العناية بالمسنين


د. ندى سعد الله السباعي

ليس التقدم في العمر مرضاً، إنما هو عملية طبيعية تحدث لكل إنسان ولا يمكن إيقافها أو تجنبها، حيث تقضي سنة الله جل جلاله في خلقه أن يتعرض الإنسان لتغييرات كثيرة كلما تقدم به العمر، مصداقاً لقوله تعالى: (ومَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ) (يس – 68).
ولذلك تتدنى قدرات الإنسان وتضعف إمكاناته فيمرض بعد صحة، ويضعف بعد قوة، وفي ذلك يقول الحق تبارك وتعالى: (الله الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ العَلِيمُ القَدِيرُ) (الروم: 54).
كما تتدنى قوة الإنسان على التأقلم ومواجهة المشكلات اليومية، وتزداد الشدة النفسية بسبب الخسائر التالية (والمتتالية): خسارة العمل، خسارة الأصدقاء، خسارة الأهل، خسارة الصحة، خسارة القوة، خسارة الإنتاج خسارة مصدر الرزق، وأخيراً خسارة الذات والعمر.
وتتعرض كل أعضاء الجسم لتغييرات مع التقدم في العمر أهمهما:

الجلد: تضمر غدد العرق ويقل الشحم تحت الجلد فيصاب الجلد بالجفاف والتجعد والتشققات.
القلب: تشيخ الدورة الدموية وتنقص مرونة الشرايين وتضعف قوة القلب، وتحدث تبدلات في بنيته فيصاب المسن بارتفاع ضغط الدم، وقد يصاب بجلطة في القلب أو الرأس.
المعدة: ينقص اللعاب، وتنقص حموضة المعدة مما يؤدي لإصابة المسن بالتخمة (عسر الهضم)، كما تنقص حركة الأمعاء فيصاب بالإمساك، ويساعد على ذلك تساقط الأسنان وعدم مضغ الطعام جيداً.
الرئة: تنقص مرونة الرئة وتقل سعتها مما يسبب صعوبة التنفس، كما تنقص حساسية منعكس السعال، فتكثر إصابة المسن بالأمراض الصدرية.
العين: تصاب العين بالمياه الزرقاء والبيضاء (الساد)، كما تصاب عدستها بالأمراض، وتضعف قدرة العين على المطابقة وتعاني من بُعد البصر.
الأذن: ينقص السمع، خاصة للأصوات ذات التوتر العالي، بينما يزداد سماع الأصوات العالية لأن توترها منخفض ما يزيد من إزعاج المسن، ويختل التوازن مما يعرض المسن للسقوط كثيراً.
الأنف: تنقص حاسة الشم.
الكلية: تضعف كفاءة الكلية، ويكثر تعرض المسن للتجفاف وفشل الكلية والالتهابات البولية وتكثر الإصابة بسلس البول.
عندما ينشغل الأبناء بمسؤوليات الحياة عن والديهم يصاب المسنون بالانعزالية والاكتئاب


الدماغ: ينقص حجم الدماغ لأن المخ يفقد الملايين من الخلايا، مما يؤدي لضعف الإدراك. وينقص عدد ساعات النوم، ويفقد القدرة على التحكم بالحركات وتضعف الذاكرة، ويصاب المسن بالنسيان وقد يصاب بالخرف، كما قد يفقد القدرة على التحكم في التبول أو التبرز، والقدرة على التحكم بوضعية الجسم نتيجة ضعف المنعكسات اللازمة لذلك.
العظام: ينقص الكلسيوم في العظم، وخاصة عند الإناث، مما يؤدي لسهولة حدوث الكسور، كما تنقص كمية العضلات وكتلة العظم مما يؤدي بالنحول والضعف، والإصابة بهشاشية العظام وما يليها من كسور في الفخذ أو الحوض أو الأضلاع.
الغدد: تنقص قدرة غدة البنكرياس التي تفرز الأنسولين مما قد يعرض المسن للإصابة بالداء السكري، كما تنقص قدرة الغدة الدرقية مما يسبب الضعف العام والاكتئاب، كما تتضخم غدة البروستات وتنقص الرغبة الجنسية.
المناعة: تضعف مناعة الجسم مما يعرض المسن للإصابة بالالتهابات التي تكون أكثر شدة عنده من غيره.
الحالة النفسية: تزداد نسبة إصابة المسن بالاكتئاب والقلق، وتنقص الشهية ويزداد الميل للانتحار، كما تكثر حالات التحسس من الأدوية أيضاً.
المظهر العام: نقص الطول، زيادة الشعر الأشيب، جفاف الجلد وتجعده.

ولكن: هل هذا يعني أن المسن أصبح عنصراً غير مرغوب فيه، أو غير ذي قيمة في المجتمع؟! وهل يعني هذا تجاهله أو إهماله؟!
طبعاً لا: فالرسول (صلى الله عليه وسلم) يقول: ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا (أو يعرف شرف كبيرنا)، وهل هناك تقصير أكثر من هذا الذي يبعد الإنسان عن جماعة المسلمين؟! كما أن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم كما روى أبو داود وهذا مبدأ في غاية الأهمية، فالسلوك الإسلامي يربط بين إكرام المسن وبين إجلال الله تعالى، وبالتالي فإن التقصير في رعاية المسن معصية لله عز وجل.
فكيف إذا كان المسن أباً أو أماً أو قريباً؟، وكلنا يعرف أن الله تعالى قرن عبادته بالإحسان للوالدين في قوله: (وقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إيَّاهُ وبِالْوَالِدَيْ نِ إحْسَانًا) (الإسراء: 23)، كما قرن الشكر لهما بالشكر له في قوله (أَنِ اشْكُرْ لِي ولِوَالِدَيْكَ إلَيَّ المَصِيرُ) (لقمان: 14).
وحذرنا الله تعالى من الإساءة إليهما وتوعد كل من يسيء لهما، ولو بكلمة "أف" وهي كلمة بسيطة مؤلفة من حرفين فقط، ولو كان في اللغة العربية كلمة تدل على التأفف أبسط منها لذكرها الله تعالى كما قال كثير من المفسرين، فقال عز شأنه: (إمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ ولا تَنْهَرْهُمَا) (الإسراء: 24) وحتى لا يدعي أحد أنه يكره والديه طاعة لله وحباً فيه لأنهما بعيدان عن الله، فقد أمرنا الله تعالى أن نكرمهما حتى وأن سعيا إلى إضلالنا فقال: (وإن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) (لقمان: 15).
ولكن: كيف يمكن لأحد أن يكرم والديه خاصة والمسنين عامة من حوله؟! هناك مجالات عدة لرعاية الوالدين والمسنين وأهمها:

مجال الرعاية الصحية:

يجب أن يقدم للمسن طعام متوازن، لا يحتاج لمضغ كثير، سهل الهضم، قليل الدهون كثير الألياف، غني بالفيتامينات والمعادن، مع الإكثار من الفاكهة والخضار الطازجة، والإكثار من السوائل.
من الضروري إجراء فحص طبي دوري للمسن لمتابعة ضغط الدم وحالة القلب والأوعية الدموية ووظائف الكليتين، وسلامة الصدر وغيره.
من الضروري فحص السمع والنظر والأسنان والقدمين بشكل متكرر.
يجب إشراف الأبناء على وقت تناول الأدوية والعقاقير.
يجب الاهتمام بنظافة المسن ورعاية الجلد لمنع حدوث تقرحات الفراش، مع تغيير وضعية رقاد المسن باستمرار.
يجب العمل على رفع معنويات المسن دائماً وحثه على التفاؤل، فهو قادر منتج.
يجب الاهتمام والتجاوب مع أي شكاية صحية للمسن.
يجب تأمين دور أرضية بلا عوائق، لتجنب الحوادث والأذيات المنزلية، وتأمين إضاءة مناسبة وخاصة في الليل لغرفة النوم والحمام، لمنع تعثر المسن أو سقوطه، ويفضل تركيب حواجز، وأبعاد الأرضيات المنزلقة وأسلاك الهاتف والكهرباء عن طريق المسن من غرفة نومه إلى الحمام.
يجب إلباس المسن ملابس مناسبة تمنع البرد، ولا تسبب له التعرق الزائد.
أخيراً: يجب البقاء بجانب المسن دائماً لتقديم العون والمساعدة لرد الجميل ونيل الأجر من الله عز وجل.

مجال الرعاية النفسية

عندما ينشغل الأبناء بمسؤوليات الحياة عن والديهم، يصاب المسنون بالانعزالية والاكتئاب، بل إنه وللأسف يعتقد البعض إن إيداع المسنين دور الرعاية هو الحل للتخلص من رعايتهم، وهي جريمة تدفع المسنين إلى الحزن والأسى والشعور بالحرمان، فالمكان الطبيعي للمسنين هو الأسرة بين دفء الأبناء والأحفاد يشاركون في أمور الأسرة، فيقدمون المشورة والخبرة ويرشدون الشباب لما فيه خير أمتهم وخير أسرهم، فكبار السن هم من جاؤوا بنا إلى هذه الحياة ووفروا لنا الرعاية في طفولتنا وأفنوا سنوات عمرهم في خدمتنا، وربما خدمة أطفالنا أيضاً.

فلنجعل للمسنين مكاناً ودوراً وأهمية وسط الأسرة، ولنعلم الأحفاد احترامهم وتوقيرهم وإجلالهم، ولنساعدهم على تقبل وتحمل مشاق ومتاعب الشيخوخة، ولنحرص على متابعتهم وفحصهم طبياً بصورة دورية، ولنطلب منهم الاهتمام بالعالم الخارجي بقراءة الصحف والقيام بالنشاطات التي تفيد المجتمع.
لنتذكر جميعاً إننا سنصل إلى تلك المرحلة، وبقدر رعايتنا لوالدينا سيرعانا أبناؤنا، وقد قال الرسول (صلى الله عليه وسلم): "ما أكرم شاب شيخاً لسنه إلا قيض الله له من يكرمه عند كبر سنه (الترمذي) ولنعلم إنما جعل الإحسان للوالدين تالياً لعبادة الله لوجوه عدة أهمها: أن الوالدين سبب وجود الولد إنعامهما يشبه أنعام الله إنهما لا يقطعان كرمهما عن الولد، وإن كان غير بار بهما.
أفلا يستحق هذا المسن الذي أمضى عمره في خدمة أولاده ومجتمعه أن يكرم بقية عمره بعد أن فقد مركزه وأهميته في كل ما يحيط به.

مجال الرعاية الاجتماعية

يجب مخاطبة المسنين عامة والوالدين خاصة بأدب واحترام، مع عدم تكذيبهم أو تخطئتهم، وإن أخطا الوالد أو المسن فينبغي إرشاده بأدب إلى الصواب.
يجب تلبية ندائهم بسرعة والقيام بكل ما يدخل السرور إلى قلوبهم.
يجب إكرامهم من غير منة.
يجب عدم عقوق الوالدين لقوله (صلى الله عليه وسلم): "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر، قالوا بلى يا رسول الله، قال الإشراك بالله وعقوق الوالدين" (متفق عليه).
يستحسن ألا ينقطع بر الوالدين بعد موتهما.
قال الرسول (صلى الله عليه وسلم): "أن ومالك لأبيك" (البيهيقي) وهذا يعني أن للوالدين – أحدهما أو كلاهما – حق مشروع بل حق إجباري في كل ما يمتلكه الأبناء، أما إذا لم يكن المسن والداً، فإن له أيضاً حق على كل أفراد المجتمع، بتأمين حياة كريمة وهنيئة: ولا يجوز إطلاقاً أشعار المسن بأن دوره في الحياة قد انتهى وإنه يعيش بلا هدف في انتظار الموت.
وقد أجريت دراسات على بيوت المسنين في الغرب (دور العجزة) تبين فيها إن الذين يعيشون حياة سلبية بلا هدف يعانون من الكثير من الأمراض الجسمية والنفسية، ويقل متوسط عمرهم مقارنة بالذين يعيشون حياة أسرية كريمة وينشغلون بعمل نافع يتناسب مع قدراتهم.
ومن أهم وسائل تقديم الرعاية الاجتماعية والصحية هي تقديم الأدوية للمريض المسن بيد أحد معارفه وعدم تركها قربه خاصة أثناء الليل حتى لا يتناول جرعة كبيرة وخاصة من الأدوية المهدئة، مما يزيد من حوادث الانتحار كما ذكرنا.
وفي النهاية: يجب ألا نقلد الغرب الذي يدعى أن المسنين أناس غير منتجين ويشكلون عبئاً على المجتمع. بل نتبع نظرة الإسلام إليهم بأنهم مصدر البركة ومجلبة للرزق لقوله (صلى الله عليه وسلم): "أنما تنصرون وترزقون بضعفائكم" كما روى أبو داود عن أبي الدرداء.

كما يجب أن نستغل وجودهم بيننا فهم مدرسة تتعلم منها الأجيال الخبرة والحكمة فلكل فرد دور ورسالة، فمن يعجز عن العمل بيده قد يفيد بأعمال فكره، فتتكامل الخبرة والقدرة.
كما يجب أن نستغل هذا الوجود للتقرب إلى الله عز وجل من خلال إكرامهم الذي أمرنا به، فمن فاته خدمة والديه المسنين فقد فاته فضل كبير وخير كثير لقوله (صلى الله عليه وسلم): "رغم أنفه ثم رغم أنفه ثم رغم أنفه قيل من يا رسول الله، قال من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كليهما ثم لم يدخل الجنة" (صحيح مسلم) ومعنى رغم أنفه أي توضع في الرغم وهو التراب إذلالاً وهواناً لما أضاع من فرصة ذهبية لدخول الجنة برعاية والديه المسنين. وهكذا نجد أن الأمر لا يكلفنا كثير عناء، لا بل يوفر علينا عبء القيام بإنشاء دور الرعاية وخدمات التمريض للمسنين، بل أكثر من ذلك فإن رعايتهم من احب الأعمال إلى الله لقوله (صلى الله عليه وسلم): "أحب الأعمال إلى الله الصلاة لوقتها ثم بر الوالدين ثم الجهاد في سبيل الله" (متفق عليه).