها في الخارج والتسلط والاعتداء على الآخرين، لأنهم يملكون القوة في قرصنة سفن المسلمين من أجل الضغط على دولة المماليك لإخضاعهم لشروطهم أو لإضعاف قوة المماليك حتى إذا ما أرسلوا حملة صليبية استطاعوا هزيمة المسلمين في مصر أو الشام. ومن ناحية أخرى فقد دفعت حالة القلق الداخلي التي كان يعاني منها الشعب الفرنسي، الحكومة إلى التفكير في تحويل نظر الشعب عن المشاكل والاهتمامات الداخلية، بفتح مجالات خارجية استعمارية تكون أكثر جاذبية لتفكيره عن الوضع الداخلي. وهكذا ساهم حب امتلاك المستعمرات، وشهوة إقامة الإمبراطوريات المترامية الأطراف، المصاحبة لنمو الروح القومية، إلى جانب الصراع السياسي الداخلي في بعض الدول، في دفع كثير من الدول الأوربية ذات القوة البحرية إلى الدخول في زمرة الدول الاستعمارية، التي استهدفت مصر والشام خاصة بعد سقوط الإمارات الصليبية، فكانت تحاول بشتى الطرق والوسائل السيطرة على تلك المناطق حتى وإن كانت تلك الطرق محرمة مثل القرصنة، المهم أن المصالح تتحقق بامتلاكهم القوة. وقد أشار سانوتو ([28]) إلى تلك الدوافع السياسية التي تحقق أهدافهم. ([29])
وقد أشار متى باريس إلى أن ملك انكلترا أرسل أوامره إلى سادة الموانئ بإلحاق الأذى بالتجار والمسافرين فقام هؤلاء الرجال على الفور بتنفيذ أوامر وانخرطوا بأعمال النهب والسلب بوحشية تجاوزت كل الحدود وقد سموا بالقراصنة آنذاك. ([30])
الدوافع الاقتصادية:
لعل العامل الاقتصادي له تأثير كبير على الإنسان فقد كان سببا قويا في الهجرات والثورات والحروب وحتى في القرصنة، خاصة إن كانوا هؤلاء القراصنة يميلون إلى الفقر فإنهم يفكرون في الكسب السريع وخاصة تلك المجموعات التي تعيش في جزر البحر المتوسط أو على السواحل وليس لهم أي عمل سوى الصيد. فقد كانت الأموال والبضائع التي يحملها المسافرون على السفن هو الدافع الاقتصادي الأول للقراصنة في البحار حيث أن الاستيلاء على السفن والنهب والسلب وبيع ركاب السفن كعبيد له مردود كبير عليهم. ([31])
إن التجارة هي التي دفعت بالأوربيين والآسيويين إلى الاتصال ببعضهم، والأوربيون هم الذين بدءوا ذلك الاتصال وليس العكس. وإذا كانت الصلات التجارية بين أوربا وآسيا لم تتوقف في أية فترة من فترات التاريخ، وإن كان الشلل والركود قد أصابها لعدة قرون خلال التاريخ الأوربي الوسيط، فما كادت الفوضى الإقطاعية أن تنحسر عن أوربا، وتحسنت الأوضاع الاقتصادية نسبيا، وازداد النشاط الاقتصادي حتى اندفع الأوربيون في طلب السلع الشرقية التي كانت البورجوازية( [32]) التجارية الإيطالية -في البندقية- تحتكرها في جزئها الغربي، بينما تحتكرها في جزئها الشرقي دولة المماليك. ورغبة الأمم الأوربية في الحصول على السلع الآسيوية ليست أمرا جديدا، فقد سعي كل من اليونانيين والرومانيين من قبل للحصول على تلك السلع ذات الإثارة والسحر، حتى قيل أن تلك التجارة التي كانت غير متعادلة بين آسيا وأوروبا من العوامل الهامة في استنزاف ثروات روما من المعادن النفيسة. وبالتالي كانت من أسباب ضعف تلك الإمبراطورية العتيدة وسقوطها. وقد جدت السلع الآسيوية- التوابل النفيسة (جوزة الطيب وقشرة جوز الطيب والقرنفل والقرفة) والفلفل والحرير والعقاقير والأقمشة والعاج، وخلافها- رواجا في أوساط أثرياء أوربا. ([33]) وأخذت هذه السلع تنقل إليهم عبر قنوات الاتصال التقليدية المتعددة، والتي كان أهمها طريق الحرير الذي يبدأ من الصين شرقا إلى شبه جزيرة القرم والبحر الأسود فالقسطنطينية غربا، ثم طريقا الخليج العربي والبحر الأحمر إلى موانئ الشام ومصر. وكان يقوم على نقل هذه السلع الشرقية بطريق الصين في معظم الأحوال آسيويون، أما على طريقا الخليج العربي والبحر الأحمر فقد قام العرب بعمليات النقل. ([34])
وأينما كانت تصل السلع الشرقية إلى الشواطئ الشرقية للبحر الأبيض المتوسط، تجد السفن الجنوبية في انتظارها بشبه جزيرة القرم، حيث وجدت مراكز تجارية للجنوبيين هناك. أما البندقية، التي تمتعت بموقع جغرافي متميز جعلها مفتاح الطريق بين الشرق والغرب، فقد استطاعت بفضل تحالفها مع سلاطين المماليك -الذين كانوا يجمعون بين مصر والشام في وحدة سياسية واحدة- احتكار السلع الشرقية الواردة عن طريقي البحر الأحمر والخليج العربي للاتجار بها في أوربا. وجدير بالذكر أن هذه الطرق سالفة الذكر، فضلاً عن طولها وقصرها كانت غير مأمونة العواقب لمرورها في مساحات أرضية شاسعة، مما كان يعرضها في كثير من الأحيان لحالات من التعدي، هذا في الوقت الذي ارتفعت فيه قيمة البضائع المنقولة عليها، وهذا ما أدي أيضا إلى اختمار الرغبة في الاتصال بمصادر التجارة الشرقية مباشرة. ([35])
إن كل ما سبق قد أثار لعاب القراصنة في صيد السفن التجارية وخاصة الإسلامية، فكثرت الاعتداءات على السفن التجارية الإسلامية من قبل القراصنة لتلك الأسباب.
الدوافع الدينية:
لما كانت الدول العربية الإسلامية تحتكر تجارة التوابل بصفة خاصة والتجارة الشرقية بصفة عامة في الجزء الشرقي في الوقت الذي كانت البورجوازية الأوربية تعمل فيه لإقصاء الاحتكار العربي الإسلامي عن التجارة الشرقية، فإن الصراع المادي بين البورجوازيتين قد اصطبغ بالعامل الديني حيث قامت البورجوازية الأوربية برفع شعار القضاء على المسلمين بتجريدهم من أملاكهم في الشام ومصر وانتزاع تجارة الشرق من أيديهم. فقام الفرنج بحمل لواء حركة دينية جديدة، بهدف تعقب القوى الإسلامية وتطويقها، والقضاء على مصدر قوتها المتمثلة في تجارة الشرق والسيطرة على طوق الملاحة المؤدية إلى مصادر هذه التجارة. ولا أدل على الطابع الديني من أن ما قاله دالبوكيرك- قائد بحري وسياسي برتغالي- في خطاب ألقاه على جنده في ملقا إن إبعاد العرب عن تجارة التوابل هو الوسيلة التي نرجو بها أضعاف قوة الإسلام. ([36])
هكذا نجحت البابوية في استغلال الدين والصراع التقليدي بين الإسلام والمسيحية في ذلك الوقت، للوصول إلى غايتها وهي السيطرة على تجارة الشرق في كل مراحلها. ومن ذلك تتجلي مهارة البورجوازية في المزج بين مصلحتها الخاصة والمصلحة العامة، لأن رفع شعار احتكار التجارة وخصوصا التوابل وانتزاعها من يد العرب لا يبعث الحماس الكافي لتنفيذ مخططات البورجوازية الأوربية إلا في صدور كبار التجار وحدهم. أما رفع شعار إضعاف الإسلام فإنه يبعث الحماس في الغالبية العظمي من شعب الفرنج الذي كان على مقربة من الوجود الإسلامي في أوربا. وقد أثمر نجاح الفرنج في المزج بين مصالحها الخاصة والمصلحة العامة عن مباركة البابوية للحركات الاستعمارية المبكرة، ليس هذا فحسب، بل أنها بادرت بالتدخل لفض النزاع بين كل بريطانيا وفرنسا عندما احتدم الصراع بينهما على الطرق التجارية. وقد قدم البابا اقتراحا لمنع التعامل مع التجار المسلمين، وهو أن من يريد الحصول على منتجات الشرق فإنه يذهب بنفسه ويحضر ما يريد. وبذلك يكون بعيدا عن الحظر الذي تفرضه الدول الأوربية على دولة المماليك. ([37])
وقد كانت البابوية على إطلاع كامل بأعمال القرصنة وهجمات الفرنج على البحر المتوسط ضد السفن الإسلامية، ويصل الأمر إلى أنها تشجع حركة القرصنة ضد المسلمين لتحقيق مصالحها.
تأثير القرصنة على العلاقات الدولية:
لم يقتصر دور القرصنة ضد النشاط التجاري الإسلامي في حوض المتوسط، بل اعتمدها الغرب الأوربي وقبرص ([38]) ورودس ([39]) لبعض عمليات القرصنة ضد المسلمين على طول الشريط الساحلي، من شواطئ آسيا الصغرى شمالا إلى الشواطئ المصرية جنوبا مرورا بشواطئ الشام وفلسطين.
وقد لجأ ملك فرنسا إلى عمليات القرصنة والاعتداء على السفن والمدن الساحلية والقلاع، للكسب السريع، وعندما سمع ملك إنكلترا بنجاحات الملك الفرنسي أرسل إلى سادة الموانئ الخمسة للاعتداء على التجار وخاصة العائدين من المملكة الفرنسية فتحولوا إلى قراصنة مارسوا أعمال النهب والسلب بوحشية على سواحل فرنسا وسواحل إنكلترا ومن جاورهم، وتعرضوا للسفن التجارية الإسلامية. ([40])
وكانت أولي العلاقات الجدية بين المماليك ومملكة قبرص قامت بعيد استيلاء السلطان بيبرس على انطاكية. فقد سارع هوغ الثالث ملك قبرص إلى عقد هدنة مع بيبرس نصت على ضمان السلطان لسلامة أراضي الجزيرة مع احتفاظ عاهلها بحق نقض الهدنة في حال وصول صليبية جديدة إلى الشام. ولكن الهدنة لا تستمر إذ تنقض بسب أعمال القرصنة، وبنفس الطريقة تسوء العلاقات بين المماليك وباقي الدول الأوربية بسبب مساندتها لأعمال القرصنة في البحر المتوسط. ومعلوم أن القراصنة يغيرون على الممتلكات والأراضي والسواحل والمملوكية في كل سوريا ومصر ويستولون على السفن المحملة بالبضائع المتوجهة إلى الموانئ المملوكية بدعم من الحكومات الموالية لهم في قبرص وأرواد ([41]) ورودس والدول الأوربية. ولم تقف قبرص عند هذا الحد بل أخذت تشارك في عمليات الهجوم مع القراصنة على الشواطئ المصرية والشامية، فقد أنفذت بعض السفن الحربية للإغارة على صيدا في ذو القعدة سنة 770هــ/ يونية 1369م ودارت معركة عنيفة بين الطرفين، وما لبثت أن انسحبت السفن القبرصية. ثم عادت السفن القبرصية ومعاونيها من القراصنة في ذو الحجة سنة 770هــ/ يوليه 1369م وأغارت على السواحل المصرية في ميناء الإسكندرية ثم اتجهت نحو رشيد ([42]) فبيروت ومنها إلى قبرص. ([43])
وخلاصة القول يتبين لنا أن هجمات القراصنة كان لها دور في العلاقات الدولية وقد يصل إلى حد التأثير على الحكومات، فقد جعلت قبرص تتجرأ في القيام بحملات ضد دولة المماليك، وجعلت باقي الدول تشارك ولو بالمال في تلك الحملات، وكانت النتائج وخيمة جدا على قبرص أو رودس كما سنتعرف على ذلك لاحقا.
- القوى الأوروبية (البابوية والكنيسة) وموقفها من القرصنة:
كانت العلاقات الودية بين مصر والدولة البيزنطية طيبة، وتصل أحيانا إلى الفتور وتعود إلى الود والمحبة، وأما علاقة مصر بالقوى الأوروبية (البابوية والكنيسة) في حوض البحر المتوسط فقد اتسمت بالعلاقة التجارية وتصل أحياناً إلى العلاقة العدائية وقد اتسمت علاقة الجنوية مع السلطنة المصرية بالقرصنة في أغلب الأحيان، وعلى حين ازدادت هجمات القراصنة الجنوبية على السواحل المصرية.
إن كل تلك العلاقات مع القوى الأوروبية (البابوية والكنيسة) تتغير بحسب مصالحها، فعندما تسوء العلاقة نجد أن القوى الأوروبية تميل لحركة القرصنة وتشجع وتبارك تلك العمليات التي يقوم بها القراصنة، ويصل الأمر إلى أنها تساند القراصنة، وهذا الأمر على مر التاريخ، فمنذ قيام الدولة الإسلامية وسيطرتها على البحر المتوسط كانت البابوية والكنيسة تعملان على هذا الاتجاه. ومن أجل تغطية عمليات القرصنة نلاحظ أن الكنيسة تدعو لحملات صليبية تبشيرية عامة لاحتلال مصر والقضاء على المماليك، فيكون ذلك بمثابة القناع على عمليات القرصنة. ([44])
ويتضح لنا مما سبق أن الباعث الديني هو الدافع الرئيس للقوى الأوروبية المتمثلة في البابوية والكنيسة لمساندة عمليات القرصنة في البحر المتوسط ضد دولة المماليك، إضافة إلى بعض المصالح الشخصية والأطماع التوسعية ومحاربة الإسلام بشتى الوسائل وهذا مصداق لقوله تعالي: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) [البقرة: 120]
موقف القوى الإسلامية من القرصنة:
يقول الله عز وجل: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ) [الأنفال: 60].
من خلال استعراض الآية نلاحظ أن القوى الإسلامية وتحديدا دولة المماليك البحرية قد امتثلت لهذه الآية، فسلاطين المماليك كانوا يعدون ويجهزون القوى بكافة أنواعها سواء كانت القوة البحرية أو جيش المشاة، وقد زاد اهتمامهم بسبب هجمات القراصنة في البحر المتوسط ضد المسلمين أن أجبروا على إعداد أسطول قوي، لمواجهة تلك الهجمات، ولحماية السفن التجارية الإسلامية في حوض البحر المتوسط، وعندما ظهر الأسطول الإسلامي على البحر قلت أعمال القرصنة، وعندما ضعف الأسطول كثرة الهجمات، وهنا لابد لنا من استعراض استعدادات المماليك البحرية لمواجهة أعمال القرصنة.
كان السلطان الظاهر بيبرس 658- 676هــ/ 1260- 1277م أول من اهتم بإنشاء قوة بحرية يستعين بها في حرب أعدائه الذين يغيرون على بلاده من جهة البحر المتوسط فيروي المقريزي: (أنه نظر في أمر الشواني الحربية، واستدعي برجال الأسطول، وكان الأمراء قد استعملوهم في الحراريق وغيرها، وندبهم للسفر وأمر بمد الشواني وقطع الأخشاب لعمارتها وإقامتها على ما كانت عليه في أيام الملك الصالح نجم الدين أيوب، واحترز على الخراج ومنع الناس من التصرف في أعواد العمل، وتقدم بعمارة الشواني في ثغري الإسكندرية ودمياط، وصار ينزل بنفسه إلى الصناعة بمصر ويرتب ما يجب ترتيبه من عمل الشواني ومصالحها، واستدعي بشواني الثور إلى مصر فبلغت زيادة على أربعين قطعة سوى الحراريق والطرائد، فإنها كانت عدة كثيرة). ([45])
كذلك أهتم بيبرس بتحصين الثغور وحفظ السواحل وتعمير الجسور المؤدية إليها، فأمر بردم مصب النيل عند دمياط ورمي فيه صخورا عظيمة، ليحول دون مرور سفن الفرنج، كما شيد برجا للمراقبة في ثغر رشيد، وعمر أسوار الإسكندرية ونصب عليها مائة منجنيق ([46]) لدفاع عنها، وجدد بناء المنار الذي بها. ([47])
وقد اتسمت سياسة السلطان بيبرس نحو الفرنج والقراصنة بطابع العنف والقسوة. والسبب في ذلك يرجع إلى أن القراصنة يعتدون على سواحل البلاد الإسلامية والسفن التجارية، إضافة إلى ذلك تعاونهم مع أعداء دولة المماليك، فنجده يرد على من اعتدي على المسلمين في البحر مباشرة دون تردد. ([48])
أما السلطان المنصور قلاوون 678- 689هــ/ 1279- 1290م فكان موقفه ليس ببعيد عن بيبرس حيث اتسمت سياسته بطابع القسوة ضد القراصنة والحذر والحيطة فمن ذلك أنه عندما استولي على طرابلس دمرها بالأرض ونقلها إلى سفح جبل خوفا من تهديد سفن قراصنة الفرنج. ([49])
كذلك أشار المقريزي إلى اهتمام السلطان الأشرف خليل بن قلاوون 689- 693هــ/ 1290- 1293م بإنشاء أسطول قوى في عام 693هــ/ 1293م، لمواجهة عمليات القرصنة والاعتداء على السواحل الإسلامية. ([50])
وما سبق يتضح لنا أن دور القوى الإسلامية البحرية ضد القراصنة كان بارزا إلى حد ما من خلال اهتمام سلاطين المماليك بالأسطول الإسلامي، لذب هجوم القراصنة عن سفن التجار المسلمين وحماية السواحل الإسلامية، إضافة إلى أنهم كانوا يهتمون بوسائل الدفاع عن سواحلهم خصوصا بعد أن تركز خطر القراصنة في الجزر المجاورة في مياه البحر الأبيض المتوسط.
المبحث الثاني
حوادث القرصنة الأوربية في بحار المسلمين
القراصنة في سواحل الشام:
يمكن القول بأن سواحل الشام تشمل العديد من المدن فهي من الشمال إلى الجنوب: اللاذقية- جبلة- بانياس المرقب- طرطوس- طرابلس- بيروت- صيدا- صور- عكا- حيفا- عثليت- قيسارية- أرسوف- يافا- عسقلان. ([51]) وبعد أن سقطت الإمارات الصليبية في الشام أخذ الفرنج يفكرون في طرق أخرى لاستردادها والعودة ثانية إلى بلاد الشام، وكان من ضمن محاولاتهم أن قاموا بهجمات بحرية على العديد من المدن الساحلية في بلاد الشام، وقد صاحب تلك الهجمات القراصنة الذين كانوا يساندونهم في كل تحركاتهم وسنعرض بعض هجمات القراصنة فيما يلي:
في سنة 665هــ/ 1266 قدمت حملة مع بعض القراصنة من قبرص بقيادة هيو ومعه 1100 فارس وشن هجوما على طبرية وكان يقود الفرنسيين جيفري سارجنس، فلحق بهم جيش المسلمين على الساحل وقتلوا منهم عددا فاضطر هيو إلى الانسحاب. ([52]) وذكر العيني أنه في نفس السنة قام أخو ملكة بيروت بعملية قرصنة ضد تجار المسلمين الذين كانوا متوجهين إلى قبرص، حيث قام بنهبهم وسلب أموالهم وأسرهم، فطالبهم السلطان برد مال التجار، فالتزموا به وأطلقوا سراح التجار وتقرر الصلح. ([53])
وفي سنة 668هــ/ 1269م وردت الأخبار بأن حملة بحرية خرجت من الغرب في سفن كثيرة يصاحبهم مجموعة من القراصنة، فبعث الله على تلك السفن ريحا أتلفت عدة منها، ولم يسمع بعدها خبر لمن بقي. ([54])
ويذكر المقريزي أن فرنج عكا ركبوا سفنهم عندما سمعوا بتلك الحملة وأرادوا الاعتداء والسلب والنهب على مدينة جنين وصفد، ولم يعلموا بهلاك الحملة فخرج إليهم جيش المسلمين وهزموهم وأسروا عددا منهم. ([55])
وفي نفس السنة أي سنة 668هــ/ 1269م خرج جيمس الأول ملك أراغون في حملة مع بعض القراصنة لمهاجمة سواحل الشام وتحديدا مدينة عكا، ولكنه عاد لسوء الأحوال الجوية، بينما واصل السير ولداه غير الشرعيين على رأس أسطول صغير، ووصلا إلى عكا متشوقين لقتال المسلمين وللنهب والسلب، وبعد عدة أيام أغاروا على المدن المجاورة، وقد تصدى لهم الجيش الإسلامي ووضع لهم كمين، فما كان من الولدين إلا أنهما عادا إلى أراغون بدون نتيجة. ([56])
كما يذكر لنا صالح بن يحيي ([57]) أن القراصنة تعاونوا مع الفرنج في عام 698هــ/ 1299م فقاموا بحملة ثلاثين سفينة في كل سفينة 700 مقاتل يريدون بيروت، فلما قربوا من الساحل أرسل الله عليهم ريحا شديدة فغرقت بعض السفن وتكسر بعضها ورجع من سلم منهم على أسوا حال وكفي الله المسلمين شرهم، وحكي عن رئيس بيروت أنه قال: والله لي خمسون سنة ألازم هذا البحر فما رأيت مثل هذه الريح التي جرت على هذه المراكب وليست هي من الرياح المعروفة عندنا. ([58])
وقام قراصنة قبرص بغارة على الدامور الواقعة إلى الشمال من صيدا في سنة 702هــ/ 1302م حيث نزلت جماعة مسلحة من الفرنج على نهر الدامور، فاشتبك معها عسكر المسلمين في معركة انتهت بتغلب الفرنج وأسروا جماعة من المسلمين، وفك أسرهم بمبالغ مالية. وبعد أربع سنوات 706هــ/ 1306م تعرضت صيدا إلى غارة بحرية عنيفة، فأخذوها وقتلوا منها جماعة وأسروا جماعة، ونهبوا منها شيئا كثيرا، وكذلك المسلمون قتلوا من الفرنج جماعة وبعثوا برؤوسهم إلى دمشق. ([59])
ومن أعمال القرصنة على سواحل الشام أنه في سنة 705هــ/ 1305م هاجم أسطول للفرنج مدينة صيدا وهي على الساحل، وأخذوها وقتلوا من أهلها وأسروا جماعة ونهبوا منها الكثير. وكذلك المسلمون فإنهم قتلوا من الفرنج جماعة وبعثوا برؤوسهم إلى دمشق فعلقوها على القلعة، وتوجه الجيش الإسلامي مع نائب صفد شهاب الدين بن صبح إلى ذلك الأسطول ولكن بعد فوات الأوان، فاشتري الأسرى من المسلمين كل نفر بخمسمائة درهم. ([60])
ويروى الدويهي (ت 1111هــ/ 1699م) عن ابن سباط أن مراكب الفرنج قصدت صيدا في سنة 756هــ/ 1355م وهاجموا المدينة وقتلوا طائفة من أهلها وأسروا طائفة أخرى، فقاتلهم أهل صيدا قتالا شديدا وقتلوا منهم عددا كبيرا، ودمروا مركبا من مراكبهم، وعند ذلك وصلت العساكر من دمشق بعد انتهاء المعركة، وبادر المسلمون بافتداء الأسرى على أساس 500 درهم لكل أسير، وأنفقوا في ذلك مبلغ 30 ألف درهم من مال ديوان الأسري. ([61])
وفي سنة 767هــ/ 1363م قام بطرس ملك قبرص بمساندة مجموعة من القراصنة القبارصة والروادسة بغارة على طرابلس ونجح في إضرام النار على أبنيتها، وهاجم اللاذقية وأنطرطوس، وكان ذلك بمعاونة النصارى الذين يسكنون تلك المناطق، وعندما رحل بطرس انتقم المسلمون من النصارى الذين اشتركوا في تلك الجريمة. ([62])
ويروي لنا النويري أن ملك قبرص بطرس لوزنيان قاد حملة إلى طرابلس الشام في سنة 768هــ/ 1364م وقد أرسل الله ريحا أهلكت بضع عشر مركبا فغرق من فيها وتفرقت بقية المراكب فمنها سالم وعاطب. ولما كان أوائل سنة 769هــ/ 1365م أتي ثانية إلى طرابلس، وقتل المسلمون من رجاله كثيرا وعائد إلى بلده خائبا. ([63])
وفي سنة 768هــ/ 1366م جهز بطرس ملك قبرص أسطولا بمعاونة القراصنة يتألف من مائة وستة عشر سفينة للإغارة على سواحل الشام، ولكن عاصفة عاتية فصلت وحدات هذا الأسطول، فلم يصل منه إلى طرابلس سوى 15 سفينة، وأطلق رجالها يد النهب والسلب في المدينة، ثم عادوا إلى قبرص. ([64])
وعاد بطرس ثانية في أول عام 769هــ/ 1365م إلى طرابلس في مائة وثلاثين مركبا، ويبدو أنه قد عرف ضعف المسلمين، وفي المرة شارك مجموعة قراصنة البندقية والجنوية والقبارصة والروادسة والفرنسيين والهنغاريين وبلغ عددهم 16 ألف فارس وشارك ملك رودس في هذه العملية، فنزلوا إلى البلدة، فتصدي لهم جماعة من أهل طرابلس ومن كان من عسكرها، وترامي الفريقان بالسهام، ثم اشتبك المسلمون معهم في قتال شديد فتراجع المسلمون إلى داخل المدينة، فما كان من القراصنة إلا أن نهبوا الأسواق، واستمر القتال بين الطرفين نتج عنه استشهاد 40 شهيد وقتل نحو 1000 رجل من الفرنج، ثم انسحب القراصنة إلى سفنهم، وحاولوا النزول في جبلة، ولكن ريحا عاصفا فرق سفنهم في البحر وصرفهم عن جبلة، واتجهوا إلى اللاذقية ولم يستطيعوا الدخول لقوة التحصينات، فاتجهوا إلى بانياس وأحرقوا السفن الراسية بها وخربوا وأخيرا أغاروا على بلدة إياس، وعندما علموا بمقدم نائب حلب بجيشه عادوا إلى بلادهم. ([65])
وفي سنة 770هــ/ 1369م توالت غارات القراصنة على مدينة صيدا بشكل متواصل من قبرص، ففي هذه السنة أغار إبراهيم بن الخبازة القبرصي أحد قواد القبارصة البحريين في غيبة ملك قبرص بسفينتين على بلدة الصرفند الواقعة على بعد 15كم جنوبي صيدا، بنية خطف نسائها ونهبها، ولكنه لم يخرج من هذه الغارة التي قتل فيها ثلاثين من أهل الصرفند إلى بعدد قليل من الأسرى يصل إلى 13 أسيرا. ([66])
وعندما تولي بطرس الثاني الحكم في قبرص 1369- 1382م أرسل حملة في سنة 771هــ/ 1369م بمساندة القراصنة إلى سواحل الشام في أربع سفن فتوجهت إلى صيد والبترون جنوبي طرابلس ثم توجهت إلى أنطرطوس واللاذقية وقاموا بالسلب والنهب والأسر ثم عادوا إلى قبرص. وبعد شهر من هذه الغارة قاموا بعملية قرصنة ثانية وأغاروا على صيدا ونهبوا ثم رجعوا إلى بلادهم. ([67])
وقام الجنويون بمساندة القراصنة القطلان والروادسة والقبارصة بغارة في سنة 780هــ/ 1378م على سواحل طرابلس، ولكنهم ردوا عنها خائبين. ([68])
وقد خرج صاحب قبرص في جماعته عام 782هــ/ 1283م مع بعض القراصنة عازما على قصد بلاد الساحل، وركب البحر، فرمته الريح إلى جهة بيروت، فخرج منها، وقصد الإغارة على تلك الجهات، وكان السلطان لما بلغه حضوره قد تقدم أمره إلى النواب بتلك البلاد لحفظ جميع الأماكن عليه، فقتلوا وأسروا من جماعته ثمانين رجلا، وأخذوا له شيئا من مال وخيل وبغال، فركب البحر وتوجه إلى صور، ولم يلبث أن هلك وأراحنا الله منه. ([69])
هاجمت سفينة جنوية أخرى صيدا في جمادي الآخرة 784هــ/ 1382م وقام الغزاة بأعمال السلب والنهب والاعتداء ثم توجهوا إلى بيروت، وقد سمعوا بخبرها في دمشق فقال أمير الأمراء: لم نلحق صيدا لكننا نتوجه إلى بيروت، فوافق حضور العساكر الشامية بيروت وصول السفينة الجنوية، فلم يتجرأ أحد من القراصنة على النزول إلى ساحل بيروت، وتوجهوا سريعا إلى قبرص. وتعتبر هذه الحادثة آخر أعمال القرصنة والتعدي على سواحل الشام في الدولة المملوكية الأولي. ([70])
ومما سبق يتضح لنا أن أعمال القراصنة شملت الاعتداء على النفس والمال والأملاك والسفن، ونلاحظ أيضا أن أساليب القرصنة قد تطورت إلى حد كبير، فقد كانت في الماضي تقتصر على السفن في البحر فقط، أما الآن فقد تجرأ القراصنة بوصولهم إلى الساحل والنزول إلى الأرض والقيام بأعمال السلب والنهب والأسر ثم الهروب. ونلاحظ أيضا أن القراصنة إذا أسروا أحد من الساحل فسرعان ما يطلبون الفدية قبل ذهابهم من الساحل كما مر بنا سابقا أن المسلمين دفعوا 500 دينار عن كل أسير. كما نرصد مدى ضعف جيش المسلمين من خلال هذه الهجمات، وكيف وصل بهؤلاء القراصنة والمعتدين أن يتنقلوا في سواحل المسلمين دون حسيب أو رقيب، مما يدل على ضعف الأسطول الإسلامي أواخر دولة المماليك الأولى.
يتبع