رد على من زعم عدم وجود سند خاص بالمتن
محمود العشري
لقد تكلَّم بعض الناس ممَّن ليس لديهم إجازات خاصة بالمتن - وغيرهم - كمتنِ: "التحفة، والجزرية، والشاطبية"، وغير ذلك، وقالوا: إن هذه الإجازات الخاصة بدعةٌ قريبة أحدثها بعضُ الناس!
ونَفَوا أن يقرأَ الطالب المتن من أوله إلى آخره على شيخه، ثم يأخذ فيه سندًا خاصًّا، وقالوا: إن كلَّ مَن قرأ روايةَ حفصِ على شيخه، فهو يعتبر مجازًا في "التحفة والجزرية" بالتضمن؛ أي: الإجازة بهما تدخل ضمن إجازة حفص.
ولبيان الحق في هذه المسألة، أقول وبالله التوفيق:
إن من نِعَم الله -تعالى- على هذه الأمة ما أكرمَها به وشرَّفها بالسند - كما ذكرتُ آنفًا - وهذا لم يكن موجودًا في الأمم السابقة، ومن المعلوم أن هذا الأمر له فوائدُ ومزايا كثيرة ليس هذا مجال ذكرها، وعلى الرغم من هذا فإن بعض الناس تكاسل عن هذا الأمر ولم يسعَ إليه، بل البعض زهَّد غيرَه في السند، وقال: هذه ورقة لا قيمة لها، إلى غير ذلك من الأقوال التي لا تسمن ولا تغني من جوع، وكما قيل: مَن جَهِل شيئًا فهو عدوٌّ له، أو الجاهل عدو ما يجهله.
فنعمة الله -تعالى- على هذه الأمة بالسند نعمةٌ عظيمة ليس في القرآن فحسب، بل في الحديث، والعقيدة، والتفسير، واللغة، والفقه، والمتون الشرعية، وليس في ذلك فحسب، بل هناك إجازات في غير ما ذُكِر؛ كإجازات الخطَّاطين، والشعراء، والأطباء، والإفتاء، والتدريس، وغير ذلك الكثير، لكن ينبغي أن أنبِّه على أن الطالب يحتاج مع السند إلى العلم، وهو الأهم، وانتقاء المشايخ المروي عنهم، وليس الأمر مقتصرًا على السند فحسب دون العلم الشرعي.
الرد على قولهم: "إن هذا الأمر جديد وليس قديمًا"، وعلى نفيهم السند في قراءة المتن.
إن هناك فئة من الناس تردُّ كلَّ ما لا يأتي على حسب ما تألفُه أو تهواه أو تعتاده، وجِماع ذلك كله الجهل بهذا الشيء، وبالتالي، فهي لا تقبل هذا الشيء وإن كان مثبتًا موجودًا معروفًا عند كثير من الناس؛ فبعضهم لا يدري أن هناك إجازات خاصة بالمتون، ويأخذ فيها الطالب سندًا إلى ناظمها؛ إما بالقراءة غيبًا عن ظهر قلب في مجلس واحد - كما سيأتي معنا في إجازة إمام هذا الفن ابن الجزري - رحمه الله - للشيخ العلامة/ أبي الحسن علي باشا - أو بالقراءة نظرًا لتصحيح المتن، وهذان الأمران صحيحان عند أهل العلم، إلا أن الأول أفضل وأولى؛ لذا فهي تردُّ هذا الشيء ولا تقبله؛ لندرته أو قلَّته، أو عدم وجوده في البلد أو المكان التي هي فيه، فإذا جاء أحد المشايخ بهذا الشيء الذي ليس عندهم، قالوا: هذا الأمر ما سَمِعنا به، ولا نعرف أحدًا من مشايخِنا معه السند الخاص في المتن، إلى غير ذلك مما أنكروه بغير حقٍّ، بل بجهل - والبعض بحسد وحقد - أسأل الله العافية.
والأمثلة على ذلك الأمر كثيرة جدًّا، مما يرده هؤلاء القوم بسبب الجهل أو عدم موافقة أهوائهم أو ما تألفه وتعتاده أنفسهم؛ كردهم إتمام الحركات؛ لأن بعضهم لا يستطيع القراءة به، وهو مجاز في العشر، أو صاحب شهادة، ويحتاج إلى وقت طويل لإتقانه، فأسهل شيء عليه - حتى لا يفضح نفسه - الإنكار، أو يقول: ما قرأنا بذلك على مشايخنا ولا تلقَّيناه.
وقد رددت عليهم وفندت جميع شبههم وأقوالهم في بحثنا: "فتح العلي في بيان اللحن الجلي والخفي"، وذلك بأسلوب علمي ومنطقي - والحمد لله - وليس هذا الأمر في القرآن فحسب، بل في أكثر الأشياء؛ كإنكار البعض السند في العقيدة، أو الفقه، وغيرهما، وإنكار البعض المدَّ النبوي بالكلية؛ لأنه طبعًا من مصر، وأهل مصر الكثير منهم لا يدري عن المد ولا سنده شيئًا - وإن كان في سنده كلام - ولكنه معروف عند أهل نجد والحجاز، ومنتشر هناك بالأسانيد، بل بعضهم يعترض - وليس يستفهم -: كيف يكون الشيخ الطرابيشي أعلى من الشيخ أحمد الزيات - رحمه الله - في القراءات السبع سندًا؟! ثم يسأل: كم عمر الطرابيشي؟ تقول له: في قرابة: (90) عامًا، فيقول لك: الشيخ الزيات مات وعمره قارب: (100)، فكيف يكون الطرابيشي أعلى؟!
أقول: جهل مركَّب في بعض المسائل عند هؤلاء الذين يدَّعون القراءة والإقراء، أو قل: هو حسد وحقد أقران، أو قل: ردُّ ما لا تهواه أو تعتاده أنفسهم، فانظر - أخي يا صاحب القرآن -: كيف جعل هذا الرجلُ الضابطَ في علوِّ السند هو العمر؛ لأنه لا يدري أن العلو ونزوله يكون بقلة أو زيادة عدد رجال السند؛ فإذا كان عدد الرجال قليلاً كان السند عاليًا، وإذا كان كثيرًا، فالسند نازل، والشيخ/ الطرابيشي - حفظه الله - أقل عددًا من الشيخ/ الزيات - رحمه الله - في القراءات السبع من الشاطبية.
فيا طالب العلم، ويا شيخ، ويا صاحب النعمة، أنت محسود على النعمة التي أنت فيها، فاصبر - أخي الكريم - على حقد وحسد إخوانك، فهذه سنة ربانية لا تتغيَّر ولا تتبدَّل، فادعُ الله أن يرزقَك الإخلاص في القول والعمل ومعاملة الناس بالحسنى، وأن يسلمك من أمراض القلوب التي فَشَت في هذا الزمان بين الناس بعضهم بعضًا، أسأل الله العفو والعافية، وأن يرزقنا جميعًا حسن الخاتمة، وأن يجعل خُلُقنا القرآن.
وأقول: لو بحثت في "إجازات القراء" في المتن خاصة لوجدت عددًا كبيرًا جدًّا منهم معه إجازة خاصة في المتن ومتصلة السند إلى صاحبه، وإمام هذا الفن نفسه الإمام محمد بن الجزري - رحمه الله - أجاز مَن بعدَه بمنظومته "الجزرية"، فهذا الإمام لما ألَّفَ هذا المتن، أقرأه لتلامذته وعلَّمهم إيَّاهُ، وكذلك التلاميذ أقرؤوا وعلَّموا مَن بعدهم، وهكذا حتى وصل إلينا هذا المتنُ بلفظِه كما أراده الناظم - رحمه الله، وممن أجازه العلامةُ/ ابن الجزري - رحمه الله - في هذا المتن: الشيخ العلامة/ أبو الحسن علي باشا، وقد أوردها الشيخ الدكتور/ أيمن رشدي سويد - حفظه الله - في آخر نسخة المقدِّمة التي قام بتصحيحها وتحقيقها، وإليك نص هذه الإجازة:
صورة الإجازة التي بخطِّ الناظم الإمام ابن الجزري - رحمه الله - الموجودة آخِرَ النسخة الخطية التي صُحِّح المتن عليها:
"الحمد لله وحده، وصلَّى الله على سيِّد الخلق محمد وآله وسلم.
عرض عليَّ جميع هذه المقدِّمة - من نظمي - الولدُ النجيب السعيد اللافظ، سلالة العلماء، أوحد النجباء، بغية الأذكياء، عين الفضلاء، أبو الحسن علي باشا، ولد الشيخ الإمام العلامة المرحوم صفيِّ الدين صفر شاه بن أمير خُجَا بن إياس بن قُزْغُل أحمد، الخراساني الأصل، ثُم التبريزي - وفَّقه الله لمراضيه، ورحم الله مَن سلف مِن أهليه - من حفظِه، في مجلس واحد، حفظ إتقانٍ، ولفظ إيقانٍ.. وسَمِعها بقراءتِه: ابني أبو بكر أحمد، والشيخ الفاضل الحاذق، حميدُ الدين عبدالحميد بن أحمد بن محمد التبريزيُّ الخُسْرُوشاهيُّ ، والولدان السعيدان النجيبان الفاضلان: أبو الخير محمد، وأبو الثناء محمود، ابنا الشيخ الإمام العالم الصالح المسلك، بركة المسلمين، عمدة المرشدين، فخر الدين إلياس بن عبدالله السوري حِصَاري، وخير الدين خليل بن مصطفى بن أحمد القَرَاسي، وشمس الدين بن إبراهيم اليمني الأصل، البُرْصوي المولد، والمقرئ الفاضل عماد الدين عوض بن علي البُرْصوي، والشيخ أحمد بن محمد الأَفْلَفُوني، والمقرئ اللافظ أحمد بن محمد بن خاطر بك القُونَوي، وشمس الدين محمد بن أحمد بن بادار النَّهاونْدي ثم الدمشقي، وإبراهيم بن عبدالله الرومي عتيق الخادم عز الدين.. وصحَّ ذلك في يوم السبت، سادس عشر المحرم، سنة ثمانمائة..، وأجزتُ للجماعة المذكورين ولعليٍّ باشا روايتَها عني، وجميع ما يجوز لي وعنِّي روايته، وتلفَّظتُ له بذلك.
قاله وكتبه الفقير: محمد بن محمد بن محمد بن الجزريِّ، حامدًا ومصلِّيًا ومسلِّمًا، عفا الله -تعالى- عنهم بمنه وكرمه".
قال الدكتور/ أيمن سويد - حفظه الله - عن هذه المخطوطة التي فيها إجازة ابن الجزري السابقة في مقدمة تحقيقه لمتن "الجزرية":
"وقد أكرمني الله -تعالى- بالحصول على مصوَّرة نسخة مخطوطة لها، مقروءة على الناظم ابن الجزري - رحمه الله - وفي آخرها إجازة بخطه، ولا شك أنها في غاية التوثيق، وهي مصورة عن النسخة المحفوظة في مكتبة: (لا له لي) تحت رقم: (70) عمومي في "إستانبول" بتركيا.. وأنا أرجو من المشايخ الفضلاء ألا يُدخِلوا بعض المسائل الخلافية التي بينهم - مثل: القلقلة، والقلب، والإخفاء الشفوي، وغير ذلك من المسائل - في هذا الأمر، فنقبل الحق من أيِّ أحد طالما أنه أتى به، أما إن رَدَدْناه بسبب بعض المسائل الخلافية، فهذا دليل على بعض أمراض القلب، أسأل الله السلامة.
وكذلك أورد الشيخ الدكتور/ أيمن سويد - حفظه الله - صورة الإجازة التي كتبها له شيخه العلامة/ عبدالعزيز عيون السود - رحمه الله - وهذه نصُّها؛ كما في نهاية تحقيقه على متن "الجزرية" ص16:
"صورة الإجازة التي كتبها لي سيِّدي وشيخي شيخ القرَّاء العلامة عبدالعزيز عيون السود - رحمه الله تعالى - بهذه المنظومة المباركة:
قد عَرَضَ عليَّ - أنا المفتقر لرحمة مولايَ الودود، عبدالعزيز بن الشيخ محمد عليٍّ عيون السود - ولد القلب، كوكب دمشق، السيد أيمن سويد، هذه المقدمة في منزله في صالحيَّة دمشق، وقد أجزتُه بها كما أجازني شيخي المرحوم/ عليُّ محمد الضباع - رحمه الله تعالى - والله -تعالى- أسأل أن ينفعني به وينفع به المسلمين، آمين.. وكان هذا في غُرَّة ذي الحجة الحرام، سنة 1398هـ.. عبدالعزيز عيون السود..".
تنبيه:
قول بعضهم: "المرحوم - المغفور له - وغير ذلك.."، إن كان من باب الإخبار فهذا لا يجوز؛ لأنه من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله -تعالى- وإن كان من باب الدعاء له، فجوَّزه بعض أهل العلم، والله أعلم.
هذا، ومن المشايخ الذين كانوا يجيزون في المتون خاصة:
1- الشيخ العلامة/ عامر السيد عثمان - رحمه الله - وأسانيده متصلة إلى الإمام/ المتولي.
2- الشيخ العلامة/ علي محمد الضباع - رحمه الله - وكان مجازًا - رحمه الله - في أكثر متون التجويد والقراءات؛ كـ: "التحفة، والجزرية، والشاطبية، والدرَّة، والطيبة، والعقيلة، والناظمة"، وكذا في كتب القراءات؛ كـ: "النشر" وغيره، ومن الذين أجازهم الشيخ/ علي الضباع - رحمه الله -:
أ- الشيخ العلامة/ عبدالعزيز عيون السود - رحمه الله - قرأ عليه كثيرًا من متون التجويد والقراءات...
ب- شيخنا المقرئ/ عبدالفتاح بيومي مدكور - حفظه الله - أخذ منه "التحفة والجزرية" وغيرهما.
ومن الذين يجيزون الآن:
1- شيخنا العلامة المقرئ/ بكري الطرابيشي - حفظه الله - عن شيخ قرَّاء دمشق/ محمد سليم الحلواني - رحمه الله - وهو بسنده المعروف.
2- الشيخ المقرئ/ عبدالفتاح الدروبي - حفظه الله تعالى.
3- الشيخ المقرئ/ سعيد العبدالله - رحمه الله.
4- شيخنا الدكتور/ أيمن رشدي سويد - حفظه الله.
5- شيخنا الدكتور/ عبدالباسط حامد محمد - حفظه الله.
6- شيختُنا الكريمة/ نفيسة بنت عبدالكريم زيدان - حفظها الله تعالى.
7- شيخ قرَّاء دمشق/ محمد كُريم راجح - حفظه الله.
8- الشيخ العلامة المعمَّر/ أبو الحسن محيي الدين الكردي - حفظه الله.
وغيرهم كثير في مكة، والمدينة، ومصر، والشام، وغير ذلك، فهذا العدد يكفي في الدلالة على أن الأمر مشهور وثابت عند جمع من العلماء، وليس جديدًا كما يدَّعي البعض، ويدل على أن هناك أسانيد بالمتون متصلة لأصحابها.
ومَن أصرَّ على قوله، فهو يتهم الشيخ الضباع، والشيخ عامر عثمان - رحمهما الله - وغيرهما، بأنهم اخترعوا شيئًا جديدًا من تلقاء أنفسهم، وهذا لا يقوله مَن يعرفهم، ويعرف قدرَهم في هذا الشأن.
هذا عند علماء القرآن والقراءات، وأما علماء الحديث، فعندهم أيضًا أسانيد بـ: "الجزرية" وغيرها، ولكنها من باب الإجازة العامة؛ كعادة أهل الحديث كشيخنا/ عبدالله الناخبي - رحمه الله - وشيخنا/ يحيى عثمان المدرس، وشيخنا/ محمد أمين الهرري، وغيرهم من علماء الحديث، وهي تنفع مَن قرأ على الشيوخ، أما من أخذ الإجازة العامة دون أن يحفظ المتن، وأن يعرف ما يحتويه، فلا فائدة فيها.
وقد أكرمني الله -تعالى- وحصلتُ في متن الجزرية على سند حديثي بيني فيه وبين الناظم - رحمه الله - اثنا عشر رجلاً، فالحمد لله رب العالمين.
يتبع