ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها


د.محمد أقصري




يقول الله عز وجل (ولا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثً) (النحل:92)، ذكر الطبري في تفسيره(1) أن المرأة المقصودة من الآية الكريمة تدعى خرقاء وهي امرأة حمقاء معروفة بمكة كانت إذا أبرمت غزلها نقضته.قال قتادة: لو سمعتم أن امرأة نقضت غزلها من بعد إبرامه لقلتم: ما أحمق هذه!... وهذا مثل ضربه الله لمن نكث عهده ونقضه تشبيهاً له بالمرأة التي تفعل ذلك.
كان هذا المدخل ضرورياً لقياس ما كان الناس عليه في رمضان، وما يكونون عليه بعد خروج رمضان على ما كانت عليه خرقاء الحمقاء.
كم من شخص غزل غزلاً خلال شهر رمضان وسرعان ما نقضه عند بزوغ فجر يوم عيد الفطر.
فشهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، هو شهر الصيام والقيام، وهو شهر الذكر والدعاء والاستغفار، وهو الشهر الذي يلتزم فيه المسلم بتعاليم دينه أكثر من غيره من الشهور وفاء لبعض عهده مع ربه الذي أمره بالتقوى والصلاح، والابتعاد عن قول الزور والعمل به، وتجنب الرفث والصخب أثناء الصيام، والتعفف عن أموال الناس ومحارمهم، وغير ذلك من الطاعات التي تقرب إلى رب السماوات وتجني الكثير من الحسنات، وتنجي من المهلكات.
لكن ماذا بعد خروج رمضان؟ هل يستمر العبد متمسكاً بعهده مع الله أم ينكث عهده كالحمقاء المكية التي تنقض غزلها؟ هذا السؤال لا يحتاج إلى جواب لأن الناس يرى بعضهم البعض كيف يكونون خلال شهر رمضان، كما يعرفون أنفسهم وأحوالهم كيف تتغير و تتبدل بعد خروج الشهر الفضيل، إلا القليل منهم، والصابرون الثابتون أقل من ذلك القليل.
فالمسلمون –معظمهم- خلال شهر رمضان يحرصون على الطالعات وفعل الخيرات، وكأن هذا خاص برمضان، صحيح ميز الله رمضان عن غيره من الشهور بعدة أمور، منها أن الصوم الواجب لا يكون إلا فيه فإن صام المكلف صوماً واجباً في غيره يكون على سبيل النذر أو القضاء، ومنها أن الشياطين تصفد فيه، ومنها أن ليلة القدر تصادف ليلة من لياليه، وعمل الخير فيها يفضل عمل الخير في ألف شهر، وغير ذلك من المزايا التي يعرفها المسلم. إلا أن المكلف عليه أن يعرف أن رمضان مدرسة لتربية النفس وترويضها وتعويدها على فعل الخير، بحيث يستمر ولا ينقطع، فيعم كل الشهور ولا يخص رمضان، لأن الشارع الحكيم يأمر بفعل الخير على العموم والإطلاق دون تقييد أو تخصيص، لكن من غير غلو أو تنطع بل بالتوسط والاعتدال الذي هو الصراط المستقيم.
وفيما يلي بعض النماذج من الأعمال الصالحة أذكر بها المسلمين ليستمروا على الوفاء بعهدهم مع الله، إنماء لغزلهم وزيادة فيه فلا ينتقض ويبطل.
الصوم: واجب في رمضان مستحب في غيره، ومن الصوم المستحب صيام ستة أيام من شوال لقوله صلّى الله عليه وسلّم " من صام رمضان وأتبعه بست من شوال فقد صام الدهر" (رواه الترمذي)، والحسنة بعشر أمثالها، فشهر رمضان بعشر أشهر وستة أيام بشهرين، فهو عام كامل. ولكيلا يتخرم الدهر فإن المكلف الذي صام ستة أيام من شوال بعد رمضان، ينبغي عليه أن يستمر في صيام ستة أيام من شوال عقب كل رمضان ليكتمل الأجر لكل حلقات السنين دون انقطاع، وإذا وجد المكلف في نفسه قوة وعزيمة على حصد المزيد من حسنات الصيام فيندب له أن يصوم الاثنين والخميس، والأيام البيض من كل شهر، وعاشوراء، وعرفة إن لم يكن واقفاً عليه0

الصلاة:الواجب منها خمس فرائض بين اليوم والليلة، وفي رمضان يحرص المسلم على أدائها في وقتها ومع الجماعة، كما يحرص على صلاة التراويح، وبعد خروج رمضان نجده يسهو عنها بحيث لا يؤديها في وقتها بل يقضيها، كما لا يصلي نوافلها ويتهاون عن قيام الليل، وأحرى أن يصلي ركعتي الفجر مع أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم رغب فيهما ف يقوله "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها" (رواه مسلم)، وهو بتقاعسه وإهماله "ينقض غزله" ويضيع حب الله له، لقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما يرويه عن ربه "...وما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه..." (رواه البخاري).



البذل والعطاء: يقول الله تعالى (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (الأحزاب:21)، وجاء في الصحيحين عن ابن عباس –رضي الله عنهما- قال "كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل في كل ليلة، فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أجود بالخير من الريح المرسلة" (رواه البخاري)، والمسلمون كرام في رمضان يكثرون من الصدقات وإعانة المحتاجين، حيث يساعدون بالمال وطعام الإفطار والسحور طوال الشهر، وتنشط جمعيات كثيرة في هذا المجال على امتداد الكرة الأرضية، بل في البلاد غير الإسلامية يأكل مع المسلمين غير المسلمين من هذه الوجبات، وفي هذا الكثير من الدلالات، إلا أنه بعد ذلك تفتر روح التضامن مع المحتاجين والفقراء، وكأن آخر عمل تضامني مالي يقدمه المسلم لأخيه المسلم الضعيف، زكاة الفطر، لهذا يجب على المسلم أن يتفطن ويفهم أن الفقراء موجودون طوال السنة، كما يجب عليه أن يعرف أن الله أودع في الصدقات خيراً عميماً قلت أم كثرت، في رمضان وبعده، فيكفي المتصدق شرفاً أن صدقته قرض لله عز وجل، ويكفيه شرفاً أن الله يأخذها بيمينه فيربيها، حتى تصبح مثل الجبل، ويكفيه شرفاً أنه إن أخفاها بحيث لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، أصبح من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.

التوبة: شهر رمضان شهر التوبة والغفران، وهو مناسبة روحانية تشجع الغافلين على الرجوع إلى الله والتوبة إليه، بالإقلاع عن فعل المعاصي مع توطيد النفس على عدم الرجوع إليها، ولعل المرحلة الصعبة في كل ذلك هي مرحلة البداية، وهذا الشهر الفضيل يقدمها لأن المكلف يصبر على شهوتي البطن والفرج من جوع وعطش وجماع، كما يصبر عن العادات السيئة من تدخين وسهر في أماكن اللهو وغيرها، فإذا أقلع المكلف عن ذلك في رمضان فكيف تطاوعه نفسه على الرجوع إليها بعد خروجه، هذا لأن رمضان مدرسة لتربية النفس وترويضها على فعل الخير، لذلك فإن المكلف التائب إلى الله توبة نصوحاً عليه أن يستمر على عهده مع الله، فلا ينقض ما غزله في رمضان من طاعات.

وهكذا فإن كل مكلف منا يعرف الأمور التي يجتهد فيها خلال شهر رمضان، تقرباً إلى الله عز وجل، كما يعلم ما يقصر فيه بعد خروجه، وقدمت نماذج على سبيل المثال لا الحصر لأن أعمال الخير كثيرة ، فقد يكون مكلف مقصر في صلة رحمه وزيارة أقاربه، وقد يكون آخر مقصر بعدم الاهتمام بالصلاة مع الجماعة، وقد يكون آخر مقصر بعدم استغلال وقته فيما يرضي الله..وهكذا.
في الختام أعود فأقول بأن شهر رمضان مدرسة لتربية النفس وترويضها على الطاعات، والمسلم يجب عليه الوفاء بعهده مع الله بحيث يستمر بل يجتهد ويثابر في المداومة على الطاعات لينفع نفسه في دنياه وعقباه، ويساهم في تطور أمته ومجتمعه. والمهم أن يداوم ويستمر، ولا يبالي أن يكون عمله قليلاً، لان القليل الدائم خير من الكثير المنقطع وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم "أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل" (رواه البخاري)، فدوام على الخيرات وفقك الله.
الفهرس


1- جامع البيان في تأويل القرآن لابن جرير الطبري: ج17 ص 284.