ضوابط كتابة القرآن وتطبيقاتها المعاصرة في الميزان
ضوابط المكتوب به (المداد والأداة)
د. علي ذريان فارس الجعفري العنزي [(*)]
ملخص البحث:
يتطرق البحث لمسالة مهمة جداً تعم بها البلوى، وتشتد الحاجة لها، مع قلة الكتابة فيها، وضعف الاهتمام بها، في مقابل الاهتمام بأحكام التلاوة، وهي ضوابط كتابة القرآن الكريم، علما بأن هذه الضوابط والأحكام لا تنحصر في كتابة المصحف، بل تشمل كتابة الآيات عموماً، فهي أشد انتشاراً، خاصة مع تطور أساليب الكتابة وأدواتها وطرقها، وهذا البحث هو السلسلة الأولى والجزء الأول ضمن الأجزاء الأربعة في ضوابط كتابة القرآن الكريم، وهو خاص بضوابط المكتوب به، وتتبعه أبحاث أخرى - بإذن الله - وهي ضوابط المكتوب عليه، أي: سطح الكتابة ومحلها، وضوابط الكتابة، وضوابط الكاتب، وهذا البحث يتعلق بالقسم الأول:
(ضوابط المكتوب به)، المتمثلة ب (المداد والأداة)، وابتدأت البحث بتحرير الضوابط المتعلقة بالمداد.
أولها: مسالة حكم كتابة القرآن بالمداد النجس
ثانيها: مسالة حكم كتابة القرآن بالذهب
ثالثها: مسالة حكم كتابة القرآن بالحرير.
رابعها: بحث الصور الحديثة المعاصرة غير المسبوقة في مادة الكتابة وحكم كتابة القرآن بها.
ثم انتقل البحث لتحرير الضوابط المتعلقة بالشق الثاني للمكتوب به وهي المتعلقة بالأداة (آلة الكتابة)، وهي بدورها لها متعلقان: القلم الذي يكتب به، واليد التي يكتب بها.
وقد حررت واستنبطت الشروط والقواعد المطلوبة والمرعية في ذلك.
ثم ختمت البحث بذكر أبرز النتائج المستخلصة وذيلته بقائمة للمصادر والمراجع.
المقدمة:
بسم الله، والحمد الله، والصلاة والسلام على رسوله ومصطفاه، ونبيه ومجتباه، في ابتداء كل أمر ومنتهاه، وبعد:
إن الله أكرم هذه الأمة وشرفها وعظمها بإنزال أشرف وأعظم وأكرم الكتب عليها، وهو القرآن الكريم، وتوج هذا التكريم والتشريف والتعظيم بالضمان الإلهي، والتكفل الرباني بحفظه وصيانته ورعايته من تطرق التبديل والتحريف لهذا الكتاب المبارك، وكان هذا الحفظ الإلهي يرتكز على ركيزتين، ويحلق بجناحين، هما: الحفظ بتواتر القراءة، والحفظ بتواتر الكتابة، وكل ركيزة منهما قد لقيت من الأمة وعلمائها العناية العظيمة، والاهتمام الجليل الذي لا مثيل له بين الأمم، والحفظ الكتابي – وهو المقصود هنا - يتمثل في عدة مظاهر، على رأسها العناية بكتابة المصحف العثماني خاصة، والعناية بكتابة القرآن الكريم وآياته عامة، ولما كانت الكتابة متعلقة بكلام الله تعالى فقد حظيت بأحكام وآداب خاصة تليق بمقام المكتوب ومقام المتكلم به جل مجده وتقدس اسمه، ومعلوم: أن التطور البشري لم يتوقف لحظة واحدة في شتى المجالات لا سيما الكتابة وأدواتها وألاتها وأساليبها، وكتابة القرآن ليست بمعزل عن هذا التطور، فوجب على أهل الإسلام والمعتنين بشأن كلام الرحمن أن يحوطوا كلام ربهم بسياج الصيانة والعناية، بحيث يصبح هذا التطور ملائما للتكريم والتعظيم الإلهي للقرآن الكريم، لأجل ذلك رميت بسهمي وبذلت جهدي لوضع الأسس والضوابط والقواعد المنظمة لكتابة القرآن الكريم، والمحققة للتعظيم والتكريم اللائق بكلام الله تعالى، مستحضرا في طريقي الشعار القرآني (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) (الحج: 32) وأفي شعيرة لله أعظم من كتاب الله تعالى؟! ولما كان الموضوع متشعبا، ومسائله متولدة وكثيرة، جعلته على أربعة أقسام وركائز جامعة ولكل قسم بحث مستقل، وهي: القسم الأول (ضوابط المكتوب به)، وأريد بها: مداد الكتابة وأداتها، وابتدأت بها في هذا البحث، والقسم الثاني (ضوابط المكتوب عليه)، وأريد بها: سطح الكتابة ومحلها، كالكتابة على ألواح وصحائف الذهب، أو الحرير، أو الصحيفة النجسة، والكتابة على الجدران، والملبوسات، والمطعومات ، والمركوبات، والقسم الثالث: (ضوابط الكتابة) وأريد بها: رسم الكتابة، كحكم كتابة القرآن بغير الرسم العثماني، وهذه المسألة تحديدا أفردت لها بحثا مستقلا أنهيته بفضل الله، وبقية المسائل المتعلقة بضوابط الكتابة لها بحث مستقل مثل: حجم الكتابة وضبطها المتعلق بالنقط والشكل، وصورتها، وآدابها العامة وغيرها من مسائل الكتابة، والقسم الرابع: (ضوابط الكاتب) وأريد بها: مسألة إسلام الكاتب، وحكم كتابة الكافر للقرآن، وطهارة الكاتب من الحدثين، وحكم أخذ الأجرة على كتابة القرآن، وكتابة الصغير للقرآن، وفضل كتابة القرآن، وغيرها من المسائل، وهذا البحث يتعلق بالقسم الأول: (ضوابط المكتوب به)، المتمثل ب (المداد والأداة)، وهو باكورة الأبحاث المتعلقة بضوابط كتابة القرآن الكريم وتطبيقاتها المعاصرة في الميزان ، أسأل الباري سبحانه أن يرزقني الإخلاص والقبول، وسداد القول ورشاد العمل، إنه خير مسؤول وأجود مأمول، وهذا أوان الشروع في المقصود.
أسباب اختيار الموضوع
1-الإسهام والمشاركة في خدمة كتاب الله تعالى؛ لتحقيق العناية اللائقة، والرعاية الفائقة، والتعظيم والتكريم الواجب لكلام الله تعالى، فتعظيم القرآن الكريم وتكريمه عبادة عظيمة، وشعيرة جليلة من شعائر الله تعالى، والكتابة جزء أصيل وركن ركين ووجه مهم من وجوه العناية بالقرآن الكريم.
2-قلة الاهتمام والاشتغال ببيان ضوابط كتابة القرآن -بالرغم من شدة الحاجة لها -في مقابل الاشتغال ببيان ضوابط تلاوة القرآن، فتجد أن باب التلاوة لقي اهتماما بالغا في ضبط مسائله، وتحرير أحكامه المتمثلة في أحكام التجويد والقراءات، فأردت أن أسد الثغرة وأضع اللبنة في إتمام بنيان العناية بالقرآن، وذلك بضبط كتابة القرآن الكريم وتأصيلها، وتحرير أحكامها؛ لأنها الركيزة الثانية لتحقيق حفظ القرآن الكريم بجانب القراءة.
3-تطور أساليب الكتابة وأدواتها وألاتها عموما، وكتابة القرآن ليست بمعزل عن هذا التطور، وقد ظهرت وانتشرت التطبيقات الكثيرة المعاصرة التي لم يسبق لها ذكر في تراث الأمة الفقهي، فاجتهدت في وضع الضوابط العامة والقواعد المحررة للحكم على هذه الصور والتطبيقات.
4-التنبيه على شمول أحكام الكتابة لكتابة الآيات القرآنية المستقلة، بجانب شمولها لكتابة المصحف فقد يظن بعض المهتمين بعلوم المصحف والقرآن أن أحكام الكتابة تنحصر في كتابة المصحف، لكنها عند التحقيق تشمل كتابة آيات القرآن الكريم بشكل عام خارج المصحف، وهذا الأمر أشد انتشارا، والبلوى به أعم، فاشتدت الحاجة لبيانه وتحريره.
5 -جمع وترتيب شتات المسائل المتعلقة بآداب وأحكام كتابة القرآن، وتحرير الحكم فيها، وقد جمعتها في أقسام أربعة: ضوابط المكتوب به، وضوابط المكتوب عليه، وضوابط الكتابة، وضوابط الكاتب، وكل قسم تندرج تحته جملة من المسائل المهمة التي تحتاج إلى تحرير وتأصيل.
منهج البحث
1-اعتمد البحث على سلوك المنهج الاستقرائي لأحكام ومسائل كتابة القرآن الكريم المتعلقة بضوابط المكتوب به تحديدا بشقيها المداد والأداة، ويظهر ذلك في تحرير الركائز الأساسية الأربعة لموضوع ضوابط الكتابة القرآنية (ضوابط المكتوب به، والمكتوب عليه، والكتابة، والكاتب) ثم في تحرير مسائل الركيزة والقسم الأول وهي ضوابط المكتوب به.
2-تعامل البحث في تحرير المسائل على المنهج التالي:
أ-تحرير محل النزاع بذكر المتفق عليه، ثم الوصول إلى مسألة النزاع المختلف فيها.
ب-سلوك مسلك المقارنة الفقهية بين المذاهب الفقهية المشهورة، وما يسبقها من أقوال السلف، وما يلحقها من أراء الأئمة المجتهدين في المسألة، مع مراعاة الترتيب بذكر أقوال السلف من الصحابة والتابعين، ثم ذكر المذاهب: الحنفي فالمالكي فالشافعي فالحنبلي.
ج-عرض أدلة المذاهب الأقوال، مع بيان وجه الاستدلال عند الحاجة له، ومناقشة الأدلة.
د-الترجيح بين الأقوال، مع بيان وجوه وأدلة الترجيح.
3-عزو الأدلة والأقوال إلى مصادرها الأصلية، مع بيان موقعها في كل مصدر.
4 -تخريج الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، مع تحقيق الأحاديث ببيان درجتها وفق قواعد الصناعة الحديثية، مع ذكر أحكام الأئمة المتقدمين أو المتأخرين على الحديث أن وجدت.
خطة البحث
يتكون البحث من مقدمة ومبحثين وخاتمة:
- المقدمة تشتمل على: أهمية الموضوع، وأسباب اختياره.
- المبحثان على النحو التالي:
المبحث الأول: الضوابط المتعلقة بالمداد (مادة الكتابة)، وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: حكم كتابة القرآن بالمداد النجس.
المطلب الثاني: حكم كتابة القرآن بالذهب.
المطلب الثالث: حكم كتابة القرآن بالحرير.
المطلب الرابع: الصور الحديثة المعاصرة غير المسبوقة في مادة الكتابة، وحكم كتابة القرآن بها.
المبحث الثاني: الضوابط المتعلقة بالأداة (آلة الكتابة)
- الخاتمة وتشتمل على: أبرز النتائج المستخلصة، مع قائمة بمصادر ومراجع البحث.
المبحث الأول
الضوابط المتعلقة بالمداد (مادة الكتابة)
المطلب الأول: حكم كتابة القرآن بالمداد النجس
اتفق الفقهاء -بلا خلاف معلوم -على حرمة كتابة شيء من القرآن الكريم بمداد نجس، وقد نص على ذلك الحنفية ([1])، والمالكية ([2])، والشافعية ([3])، والحنابلة ([4])، وشددوا النكير على من يتقحم مثل هذا الأمر، وأن من قصد فعل ذلك عامدا، عالما، مختارا، فقد أتى بناقض من نواقض الإسلام، وكفر" لأن ذلك طعن مباشر في قدسية القرآن، وإهانة واضحة لكلام الله تعالى.
والأدلة على ذلك أظهر من أن تذكر ويمكن إجمالها بما يلي:
1-أن كتابة القرآن بالنجاسة هي إهانة صارخة لكلام الله تعالى، ولعب بالآيات، واستهزاء بالمتكلم بها رب البريات جل في علاه، قال تعالى في شأن الخائضين المستهزئين بالله أو برسوله أو بآياته: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ أن نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) (التوبة: 65 -66).
2-أن كتابة القرآن بالمداد النجس مخالف للتعظيم الواجب لكتاب الله تعالى، والصيانة الكاملة له باتفاق المسلمين، فتعظيم كلام الله تعالى تعظيم لله تعالى، وهو من أعظم شعائر الإسلام، قال تعالى: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) (الحج: 32)
3-أخرج أبو عبيد في فضائل القرآن بسنده عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: (لا تكتبوا القرآن إلا في شيء طاهر) ([5]).
4-القياس الأولوي على حرمة مس المصحف لغير المتطهر وبيانه كما يلي:
يحرم مس المحدث للقرآن -على الراجح -لقوله تعالى: (لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) (الواقعة: 79) وللحديث المشهور من قول النبي صلي الله عليه وسلم (وأن لا يمس القرآن إلا طاهر) ([6]) فإذا كان جسد الإنسان الطاهر غير النجس يمنع مسه للقرآن عند الحدث، توقيراً لكتاب الله تعالى، فكيف بكتابته بالنجاسة؟ فهو لا شك أولى بالحرمة، وأشد ذنبا، وأعظم خطرا؛ لأنه أبلغ في الإهانة والإساءة لكتاب الله تعالى.
5-القياس الأولوي على حرمة إلقاء المصحف في النجاسات أو القاذورات أو وضع أوراق المصحف على شيء نجس أو مسها بشيء نجس
وقد أجمع العلماء على أن إلقاء المصحف في القاذورات تعمداً واختياراً كفر فعلي ([7])، وكل ذلك من الاستهتار بالمصحف والاستخفاف به وإهانته، ولا شك أن كتابة الآيات ذاتها بالنجاسة هي أشد نكارة من ذلك كله، وهي أولى بالحرمة.
وهذه بعض نصوص العلماء المصرحة بحرمة كتابة شيء من القرآن الكريم بمداد نجس:
قال ابن مفلح في الفروع:
(نص أبو الوفاء ابن عقيل في كتابه (الفنون) على أن من قصد كتب القرآن بنجس إهانة له فالواجب قتله، حكاه عنه غير واحد من الأصحاب) ([8]).
وجزم بكفر من اقترف شيئاً من ذلك في موضع أخر فقال: (من وجد منه امتهان للقرآن أو خمص ([9]) منه، أو طلب تناقضه، أو دعوى أنه مختلف، أو مختلق، أو مقدور على مثله، أو إسقاط لحرمته، كل ذلك دليل على كفره فيقتل بعد التوبة) ([10]).
وقال القاضي عياض في كتابه (الشفا بتعريف حقوق المصطفى):
(واعلم أن من استخف بالقرآن، أو المصحف، أو بشيء منهما، أو سبهما، أو جحده، أو حرفاً منه، أو أية، أو كذب به، أو بشيء منه، أو كذب بشيء مما صرح به فيه من حكم أو خبر، أو أثبت ما نفاه، أو نفى ما أثبته على علم منه بذلك، أو شك في شيء من ذلك، فهو كافر عند أهل العلم بإجماع، قال تعالى: (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) فصلت: 41 -42) ([11]).
توابع وتتمات للمطلب الأول:
التتمة الأولى: حرمة الكتابة بالنجس تكون لذاته ولغيره على حد سواء.
ويستوي في حكم المكتوب به ما كان نجسا لذاته، كالبول والدم وما شاكلهما، وما كان نجسا لغيره، كالمداد والحبر الذي وقعت فيه فأرة ميته، أو خالطته نجاسة فنجسته، أو الممزوج بالخمر على القول بنجاستها ([12]).
التتمة الثانية: كتابة الرقية القرآنية على جبهة الراعف بدمه.
ويلحق بالمطلب الأول كتابة بعض الآيات بالدم لأجل التداوي، كما يفعله بعض الجهلة من كتابة بعض آيات الرقية بدم الراعف على جبهته، اعتقادا منه بشفائه من الرعاف بسبب ذلك، وهذا مع كونه مخالفاً للعقل وللتجربة ورأي أهل الشأن من الأطباء، ومع كونه مخالفاً للشرع لعدم الدليل عليه، فهو قبل ذلك داخل في هذه المسألة وهي حرمة كتابة القرآن بالدم؛ لأنه نجس وان صحت النية وكان القصد حسناً، فذلك لا يجيز اقتحام وارتكاب مثل هذا المنكر العظيم.
- قال ابن تيمية: (لا يجوز كتابتها (أي الرقية على جبهة الراعف) بدم كما يفعله الجهال، فإن الدم نجس، فلا يجوز أن يكتب به كلام الله) وكان ابن تيمية رحمه الله يكتب على جبهة الراعف -بمداد طاهر-(وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ) (هود: 44) ([13]).
- وحكى بعض الحنفية عن بعض فقهائهم قولا بجواز كتابة الرقية القرآنية بدم الراعف على جبهته ([14]).
- وهذا القول المحكي عن بعض الحنفية مردود لوجوه:
1-أنه لا دليل عليه يخصص عموم التحريم ويستثني هذه الصورة، مع اتفاق الحنفية على حرمة الكتابة بالدم عموما.
2-لا يمكن أن يقال: أن الضرورة تصلح أن تكون دليلا للاستثناء، من وجهين:
أ-أن دعوى الاستشفاء بالمحرمات غير مسلم بها، ومصادمة للنصوص الشرعية، خاصة أن الاستشفاء بالمحرم ليس السبيل الوحيد للتداوي، مع وجود وسائل أخرى ناجعه ومجربة للعلاج.
ب-أنه لو سلمنا بجواز الاستشفاء بالمحرم للضرورة فإن هذه الصورة المستثناة (وهي كتابة الرقية القرآنية بدم الراعف على جبهته) غير متحققة الحصول، وليست علاجاً معلوماً مجرباً ثابتاً معتمداً عند أهل التخصص.
التتمة الثالثة: مدى إمكان وقوع كتابة القرآن بالدم وتحقيقها في الزمن المعاصر.
- وربما يسأل سائل: هل يمكن لمسلم عاقل (فضلاً عن أن يكون كافراً) أن يجترئ على كتابة آيات من القرآن بالدم النجس، فضلا عن أن يكتب المصحف كاملاً؟!
- كنت ممن يشكون في أن تصل جرأة بعض الخلق لارتكاب مثل هذا المنكر الشنيع، وأن مسألة كتابة المصحف بالدم النجس التي ذكرها الفقهاء لا تعدو أن تكون من المسائل الافتراضية الاحترازية التي تمر في أذهان الفقهاء لحصر المسائل والصور المحرمة لكتابة القرآن لا كثر.
ثم تبدد هذا الشك، وعلمت أنه وارد الوقوع، بل تحقق وقوعه للأسف الشديد من بعض طغاة هذا العصر وجبابرة هذا الزمان، إنه الرئيس السابق لجمهورية العراق (صدام حسين) نعم، لقد ثبت عن هذا الطاغية المستبد أنه أمر بكتابة مصحف خاص للقرآن الكريم باسمه يسمى (مصحف صدام)، ولم يكتف هذا الطاغية باختراع هذه النسبة له؛ ليخلد اسمه بخلود كتاب الله تعالى، بل تجرأ على كتابته بدمه النجس، وهو في غمرة كبره وغطرسته وزهوه وجبروته، ظنا منه أنه يريد تشريف نفسه وتكريمها - هذا في الظاهر - بكتابة القرآن بدمه، لكي يقول لجماهيره المستعبدة والمقهورة والمنكوبة والمظلومة: أن هذا القرآن خلطته بدمي؛ تعظيما وتشريفا وتكريما وإثباتاً لحبي له وتعلقي به واهتدائي بهديه وتمسكي بحبله!! ولا أدل على ذلك من أن كتبه بدمي لأحقق هذا الاتصال العظيم بيني وبين كتاب رب العالمين!! ما هذا السفه والكبر؟ ما هذا العته والطغيان؟ ما هذه الجرأة التي لا مثيل لها في التاريخ على إهانة كتاب الله تعالى؟ فلم نسمع من قبل فعل مثل هذه الجريمة النكراء من طواغيت الأرض في التاريخ الغابر من الكفار أو المسلمين، وقد خصص هذا الطاغية متحفاً لعرض لوحات هذا المصحف المكتوب بدمه النجس وسماه (متحف صدام للمصحف الشريف) في جامع صدام الكبير وسط بغداد!!
ولذلك عجل الله بزواله، ومحقه ومحق ملكه، وأراح الإسلام والمسلمين من شره وطغيانه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ([15]).
المطلب الثاني
حكم كتابة القرآن بالذهب
الكتابة بالذهب لها صور أبرزها:
1-أن يكون المداد والحبر نفسه من الذهب المذاب، فتكتب به آيات القرآن.
2-أن يكون الحرف نفسه مصنوعا من معدن الذهب، فتكتب آيات القرآن من الذهب المشكل المنحوت.
3-أن يكون حرف القرآن منقوشا على لوح الذهب وهذه الصورة تفارق الصورتين السابقتين في كونها داخلة ضمن ضوابط المكتوب عليه (لوح الكتابة وسطحها) بخلاف الصورتين السابقتين فهما داخلتان ضمن ضوابط المكتوب به (مداد الكتابة) وان كان الحكم في الجميع واحدا والخلاف فيها واردا ([16]).
- ولا فرق بين هذه الصور في الحكم الشرعي; لأن النتيجة فيها واحدة، وهي كون المكتوب بها (أو المكتوب عليها بالنسبة للصورة الثالثة) هو القرآن الكريم، ومادة الكتابة (أو سطحها) هو ا لذهب.
- ولا فرق -كذلك-بين كتابة المصحف كاملاً بالذهب، أو كتابة بعض آيات القرآن بالذهب في صحيفة أو لوحة؛ لأن المكتوب بالذهب واحد في الحالتين، ولا فرق في الحكم بين القليل والكثير من القرآن الكريم.
- ويلحق بمسألة الكتابة بالذهب كتابته بالفضة، وان لم ينص عليها كثير من الفقهاء، إلا أنها تابعة في الجملة، لاشتراك الذهب والفضة في معاني الزينة والزخرفة والنفاسة والتباهي والثمنية والإكرام والتعظيم، وهي المعاني التي تعلقت بها أحكام الحرمة والجواز كما سيأتي بيانه.
في المسألة أربعة أقوال:
القول الأول: حرمة كتابة القرآن بالذهب.
- وهو قول عند الشافعية ([17])
- وقال به بعض الحنابلة كابن الزاغوني الذي نص على حرمة كتابة المصحف بالذهب، ونقل قوله جمع من الحنابلة دون ذكر ما يخالفه مما يشعر بالموافقة والإقرار على هذا القول، كابن القيم في بدائع الفوائد ([18])، وابن مفلح الجد شمس الدين في الفروع ([19]) وحفيده برهان الدين في المبدع ([20])، والبهوتي في كشاف القناع وشرح منتهى الإرادات ([21])، وابن رجب في الذيل على طبقات الحنابلة ([22]).
- قال ابن الزاغوني: (يحرم كتبه بذهب؛ لأنه من زخرفة المصحف، ويؤمر بحكه فإن كان تجمع منه ما يتمول زكاه؛ لأنه ينزل منزلة الأواني المحرمة، وان كان إذا حك لا يجتمع منه شيء كان بمنزلة التالف، فلا شيء فيه) ([23]).
أدلة القول الأول:
1-كتابة المصحف بالذهب داخلة في معنى الإسراف والتبذير المنهي عنه في كتاب الله تعالى في قوله تعالى: (وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف: 31)
وقوله عز وجل: (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) (الإسراء: 7 2)
فإذا كان الإسراف منهياً عنه في المأكل والمشرب والملبس والمسكن والمركب فكيف يكتب كتاب الله تعالى الذي نهى عن الإسراف بالذهب والفضة اللذين هما مادة الإسراف ومصدره ؟!
بل كيف تكتب الآيات نفسها الناهية عن الإسراف بالذهب والفضة ؟! فهذا عين الإسراف.
2-كتابة المصحف بالذهب داخلة في الزخرفة المنهي عنها، وهي التي تصرف وتشغل القارئ عن التدبر لآيات القرآن الكريم.
فالغاية الكبرى لكتاب الله تعالى هي: تدبره وتفهمه والعمل به، كما قال تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) (سورة ص: 29) ولم ينزل القرآن ليزين بالذهب ويزخرف به، كما أن بريق الذهب ولمعانه يكاد يذهب بالأبصار، فينشغل الفؤاد بالبريق عن استبصار الطريق، وباللمعان عن نور القرآن، وليس المقصود من القرآن لمعان حروفه وجمالها وبريقها، فذلك كله لا تأثير له في القلب واستقامته وهدايته، وإنما المقصود المبتغى هو في معاني تلك الكلمات، ومقاصد تلك الآيات التي لا تتوقف على شكل كتابتها ومادة مدادها.
3-كتابة المصحف بالذهب مدخل ومدعاة للتباهي والتفاخر والزهو به، وهو أمر مذموم مردود؛ لأن القرآن الكريم حذر من الكبر والفخر والخيلاء في مواضع كثيرة، وكتابته بالذهب قد تسبب شيئاً من ذلك المنهي عنه عند بعض الناس فلذلك نهي عن كتابته بالذهب ([24]).
القول الثاني: كراهة كتابة القرآن بالذهب
-وهو مروي عن بعض الصحابة والتابعين، كابن مسعود، وابن عباس، وأبي ذر، وأبي الدرداء، وإبراهيم النخعي ([25]).
- وقول أبي يوسف من الحنفية ([26]).
- وروي عن الإمام مالك، وبه قال جمهور المالكية ([27]).
- وقال به بعض الحنابلة ([28]).
أدلة القول الثاني:
1-الآثار المروية عن السلف في كراهة ذلك، ومنها:
أ-ما رواه أبو عبيد، وابن أبي داود، وسعيد بن منصور عن ابن عباس وأبي ذر وأبي الدرداء وإبراهيم النخعي أنهم: كرهوا كتابة المصاحف بالذهب ([29]).
ب-عن ابن عباس:(أنه رأي مصحفاً يحلي، فقال: "أتغرون به السراق وزينته في جوفه؟!" ([30]).
ج-عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه مر عليه مصحف زين بالذهب فقال: (إن أحسن ما زين به المصحف تلاوته بالحق) ([31]).
د-عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:(إذا حليتم مصاحفكم، وزخرفتم مساجدكم، فالدمار عليكم) ([32]).
ولا فرق بين تزيين المصحف بالذهب وكتابة حروفه بالذهب.
2-استدلوا بأدلة القول الأول ذاتها من أن كتابة القرآن بالذهب داخلة في الإسراف والزخرفة الملهية المشغلة عن التدبر والتباهي المنهي عنه ([33]).
لكنها لا ترقى لأن تكون أدلة على التحريم؛ لعدم القطع بتحققها مع كتابة القرآن بالذهب، بل هي مظنة الوقوع في ذلك، ولعدم ورود النص القاطع الدال على الحرمة، فلذلك كان الحكم بالكراهة أوفق وأرفق.
القول الثالث: جواز كتابة القرآن بالذهب.
- روي عن بعض السلف ومنهم محمد بن سيرين رحمه الله ([34]).
- وهو قول الحنفية ([35]).
- وبعض المالكية ومنهم البرزلي والعدوي والأجهوري ([36]).
- وبعض الشافعية كالغزالي حجة الإسلام والشربيني والرملي الملقب بالشافعي الصغير، ونقل الشافعية فتوى الغزالي بأن (من كتب القرآن بالذهب فقد أحسن ولا زكاة عليه) ([37])، وهذا القول على إطلاقه دون تفريق بين الذهب والفضة، وبين مصاحف الرجال والنساء والأطفال.
أدلة القول الثالث:
1-أقوال السلف المؤيدة للجواز، ومنها: ما رواه أبو عبيد عن ابن سيرين أنه: (كان لا يري بأسا بأن يزين المصحف ويحلى) ([38]).
2-أن كتابة القرآن بالذهب داخلة في معنى التعظيم والتكريم لكتاب الله تعالى ([39]).
وهو معنى صحيح ومتحقق، والحق أن أصحاب القول الثالث غير مطالبين بدليل أصلا، فالأمر على أصل الإباحة، لكن المحزمين أو القائلين بالكراهة يلزمهم في ذلك بيان الدليل الدال على التحريم أو الكراهة.
القول الرابع: التفريق بين الرجال والنساء والصغار، فيحرم في مصاحف الرجال ويجوز في مصاحف النساء والصغار.
-وهذا مذهب جمهور الشافعية في المعتمد عندهم، فقد فرقوا بين مصاحف الرجال من جهة، ومصاحف النساء والأطفال من جهة أخرى، فقالوا بجواز الكتابة والتحلية للمصحف بالذهب في حق النساء والصغار، وحرمة ذلك في حق الرجال، كما فرقوا بين الذهب والفضة في الحكم، فقالوا بجواز الكتابة والتحلية للمصحف بالفضة مطلقاً للرجال والنساء والأطفال، أما الذهب فعلى التفصيل السابق ([40])
- وأدلتهم هي نفسها أدلة تحريم لباس الذهب والتزين به واستعماله في حق الرجال، وجوازه في حق النساء، فاعتبروا المصحف المكتوب بالذهب والمحلى به داخلا في حكم الزينة والاستعمال للذهب عموما.
الترجيح:
الذي يظهر لي -والله أعلم -أن القول الراجح هو القول الثالث القائل بجواز كتابة القرآن -كله أو بعضه -بالذهب على الأصل.
أدلة الترجيح من وجوه:
1-عدم ورود النص الصحيح الصريح القاطع على التحريم أو الكراهة، والأصل في ذلك الإباحة، ما لم يرد دليل يرفع الإباحة.
2-المعاني والعلل المذكورة للتحريم كعلة الإسراف وعلة المباهاة والكبر وعلة الزخرفة الملهية هي في ذاتها مقطوع بحرمتها، لكن تحققها في مسألة كتابة المصحف بالذهب مظنونة غير مقطوع بها، كما أنها نسبية غير ثابتة في حق جميع الأفراد، ومرجح الحكم بها: هو لنية الكاتب بالذهب أو المقتني للمصحف أو الصحيفة أو اللوحة المكتوبة بالذهب، فمن علم من نفسه وتحقق منه وقوع ذلك له فالحكم في حقه الحرمة، ومن لم يعلم من نفسه ذلك ولم يتحقق وقوع ذلك له فالحكم في حقه على أصل الإباحة.
3-القول بأن كتابة المصحف بالذهب هو من الزخرفة الملهية المشغلة الصارفة عن تدبر القرآن أمر فيه نظر عند التأمل؛ لأن كتابة الآيات بالذهب لا تعدو أن تكون في حدود حرفية الآيات ولا تتجاوز ذلك، كما أن لون الذهب واحد، بخلاف الزخرفة المعروفة في تنوع التصاوير والأشكال، وتداخلها، وتعدد الألوان وتفاوتها، فهذا النوع من الزخرفة هو الذي يمكن أن يسبب الإشغال والإلهاء وصرف الذهن وتشتيت البصر عن التركيز على الآيات، وربما تكون الزخرفة الملهية متحققة - نوعا ما - في تحلية المصاحف وترصيعها بالذهب بخلاف كتابة خط الآيات بالذهب، وهو أمر خاضع أيضا لنوع وشكل الزخرفة التي تسبب الإلهاء وتشتيت البصر والذهن.
4-أقوال السلف المروية في كراهة كتابة المصحف بالذهب يجاب عنها من وجوه:
أ-أنها محمولة على الاحتياط، وخشية توسع الناس في ذلك، وسدا لذريعة الوقوع في الإسراف أو المباهاة، لا أنها محققة لذلك على القطع.
ب-أن هذه الآثار -أن صحت -فهي تفتقر إلى الدليل من كتاب الله أو السنة الصحيحة، ولا يمكن اعتبارها -وحدها -دليلاً مستقلاً على التحريم أو الكراهة.
ج-الآثار المروية عن ابن عباس وابن مسعود وأبي هريرة هي في كراهة تحلية المصاحف بالذهب، وليس فيها ما يدل على كراهة كتابة المصحف بالذهب؛ لأنها واردة في تزيين المصحف بالذهب، وهو أمر مختلف عن كتابته بالذهب؛ لأن التزيين ربما تحقق معه شيء من الزخرفة الملهية بخلاف الكتابة فهي لا تتعدى الحروف.
د-أثر ابن مسعود (إن أحسن ما زين به المصحف تلاوته بالحق) لا يدل على كراهة كتابته بالذهب، فهو لم ينكر عليهم هذا الفعل، وغاية ما ورد في الأثر حث ابن مسعود على تلاوة المصحف حق تلاوته، فهو الزينة الحقيقية له، وهذا أمر صحيح ثابت، وليس فيه نص على كراهة التزيين، بل هو توجيه ونصح للانشغال بتلاوة القرآن حق تلاوته أكثر من الانشغال بتزيينه، كما لو وجهت قارئ القرآن لأن يهتم بالعمل بما يقرأ أكثر من اهتمامه بالقراءة فقط، فلا يدل ذلك -قطعا -على كراهة القراءة لذاتها.
5 -التفريق بين الرجال والنساء في حكم كتابة المصحف بالذهب لا وجه له؛ لأن كتابة القرآن بالذهب فيه معنى التعظيم والتكريم والتبجيل والتقدير لكتاب الله تعالى، وقد قال المولى (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) (الحج: 32)، ومعلوم قطعا أن هذا التعظيم والتكريم هو لذات المصحف أو لذات الآيات المكتوبة، لا لصاحب المصحف ومقتنيه، ولا لكاتبه، سواء أكان رجلاً أم امرأة، وسواء كان كبيرا أم صغيرا، لذلك لا أرى وجهاً للتفريق بين الرجال والنساء في ذلك كما ذهب إليه جمهور الشافعية من جواز كتابته بالذهب للنساء والصغار دون الرجال، فالتعظيم هو لكتاب الله تعالى ولآياته، وهو غير متوجه للرجل أو المرأة أو الطفل بحال من الأحوال.
تتمة في حكم كتابة القرآن بالذهب: حكم تحلية وتزيين المصحف أو الآية بالذهب
وهنا صورة متفرعة وتابعة لحكم كتابة القرآن بالذهب وهي: تحلية المصحف بالذهب.
- وهذه الصورة لا تتعلق مباشرة بكتابة الآيات، وإنما تعلقها بالقرآن من جهة تحليته بالذهب، ككون إطار المصحف أو الصحيفة أو اللوحة القرآنية من الذهب، أو ترصيع المصحف وتطريزه وتزيينه بالذهب، أو تمويهه بالذهب.
-فالفرق بينها وبين كتابة القرآن بالذهب هو: أن كتابة القرآن بالذهب متعلقة بحروف القرآن، أما تحلية المصحف وترصيعه وتمويهه بالذهب: فهي متعلقة بورق المصحف أو جلده أو غلافه أو صندوقه وخلافه.
-والأقوال في تحلية المصاحف بالذهب كالأقوال في كتابة المصاحف والآيات بالذهب، فهي تدور بين الحرمة والكراهة والجواز، وكذلك الأدلة هي ذاتها في الأقوال الثلاث.
-وهناك من الفقهاء: من فرق بين حكم التحلية وحكم الكتابة بالذهب: فبعض المالكية قال بجواز التحلية وعدم جواز الكتابة ([41]).
وبعض الشافعية قال بجواز الكتابة وعدم جواز التحلية ([42]).
- ولا أرى دليلا سائغا للتفريق بينهما، فمن قال بحرمة الكتابة بالذهب للعلل السابقة (الإسراف والمباهاة والزخرفة الملهية) فهي متحققة في التحلية، ومن قال بجواز الكتابة بالذهب للأدلة السابقة (أصل الإباحة ومعنى التعظيم والتكريم) فهي متحققة في التحلية أيضا.
-إلا أن يقال: أن التحلية بالذهب تفترق عن الكتابة بالذهب من وجهين:
الوجه الأول: أن التحلية والتطريز والتزيين للمصاحف بالذهب يمكن أن يتحقق معها الزخرفة الملهية الشاغلة الصارفة عن التدبر، بخلاف الكتابة بالذهب.
الوجه الثاني: أن التحلية والتزيين للمصاحف أو الصحائف أو اللوحات بالذهب ليس لها حد تنتهي إليه، فيمكن أن تطال الورق أو الغلاف أو الجلد أو الصندوق أو الإطار وخلافه، فمكانها من المصحف غير محدود، وصفتها وشكلها غير محدود، فيمكن أن تكون مدخلاً للإسراف والتبذير والمباهاة، بخلاف كتابة الحروف، فإن الكتابة بالذهب لها محدودة بالحرف ذاته.
-ومن هنا يتوجه القول بكراهة التحلية أو كراهة المبالغة فيها، مع القول بجواز الكتابة بالذهب والله أعلم.
يتبع