رسالة في الطريق إلى ثقافتنا للأستاذ محمود شاكر رحمه الله تعالى
محمد براء ياسين
الاتجاه العام الذي يدافع عنه محمود شاكر - وهو اتجاهٌ لا يقبل أيَّ تنازلات، متشكك إلى أقصى الحدود في التفسيرات الأجنبية، رافض في الواقع لأي احتمال للفهم الحقيقي خارج النطاق المحدد للعالم الإسلامي نفسه، وهذا صوت أصيل معبر عن الغضب والاستياء بعد اثني عشر قرناً من المواجهة مع الغرب، وهناك كثير من المؤرخين الغربيين ليسوا بغافلين عن هذا الغضب، حتى وهم يجهزون لعملية الحوار، ولكن قسمًا كبيرًا من المسئولية عن هذا الغضب يقع علي عاتق المؤمنين بالاستعمار الغربي، الذين وصلوا إلى اقتناع نهائي، لا بأن ثقافتهم ثقافة متفوقة فحسب، بل بأن من الضروري أن يقوموا بنقلها إلى أبناء المستعمرات..). فهو ينظر في ما يسميه صوت الغضب الذي يصدر من رسالة شاكر= للتعامل معه وأخذه بعين الاعتبار في عمليّة الحوار الإسلامي الغربي.
التصنيفات: التصنيف العام - قضايا إسلامية - الشعر والأدب -
1- غاية الكتاب وظروف تأليفه:
(رسالة في الطريق إلى ثقافتنا) هي مقدّمة قدّم بها الأستاذ محمود محمد شاكر رحمه الله تعالى للطبعة الثالثة من كتابه (المُتنبِّي) التي نشرها سنة 1987م، وكتاب (المتنبِّي) كان قد كتبه في شبابه سنة 1936م، وذلك بطلب من فؤاد صرّوف، إذ كان يريد إحياء الذكرى الألفية لوفاة أبي الطيب المتنبّي في مجلته الأدبيّة (المقتطف)، فكتَبَ شاكر كتابه هذا، ونُشِر في عدد خاصّ من المجلة في يناير 1936م. كما أنه نشر الطبعة الثانية من الكتاب سنة 1977م وقدّم لها بمقدّمة بعنوان (لمحة عن فساد حياتنا الأدبية).
والغاية التي من أجلها كتب المؤلف هذه الرسالة هي تقديم تفسيرٍ للموقف الذي اتّخذه من الحياة الأدبية الفاسدة التي اتّصَل بها في شبابه، وهو موقف الرفض الصريح الواضح القاطع غير المتلجلج - بحسب تعبيره أيضًا – يقول في الفقرة العاشرة من كتابه: (وإذن، فكيف نشأ الخلاف، ولم نشأ الخلاف، بيني وبين هذه المناهج الأدبيَّة السائدة، كانت ولا تزال، في حياتِنَا الأدبية، حتى رفضتُها رفضًا صريحًا واضِحًا قاطعًا غيرَ مُتلجلِج، منذُ بدأتُ قديمًا أُحِسُّ إحساسًا مُبهمًا أنَّ حياتَنَا الأدبيَّة حياةٌ فاسدةٌ من كُلِّ وجهٍ كما حدَّثتك آنفًا؟). (ص23).
ويقول في ختام رسالته (وقد قصصتُ عليك هنا قصَّةَ هذا الفساد العريق من حيث بَدَأ الى حيث انتهى، فهذا كُلُّه جوابُ السؤال الذي بدأت به الفقرة العاشرة). (ص149).
وهذه الحياة الأدبية الفاسدة التي وقف منها المؤلف هذا الموقف: (ألقَت بكُلِّ فسادِهَا في حياتنا اللُّغوية والثقافية والسياسية والاجتماعية والأخلاقية بل في صميم حياتنا الدينية أيضًا حتى أوشك أن يضيع كُلُّ شيء كان غير قابل للضياع) (ص79-80).
ولتصوّر الخلاف الواقع بين المؤلف وبين الحياة الأدبية الفاسدة التي اتصل بها يحسن تصوّر الظروف التعليمية التي نشأ فيها المؤلف، والتي سبقت موقفه هذا.
ولد المؤلف سنة 1909م، ونشأ في حقبة الاحتلال الإنجليزي لمصر، الذي تدَخَّلَ في جميع الشؤون السياسية والثقافية والأدبية والتعليمية. وفي وصف الظروف التعليمية في تلك الحقبة؛ ننقل كلامًا لشقيق المؤلف الشيخ أحمد شاكر في تقريره عن شؤون التعليم والقضاء الذي قدّمه للملك عبد العزيز سنة 1949م، ثم نُتبِعُه بكلام للمؤلف من مقدمته للطبعة الثانية لكتاب المتنبّي التي سماها (لمحة عن حياتنا الأدبية) والتي كتبها سنة 1977م.
يقول الشيخ أحمد شاكر: (وضع الإنجليزُ يدَهم في مصر على التعليم كلِّه سنين طوال، إلا الأزهر فانهم تركوا التعرُّض له تعرُّضًا ظاهرًا، ثم تركوه يضمُر ويضمَحِلّ، ثقة منهم بأن ما كان فيه من جمود لا يُسايرُ عصرَه سيقضي عليه وحده، دون تدخل عامل خارجي.
وكان الذي وكل إليه من الإنجليز توجيه شؤون التعليم رجلًا مُبشِّرًا قديمًا، واستعماريًّا عتيقًا (دنلوب)، فوضع الخطط الشيطانية التي توصل إلى ما يرمي إليه قومه وإلى ما يرمي إليه المبشرون المتعصبون، فأخرج لنا في بلادنا جيلين أو ثلاثة، كل جيل يُعلِّمُ من بعدَه ويصبغه بصبغته.
وأنشؤوا المدارس المدنية وجعلوها درجات: الصفوف الابتدائية والثانوية تهيء الطالب للمدارس العالية، ومن قصر به الطريق لجأ إلى المناصب في الدولة، كالكتابة ونحوها، ومن علت همته وساعد حظُّه من مال أو نفوذ ذهب إلى الأقسام العالية.
وجعلوا التعليم العالي المدني أنواعًا.. فأنشؤوا في أوائل ما أنشؤوا كلية الحقوق، لتخرج لها رجالًا يحكمون بالقوانين التي اصطنعوها عن أروبة الوثنية الملحدة، وأنشؤوا كليّة الآداب في الجامعة المصرية القديمة، ثم توسعوا فيها في الجامعتين الحديثتين بالقاهرة والاسكندرية، وظنوا أنهم بهذا يخرجون رجالًا أعلم بالعربية وفقهها وبالأدب والشعر ونحوهما ممن أفنوا العمر في ذلك من رجال الأزهر ودار العلوم..)[2].
ويرى أحمد شاكر بأن قيام الإنجليز بتقسيم التعليم إلى قسمين: التعليم الأزهري الديني والتعليم المدني، أنتج فريقين (يصطرعان في سبيل العيش والنفوذ والسلطان، ومن صوّرهم بغير هذه الصورة فما أظن إلا أنه قد أخطأ)[3].
أما الأستاذ محمود شاكر فيقول في وصف نظام التعليم الذي وضعه «دنلوب» وانتعاش الحركة الأدبية والثقافية - التي اتصل بها ثم تبين له فسادها - في ظله: (لما جاء عهد «دنلوب» كان الرأي أن تنشأ أجيال متعاقبة من «تلاميذ المدارس» في البلاد، يرتبطون ارتباطًا وثيقًا بهذا التحول، عن طريق تفريغهم تفريغاً كاملا من ماضيهم كله، مع هتك أكثر العلائق التي تربطهم بهذا الماضي اجتماعيًّا وثقافيًّا ولغويًّا، ومع ملء هذا الفراغ بالعلوم والآداب والفنون = ولكنها فنونهم هم وآدابهم هم وتاريخهم هم ولغاتهم هم أعني الغزاة.
وقد تولى نظام «دنلوب» تأسيس ذلك في المدارس المصرية، مع مئات من مدارس الجاليات التي يتكاثر على الأيام عدد من تضم من أبناء المصريين وبناتهم. وقد كان ما أراد الغزاة، ولم يزل الأمر إلى يومنا هذا مستمراً على ما أرادوا!
في ظل هذا التفريغ المتواصل، وهذا التمزيق للعلائق، وهذه الكثرة التي تخرجُ مفرغةً أو شبه مفرغة إلى البعثات، وهذا التحوّل الاجتماعي والثقافي والسياسي المضطرب، وهذا التغليب المتعمَّد للثقافة الغازية واللغات الغازية بلا مقابل فى النفوس من ثقافةٍ ماضيةٍ حيَّةٍ حياةً ما، وباقية على تماسكها وتكاملها= فى ظل هذا كله ، انتعشت الحركة الأدبية والثقافية انتعاشًا غير واضح المعالم، ولكنه يقوم على أصل واحدٍ فى جوهره، هو ملء الفراغ بما يناسب آدابًا و فنونًا غازية كانت قد ملأت بعض هذا الفراغ، فهى تحدثُ فى النفوس تطلعاً إلى زادٍ جديدٍ منها .
وأقول: «انتعاشًا غير واضح المعالم» لأن الأساتذة الكبار الذين انتعشت على أيديهم هذه الحركة، كانت علائقهم بثقافة أمتهم غير ممزقةٍ كُلَّ التمزيق= أما نحن، جيل المدارس المفرغ، فقد تمزقت علائقها بها كل التمزيق.
وفي خلال التحول الاجتماعي الثقافي المتصاعد المتكاثر، كان هناك جانبٌ راكدٌ مختنقٌ، لم يفرغ هذا التفريغ، ولكن ضُرِب عليه حصار مُفزغ وبيل مهينٌ. هذا الجانب كان هو الوارث للماضي المتكامل المتماسك، و لكنه كان يزدادُ على مر الأيام تخلخلاً و تفككًا و انطواءً. يمثل هذا الجانب جمهور المتعلمين المنتسبين إلى الأزهر ودار العلوم وأشباهما. كان أكبرُ همِّ هذا الجانب، فى اليمّ المتلاطم من حوله المحافظة على الماضي محافظةً ما ولكن قبضته كانت تسترخى شيئاً فشيئاً تحت الحصار، وتحت القذائف المُدمِّرة التى يرمى بها، والتي تزلزل نفوس أبنائه من قواعدها، وكان مطلوبًا طلبًا حثيثًا أن تفتح أبواب هذا الحصن العتيق المنيع، لتدخل عليه نفس العوامل التى أدت إلى تفريغ «تلاميذ المدارس» من ماضيها، وإلى تهتُّك علائق ثقافته وعلومه، وإلى ربطه بالحركة الأدبية الغازية المتصاعد تحت ألوية «الجديد» و«التجديد» و«ثقافة العصر» وسائر الألفاظ المبهمة المغرية !!)[4].
ففي ظل هذه الظروف كانت تجربة المؤلف التعليمية.
وبالرغم من أنّ والد الأستاذ محمود شاكر «الشيخ محمد» وشقيقَه «الشيخ أحمد» -الذي يكبره بعشرين سنة - ينتميان إلى معسكر الأزهر، لا المعسكر المدني – بحسب تقسيم الشيخ أحمد شاكر آنف الذكر- فإنّ الأستاذ محمودًا لم يكن كذلك، فحياته التعليمية كما يصفها بنفسه (مختلفة عن والده وأخيه كل الاختلاف)[5] ، فهو ينتمي إلى (جيل المدارس المُفرَّغ من كل أصول ثقافة أمته) [6]. ويصف عميق أثر نظام «دنلوب» التعليمي في نفسه فيقول: (أنا قضيت حياتي أعالج نفسي، أعالج أثر «دنلوب» فيّ، أعالج أثر الاستعمار في قلبي، في ضميري، في عقلي، في نفسي، في نظري، في رؤيتي)[7].
والمباينة بين النشأة العلمية للمؤلف والنشأة العلمية لوالده وأخيه مما يجدر التنبيه لها، إذ لا يحصل الفهم الصحيح لغاية هذا الكتاب، ولا لسيرة المؤلف ومواقفه بتفسير نشأته في بيت أزهري علمي، مع إغفال ظروف الاستعمار بما تشكل فيها من مناهج تعليم نشأ عليها المؤلف.
مع دخول محمود شاكر في نظام التعليم الذي وضعه «دنلوب» فإنه لم يَعبُر مراحله بالطريقة الاعتيادية، إذْ مرَّ منذ أن دخل فيه لما كان طفلًا حتى تركه شابًّا بإرادته بثلاثة تحوّلات:
فكان أوّل أثرٍ شهده لنظام التعليم الذي وضعه «دنلوب» وهو في المرحلة الابتدائية أن كَرِه اللغة العربية كراهية شديدة، وبعد أن اتصل ببعض الفتيان المُحبِّين للشِّعر وحصلَ على ديوان المُتنبِّي من أحدهم= أحبَّ اللغة العربية. ويذكرُ محمود شاكر أن هذا التحوّل لم يكن لأسرته تأثير فيه[8]. فهذا هو التحوّل الأول، وكان حينئذ في الرابع الابتدائي.
والتحوّل الثاني: هو تحوّله من المسار العلمي إلى الأدبي في دراسته الأكاديمية، فقد دخل القسم العلمي في المرحلة الثانوية لحُبِّه الشديد للرياضيات، ثمّ لما حصل على شهادة الثانوية العامّة دخل كلية الآداب لحبّه الشديد للأدب الذي غلب حبَّه للرياضيات، يقول: (فكان هذا التحوّل هو بدء تحوّل حياتي تحوّلًا تامًّا)[9]. وكان دخوله لكلية أدبية مع حمله لشهادة علمية بشفاعة من طه حسين الذي كان يعرفه قبل ذلك[10].
والتحوّل الثالث: هو تركُه للدِّرَاسة الجامعية برُمَّتِها قبل إتمامه لها، ودخوله في عزلةٍ علميّة، وكان ذلك على إثر خلاف حصل بينه وبين أستاذه في الجامعة طه حسين، بسبب اعتماد طه حسين في محاضراته على فكرة للمستشرق مرجليوث متعلقة بالشعر الجاهلي، مع عدم نسبتها له، ورفضه للإقرار بغلطه[11].
وخلال هذه العزلة العلمية التي استمرت حتى سنة 1936م والتي مارس فيها منهج التذوق على كل ما وقع تحت يده من الكتب التراثية= بدأ محمود شاكر بالإحساس المتصاعد بفساد الحياة الأدبية التي كان قد انغمس فيها. كما يقول في مقدمة هذه الرسالة (ص6). ويقول في مقدمة الطبعة الثانية من كتاب المتنبّي: (أحسست أنا والجيل الذي أنا منه، وهو جيل المدارس المصرية، قد تمّ تفريغنا تفريغًا يكاد يكون كاملًا من ماضينا كلّه، من علومه وآدابه وفنونه)[12].
وفي تلك السنة 1936م كتب المؤلف كتاب المتنبّي، وطبّق فيه منهج تذوّق الكلام الذي اهتدى إليه في تلك العزلة، والذي يمتاز عن المناهج الأدبية الفاسدة السائدة في مصر إذ ذاك، وجرّ له هذا الكتاب شهرة في شبابه لم يكن قد حصل عليها قبل نشره.
إذًا؛ سلك محمود شاكر مسلك التعليم المدني مُخالِفًا المسلك الذي سلكه والده وأخوه، ليتاح له التأثُّر والانفعال بظروف التعليم التي صنعها الاحتلال الانجليزي في مصر، إلى أن أحسّ بفساد الحياة الأدبية التي كان قد انغمس فيها، ليتخذ منها موقف الرفض القاطع. وكانت هذه الرسالة (رسالة في الطريق إلى ثقافتنا) بعد تصرم نصف قرن على تكوّن تلك القناعة لدى المؤلِّف بفساد الحياة الأدبية في مصر، ليُقدِّم المؤلف لأجيال جديدة تفسيرًا مفصَّلًا لتلك القناعة، وذلك بمناسبة إعادة طباعته لكتابه المتنبي للمرة الثالثة، وهو الكتاب الذي طبق فيه منهج التذوق الذي يخالف المناهج الأدبية الفاسدة. أي أن كتاب المتنبّي الذي صدر سنة 1936م يُعدُّ - بما تضمنه من تطبيق لمنهج التذوّق- بمثابة الإعلان عن مخالفة المناهج الأدبية السائدة في مصر، و(رسالة في الطريق إلى ثقافتنا) التي قدم بها للطبعة الثالثة من الكتاب سنة 1987م تُقدِّم تفسيرًا لذلك الإعلان، نصيحةً وتحذيرًا لأجيالٍ تالية، من واقع تجربةٍ خاصّة.
2- موضوع ا لكتاب:
في سبيل تحقيق تلك الغاية التي قصدها المؤلف وهي الجواب عن سؤال: (كيف نشأ الخلاف بينه وبين المناهج الأدبية الفاسدة في مصر؟)، قصّ المؤلف قصةً مُوجزَةً تتضمَّنُ تاريخ العلاقة الثقافية بين الأمة الإسلامية والغرب منذ أن هزم المسلمون الرومَ وحتى فترة الاستعمار، وضمَّن تلك القصة نظرات تحليلية في ما يتعلق بالدوافع، أو ما يتعلق بكيفية سير الأحداث وترتُّبِ النتائج على الأسباب.
ويرى المؤلف أن غموض تاريخ هذه العلاقة، أو معرفتها لا على الوجه الصحيح من أهم أسباب فساد الحياة الأدبية حتى وقت تأليفه الرسالة. (ص34، 37).
يقول المؤلف: (ولا يأتيك الجوابُ صريحًا بيِّنًا أمينًا، إلاّ بَعْدَ أن أقُص عليك قِصَّةَ تاريخ طويلٍ سوف أختصره لك اختصارًا مُوجَزًا أشدَّ الِإيجاز ما استطعتُ، وذلكَ لأن هذا الفَسادَ لم يدخل على ثقافتنا دخولاً يوشِك أنْ يَطْمِسَ مَعَالمها ويطفيء أنوارهَا، إلاّ بعد التصادمِ الصامتِ المخيفِ الذى حَدَث بيننا وبين الثقافة الأوربيّة الحاضرةِ، وإذا نحن أغفلنا هذا التاريخ ولم نتبينه تبيُّنًا واضحًا، فكأننا أغفلنا القضية كلَّهَا، وأسقطناهَا إسقَاطًا من عقولنا). (ص34).
ويحرصُ المُؤلِّف على إبراز دور الاستشراق في الهزيمة أمام الغرب، لأن ذلك الدور يمثل الجذور التاريخية للفساد الذي عايشه في فترة الاحتلال الإنجليزي لمصر، الفساد الذي شمل الحياة الأدبية التي قرر المؤلف أن يرفضها رفضًا صريحًا قاطعًا. وقد استغرق إبراز دور الاستشراق أكثر الرسالة. يقول المؤلف: (هَمّي هنا مصروف إلى (الاستشراق) لعلاقته الحميمة بفساد حياتنا الأدبية والاجتماعية). (ص49).
3- طريقة المؤلف في الكتاب وموارده:
مع إقرار المؤلف بطول حديثه التاريخي فإنه يصفه بأنه وصف مختصر (ص149)، وأنه وصف سريع خاطف (ص50)، وأنه لا يستطيع أن يورد القصة التاريخية كاملةً بتفاصيلها، لذا يطلب من القارىء أن يقنع منه بالاختصار المفهم، واللمحة الدالّة، والإيماء الخاطف (ص79).
وهذا الكتاب كتابٌ نقديّ، إذ هو كما تقدّم يعنى بانتقاد الحياة الأدبية الفاسدة في مصر، ليفسر سبب حصول الخلاف بينه وبينها، ويسلك المؤلف أحيانا أسلوب النقد المباشر، ولعل ذلك يظهر في أمرين:
الأول: نقده اعتماد الأساتذة الذين شكلوا الحياة الأدبية في مصر على دراسات المستشرقين (ص62-78)، ولعله يعني بذلك أول ما يعني أستاذَه طه حسين الذي كان اعتماده على مقالة مرجليوث في الشعر الجاهلي نقطة فاصلة في العلاقة بينهما.
الثاني: انتقادات على بعض المشتغلين بالأدب والتاريخ من المصريين الذين كتبوا في التأريخ لنفس الوقائع التي يذكرها، وقد كان لكتاب (تاريخ الحركة القومية) لعبد الرحمن الرافعي النصيب الوافر من تلك الانتقادات، إذ وصفه بأنه يكتب التاريخ بعين أروبية تخالطها نخوة وطنية (ص93)، ويصفُه بالمؤرخ المُدَجَّن (ص139، 143)، ويحّذر من كتابه المذكور أشدَّ الحذر (ص124)، وينتقد تعليقَه على زواج مينو خليفة «نابليون» الثاني في مصر من ابنة أحد المصريين (ص95)، وينتقد ترجمته لإحدى رسائل «نابليون» (ص109-111)، وينتقد نقله عن أحمد حافظ عوض دون أن يعزو له (ص109)، وينتقد تأييده للبعثات العلمية لأوروبا في عهد محمد علي (ص139)، ووصفه لمدرسة الألسن التي أنشأها الاستشراق في مصر (ص145).
ومن هذا الباب أيضًا: انتقاد المؤلف إيرادَ زكي نجيب محمود لقصة يزعم أنها حصلت بين شيوخ من الأزهر و«نابليون» بعد احتلاله لمصر (ص91-92، 119)، وينتقد كلامًا لطه حسين في كتابه في الشعر الجاهلي (ص29-30).
ويحذّر المؤلف من الاغترار بسطوة بعض الألفاظ الشائعة في الحياة الأدبية الفاسدة مثل: (الجديد والقديم، والأصالة والمعاصرة، والتجديد والتقدم، والثقافة العالمية، والحضارة العالمية، والتخلُّف والتحضُّر). (ص75،80، 87، 118)
وفي الكتاب عناية بشرح بعض المفاهيم المستعملة في المجال الأدبي مثل مفهوم (المنهج) و(ما قبل المنهج) (ص21-33)، ومفهوم الثقافة (ص71-72).
وفيه إشارات فقهية قليلة، لا يوردها المؤلف لذاتها وإنما يوردها لتفسير حدثٍ تاريخي، فمن ذلك أن المؤلف علّق على توصية «فانتور» المستشرق بتدجين المشايخ الكبار في القاهرة خلال حملة «نابليون» على مصر، مفسِّرًا مخالفة الجماهير لهؤلاء المشايخ، فقال: (ومسكين هذا الجزار، فإن تَدجين المشايخ الكبار في الديوان لم يمنع الثورة أن تقوم، وذلك لأن المشايخ الكبار لهم عند عامة المسلمين هيبةُ العلم، وطاعتُهم واجبةٌ علينا فيما هو طاعةٌ لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن هيبة العلم ليست بمانعة جماهيرَ الأُمَّة من عصيانهم وترك طاعتهم إذا هم خالفوا صريحَ أوامر الله وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم بقتال الغزاه لدار الاسلام، فإن قتال الغزاة عند المسلمين واجبٌ وفرضُ عينٍ على كل قادرٍ على القتال، إلا في حالةٍ واحدة: إلا أن يخافوا أن يصطلمهم العدو لقلَّة عددهم وكثرة عدد العدو (اصطلمهم العدو: استأصل شأفتهم وأبادهم)، فجائزٌ عندئذٍ أن يلقوا إليهم السلم (ألقى إليه السلم: استسلم له وصالحه)، بيد أن في قتالهم الشهادة، وهي إحدى الحُسنين (الحسنيان النصر أو الشهادة)). (ص105-106).
وهذا التقرير الفقهي الذي ذكره المؤلف هو تقرير الإمام الشافعي رضي الله عنه في «كتاب الأم»، حيث قال: (ولا خيرَ في أن يُعطِيهم المُسلمون شيئًا بحالٍ على أن يكفُّوا عنهم؛ لأنَّ القتل للمسلمين شهادة، وأن الإسلام أعز من أن يُعطَى مُشركٌ على أنْ يكفَّ عن أهله؛ لأنَّ أهلَه قاتِلَين ومقتُولين ظاهرون على الحق، إلا في حال واحدة، وأخرى أكثر منها، وذلك أن يلتحم قومٌ من المسلمين فيخافون أن يصطلموا لكثرة العدو وقلَّتهم، أو خَلَّةٍ فيهم، فلا بأس أن يعطوا في تلك الحال شيئًا من أموالهم على أن يتخلصوا من المشركين؛ لأنَّه من معاني الضرورات، والضرورات يجوزُ فيها ما لا يجوز في غيرها، أو يؤسر مسلم فلا يُخلَّى إلا بفدية، فلا بأس أن يُفدى..) [13].
وهذا التقرير يتضمن تفسير الثورة على الفرنسيين لدى احتلالهم مصر تفسيرًا دينيًّا، أي أنهم تحركوا بباعث ديني، يعتمد على التأصيل الشرعي في تلك الحالة، وهو بذلك يقرر اتصال الأمة إذ ذاك بثقافتها. وليس في كون هؤلاء المشايخ المُدجَّنِين من الأزهر ما يدل على أن الأزهر إذ ذاك تخلى عن كونه مركزًا للثقافة الإسلامية المتكاملة، كما يصفه المؤلف، إذ لم يوافقهم على موقفهم هذا عامة طلبة الأزهر، كما يقرر المؤلف.
ويذكر المؤلف أيضًا تفسيرًا فقهيًّا لموقف المشايخ الذين سالموا الاحتلال الفرنسي، ودخلوا في الديوان، فيقول: (والذي دعا هؤلاء للاستجابة خوفهم على مصيرِ القاهرة التي تُرِكَت بلا حامٍ يحميها بعد أن خذلَها حُماتُها من صناديد الحرب والقتال، وهم المماليك المصرية، فلم يَرَ المشايخُ سبيلًا إلى حقنِ دماء العامَّة رجالًا ونساء إلا المُهادَنة، وإلا الصبر والسكينة، حتى يكشف الله هذه الغُمَّة بما شاء سبحانه). (ص134).
أما الكتاب التاريخي الذي يستشهد به المؤلف وينقل منه ما يفيد في رسم الصورة التاريخية التي قصدَ إيصالها للقارىء: فهو «تاريخ الجبرتي» إذ ذكره في مواطن متعددة (ص83، 90، 98، 124- 128، 131). وينقل في موطن واحد (ص132-133) من كتاب «المصريون المحدثون: شمائلهم وعاداتهم» للمستشرق «وليم إدوارد لين». ويثني على كتاب «ودخلت الخيل الأزهر» لمحمد جلال كشك.
وقد رجع المؤلف إلى كتاب عبد القاهر الجرجاني «الرسالة الشافية» وأورد منه نصًّا يدلُّ على تأصيله مبدأ التذوّق في النثر والشعر.
4- عرض مضامين الكتاب:
القسم الأول من الرسالة يتحدّث فيه المؤلف عن منهج التذوّق الذي اهتدى إليه في فترة العزلة العلمية التي سبقت الإشارة إليها، فيتحدّث عن تطبيقه هذا المنهج بعد أن أحس بفساد المناهج الأدبية في مصر، وأنه طبقه على كل ما وجده من كلام في كتب التراث، وأن هذه التجربة أمدّته بخبرات جمة متباينة متشعبة، وفرغ منها سنة 1935م، وأن في كلام بعض العلماء السابقين ما يدلّ على هذا المنهج، ونقل كلامًا للجرجاني فيه إجراء منهج التذوّق على كل كلام، وليس الشعر فقط.
وفي شرح منهجه في تذوّق الكلام يقول المؤلف: (ففي نظم كلِّ كلام وفي ألفاظه، ولا بُدَّ، أثرٌ ظاهرٌ أو وَسْمٌ خفيٌّ من نفس قائله وما تنْطوى عليه من دَفين العواطفِ والنوازعِ والأهواء من خيرٍ وشرٍّ أو صدق وكذب = ومن عقْل قائله، وما يكمُن فيه من جَنينِ الفِكْر، (أي مستوره) ، من نظرٍ دقيقٍ، ومعانٍ جليَّةٍ أو خفيَّةٍ، وبراعة صادقةٍ ، ومهارةٍ مُمَوَّهةٍ، ومقاصدَ مَرْضيّةٍ أو مُسْتكرهةٍ. فمنهجي في «تذوُّق الكلام»، معنِيٌّ كل العناية باستنباط هذه الدفائن، وباستدراجها من مكامنها، ومعالجةِ نظْم الكلامِ ولفظه معالجةً تُتيح لي أن أنْفُضَ الظَّلامَ عن مصُونها، وأُمِيط اللثامَ عن أخفَى أَسْرارِها وأغْمَضِ سرائرها. وهذا أمرٌ لا يستطاع ولا تكون له ثَمَرةٌ، إلاّ بالأناةِ والصَّبْرِ، وإلاّ باستقصاء الجُهْد في التثبُّت من معاني ألفاظ اللغة، ومن مَجَاري دلالاتها الظاهرةِ والخفيّة، بلا استكراهٍ ولا عجلةٍ، وبلا ذهابٍ مع الخاطر الأوّل، وبلا توَهُّمٍ مُسْتَبِدٍّ تُخضِعُ له نَظْمَ الكلام ولَفْظَه). (ص15-16).
ويتحدّث عن تطبيقه هذا المنهج أول مرة في «كتاب المتنبي»، وأن جمهرة الأدباء والقارئين يومئذ لمسوا تميز منهجه عن المناهج الأدبية السائدة في مصر إذ ذاك، لكنهم لم يبحثوا في هذا المنهج، فطمس منهجه وبقي مغمُورًا، لكنه هو لم يفارق هذا المنهج، بل سار عليه في كل ما كتبه خلال السنوات الخمسين التي تلت نشر «كتاب المتنبي» للمرة الأولى.
والقسم الثاني من الرسالة وهو الذي يتضمن موضوعها الرئيس، يقرر المؤلِّف أولًا أن دافع اليقظة التي حصلت في أوروبا وخروجها من حقبة القرون الوسطى إنما هو البغضاء المشتعلة في غور العظام الأوروبية للعالم الإسلامي، سيما بعد فتح القسطنطينية (ص41-42)، إذ حركت هذه البغضاء الهمم نحو التسلّح بسلاح العلم الذي هيأ للمسلمين ما هيّأ من أسباب الظفر والغلبة.
ولبيان كيف تكوّنت هذه البغضاء في القلوب الأوروبية تجاه العالم الإسلامي، وكيف استفاد الأروبيون من تجاربهم السابقة في الصراع مع العالم الإسلامي = يعرض المؤلف أربعَ مراحل من الصراع بين الإسلام وبين «المسيحية الشمالية»، فيقول: (المرحلةُ الأولى: صراعُ الغَضَب لهزيمة المسيحية في أرض الشام ودخولِ أهلها في الإسلام، فبالغضب أمَّلت اختراق دارِ الإسلامِ لتَسْترِدَّ ما ضاع، تدفَعُها بغضاءُ حَيَّة متسامحة، لم تمنع ملكاً ولا أميرًا ولا راهباً أن يمدَّ المسلمين بما يطلبونَة من كتب علوم الأوائل (الإغريق)، التي كانت تحت يد المسيحية يعلوها التراب. وظلَّ الصراع قائماً لم يفتر، أكثر من أربعة قرونٍ.
المرحلة الثانية: صراع الغضب المتفجِّر المتدفّق من قلب أوربة، مشحوناً ببغضاء جاهلةٍ عاتية عنيفةٍ مكتسحةٍ مدمِّرةٍ سفَّاحةٍ للدماء، سَفَحت أوّل مَا سفَحَت دماءَ أهل دينها من رعايا البيزنطية، جاءت تريدُ هى الأخْرَى، اختراقَ دار الإسلام، وذلك عهد الحروب الصليبية الذي بَقى في الشام قَرنين، ثم ارتدَّ خائبًا إلى مواطنه في قلب أوربَّة.
المرحلة الثالثة: صِراع الغضب المكظُوم الذي أورثه اندحارُ الكتائب الصليبيَّة، من تحتِه بغضاء متوهِّجة عنيفة، ولكنَّها متردِّدَة يكبحها اليأس من اختراق دار الإسلام مرة ثالثة بالسلاح وبالحرب، فارتدعَتْ لكي تبدأ في إصلاح خَلَل الحياة المسيحية، بالاتَكاءِ الشديد الكامل على علوم دار الإسلام، ولكي تستعدَّ لإخراج المسيحيّة من مأزِقٍ ضنْكٍ مُوئس، وظلت على ذلك قرناً ونصف قرنٍ.
وهذه المراحل الثلاث، كانت ترسف في أغلالِ القرون الوسطى، أغلالِ الجَهْلِ والضيَّاع. ولم تصنع هذه المراحل شيئاً ذا بالٍ.
المرحلة الرابعة: صراع الغضب المشتعل بعد فتح القسطنطينية يزيده اشتعالًا وتوهُّجا وقود من لَهيب البغضَاء ِوالحِقْد الغائر في العِظام على " التّرك "، (أى المسلمين)، وهُم شبح مُخِيف مندفع في قَلْبِ أوربّة، يُلْقِي ظِلَّه على كُلِّ شيء، ويفزِّع كلَّ كائن حيّ أو غيرَ حَيّ بالليل وبالنَّهارِ. وإذا كانت المراحلُ الثلاثُ الأولَى لم تصنع للمسيحيّة شيئاً ذا بالٍ، فصراع الغضب المشتعل بلهيبِ البغضاء والحقد هو وحدَهُ الذي صنع لأوربة كل شيء إلى يومنا هذا. صَنع كُلَّ شىءٍ، لأنه هو الذى أدَّى إلى يَقَظةٍ شاملة قامت على الإصرارِ، وعلى المجاهدة المثَابِرَةِ على تحصيل العلم وعلى إصلاح خلَل الحياة المسيحية). (ص44-45).
وعند أول بدء اليقظة؛ يقرر المؤلف أن أهداف الأوروبيين قد تحددت، وأنهم علموا أنهم مقبلون على حرب صليبية رابعة (ص46)، وأكبر تلك الأهداف شأنًا (اختراقُ دار الِإسلام، ثم تمزيقُها من قلبِها، ثم الظفر بالكنوز الغالية التي كانت، ولم تَزَلْ، تراوِدُ كلَّ قلبٍ ينبض في أوربة بأحلامٍ شَرِهةٍ مسعورةٍ إلى الغنى والثروةِ والمتاعِ، غَرَستْ بذورَها في أعماق النفوس أحاديثُ العائدين من حملات الحروب الصليبية القديمة). (ص51).
يتبع