المؤرخ و روح التعصب
مصطفى يعقوب



القارئ لتاريخ العلم، الذي سطره - في البداية - المستشرقون، وتبعهم فيما ذهبوا إليه جمع كبير من مؤرخي العلم، رغم اختلاف مذاهبهم وعقائدهم وجنسياتهم، يجد أنهم قد أجمعوا - فيما عدا قلة معدودة - على الطعن في الإسلام كعقيدة، وفي العرب كأمة لها دورها التاريخي في الإنسانية، وأن العرب إذا كان لهم من دور في تاريخ الإنسانية، فإنه يحمد لهم الحفاظ على تراث اليونان عبر حركة الترجمة الواسعة النطاق التي حدثت في العصر العباسي، خصوصا في عصر الخليفة المأمون على نحو معروف ومشهور، أما غير هذا فلا فضل يذكر لهم. وفي هذا المجال يبرز لنا اسم إرنست رينان E.Renan (1823-1892م)، وهـو واحد من الأسمـاء اللامعــة في عالم الاستشراق، فضلا عن أنــه من مشاهــير المؤرخــين الفرنسيين، ويعد من الثقات من علمــاء اللغات المقارنــة، وكذلك في فلسفــة ابن رشــد، التــي كانت موضوع رسالتــه للدكتوراه.

ولعلنــا لا يعنينــا من رينــان سوى أمر واحد، وهــو رأيــه في علاقــة الإســلام بالعلم، فقد كرس حياتــه كلهـا لمبدأ واحد لا يتعداه، وهــو: رأيــه القائل بأن الإســلام دين يتناقض مــع العلم، وأن الإسلام هــو السبب في انحطاط المسلمين، الأمــر الذي تصدى لــه في حينــه الإمــام محمد عبده، مبينــا له السبب الرئيســي في هـــذا الانحطاط، وهــو السياســة والجمــود، وأن الإســلام بريء من هذا الانحطاط، حيث يقول: «كان الإسلام دينــا عربيــا، ثم لحقــه العلـم فصار علمــا عربيــا، بعد أن كان يونانيـــا، ثم أخطــأ خليفـــة في السياســـة فأخذ من سعــة الإســلام سبيلا إلــى ما كان يظنه خيرا لـه».


ولقد حمل رينــان لواء العداوة لكل ما هــو إســلامـي وعربـي فقد أثر عنه قوله: «إن الذي يميز العالم الإســلامي إنمـا هو اعتقاد المسلمين أن البحث لا طائل تحتـه وأنـه قد يؤدي إلـى الكفر».
وعلى هذا النسق يبرز اسم رينان كواحد من أسماء غلاة المتعصبين ضد الإسلام والعرب معا، فقد كرس حياته للطعن في العرب كأمة، وفي الإسلام كعقيدة، باعتبارها - في زعمه - عقيدة منافية للعلم، وله محاضرة شهيرة ألقاها في أخريات حياته وتحديدا في 29 مارس 1882م في جامعة السوربون بعنوان «الإسلام والعلم» ضمنها كل آرائه في الطعن على العرب وعلى الإسلام.

وقد سيطر التعصب، الذي يصل إلى حد كراهية كل ما هو عربي وكل ما هو إسلامي، على فكر رينان، فكان قلمه الذي يكتب به ووحيه الذي يملي عليه، على الرغم من ادعائه غير ذلك.
إن آراء رينان عن الإسلام والعلم، التي هي أشبه بالأحكام القاطعة التي لا يليق بمؤرخ أن يقطع بها من دون سند من الحقيقة، مثل رأيه في أن الإسلام دين يناقض العلم، ويتعارض مع البحث الحر، وغيرها من الآراء، إنما هي آراء قد أملاها التعصب ضد كل ما هو عربي وإسلامي وعلاقة كل منهما بالعلم، بدليل أن العلم العربي قد نشأ وازدهر في ظل الإسلام.
ولو كان رينان على قدر يسير من الوعي بحقائق الأمور لعلم أن القرآن الكريم كان له تأثير مباشر في ازدهار العلم العربي.

والتعصب يفقد المؤرخ أهم أدواته في التأريخ، وهي التجرد والموضوعية. لذا، فنحن أمام حالة من هذا النوع. وعلى الرغم من تهافت هذه الآراء عبر شهادات شتى، حتى من جمهرة كبيرة من المستشرقين والمؤرخين، غير أننا نسوق شاهدا ليس إلى رده من سبيل، حول ارتباط العلم بالإسلام كما لم يرتبط علم من العلوم بعقيدة من العقائد، وهو ما يتعلق بعلم الكيمياء، وهو علم ليس للعرب سابق علم به كالطب أو الفلك مثلا.

غير أن حرية البحث العلمي التي أتاحها الإسلام للعلماء قد مكنت العلماء العرب من نقل الكيمياء من مجرد خرافات هنا أو هناك إلى علم.

ولقد تحدث مؤرخو العلم - على اختلاف مذاهبهم - فيما يشبه الإجماع عن أن الكيمياء علم عربي أصيل. فالكيمياء؛ حقا هي علم عربي أصيل، لفظا ومعنى.

ومن هنا يجب على الباحثين المسلمين أن يتصدوا لمثل تلك المزاعم من خلال بيان الحقائق التاريخية المسجلة في التراث العلمي العربي، حتى لا يقع النشء المسلم فريسة لتلك المزاعم.