المقدمة :-
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وبعد:-
قال تعالي{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] ، وقال تعالى{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا} [ النساء:1]، وقال تعالى{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا 70، يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما:71}[ الأحزاب].
وبعد:-فمما لاشك فيه أنه ينبغي على أفراد الفئة المسلمة أن تراجع نفسها مراجعة دقيقة حتى تستكشف جوانب الخلل فيها ولماذا هذا التراجع المرير لهذه الفئة في التأثير الدعوي والمغالبة الحضارية ٌٌٌلإقامة دعوة الله وإقامة المشروع الحضاري الإسلامي.
وستكشف لنا هذه المراجعة عن أخطاء تتراوح بين القلة والكثرة وفى هذا المبحث سنتاول أحد هذه الأخطاء وهى أزمة فقدان العقل المبدع أو العقل المفكر وقلة وجوده في العمل الإسلامي وهى أزمة تربوية في الأساس تنتج نتيجة ممارسات تربوية خاطئة ينتج عنها تفرد آحاد بالتفكير والباقي أو البقية تجلس في مقاعد المتفرجين أو المستمعين وفى أغلب الأحيان المصفقين!!،وتنبع أهمية الموضوع من عدّة نقاط:-
أولاً-أن آيات القرآن تدعو إلى التفكر في الآيات الكونية وفى الأنفس ومن آيات الله في الكون قوله تعالى{هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون (10) ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون(11) وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون (12)[النحل]يقول ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى {إن في ذلك لآية } يقول جل ثناؤه : إن في إخراج الله بما ينزل من السماء من ماء ما وصف لكم لآية : يقول : لدلالة واضحة وعلامة بينة : { لقوم يتفكرون } يقول : لقوم يعتبرون مواعظ الله ويتفكرون في حججه فيتذكرون وينيبون،ويقول في تفسير قوله تعالى{إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون }يقول تعالى ذكره : إن في تسخير الله ذلك على ما سخره لدلالات واضحات لقوم يعقلون حجج الله ويفهمون عنه تنبيهه إياهم}([1]) فالقرآن ليس كتاب تاريخ أو جغرافيا أو علوم طبيعة ولكنه رسم للعقول دروباً تسدد الفكر،وأوجد المناخ العلمي كي ينتفع الناس بما سخرا لله لهم مما في الأرض ويستنبطوا في العلوم ما ينفعهم ولا يضرهم.،أوجد القرآن المناخ العلمي لينتفع الناس من التاريخ والجغرافيا فذكر أسباب التقدم وأسباب الانهيار عند الأمم {قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين 11 }الإنعام.،فالمنا خ العلمي هو الذي يسمح بالإبداع وطرح الأسئلة ولذلك شنع القرآن على الجمود وعلى الذين يقولون {إنا وجدنا آباءنا} [الزخرف23].إن الله سبحانه عندما أعطى الإنسان قوى العقل ليفكر أراد منه أن يكون التفكير طريقاً لما هو أنجح وأقوى وأحكم ولم يعطيها للإنسان ليجعلها خيالات وخرافات([2])،يقول الشيخ ابن عاشور:« إن إصلاح التفكير من أهم ما قصدته الشريعة الإسلامية في إقامة نظام الاجتماع، وبهذا نفهم وجه اهتمام القرآن باستدعاء العقول للنظر والعلم والاعتبار....»([3] )كما يدعو القرآن إلى التفكير بشكل عام والتخلص من إرث الآباء والأجداد كما في قوله تعالى{قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد}[سبأ: 46].
-وبين القرآن أن سبيل الدعوة الصحيحة وهو سبيل المرسلين أن تكون الدعوة على بصيرة.
-يقول تعالى في سورة يوسف {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين }[يوسف: 108]
قال أبو جعفر الطبري : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد صلى الله عليه وسلم : هذه الدعوة التي أدعو إليها والطريقة التي أنا عليها من الدعاء إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له دون الآلهة والأوثان والانتهاء إلى طاعته وترك معصيته ** سبيلي } وطريقتي ودعوتي أدعو إلى الله وحده لا شريك له ** على بصيرة } بذلك ويقين علم مني به أنا ويدعو إليه على بصيرة أيضا من اتبعني وصدقني وآمن بي { وسبحان الله } يقول له تعالى ذكره : وقل تنزيها لله وتعظيما له من أن يكون له شريك في ملكه أو معبود سواه في سلطانه : { وما أنا من المشركين } يقول : وأنا بريء من أهل الشرك به لست منهم ولا هم مني .
يقول الهروى رحمه الله في المنازل في الكلام على نفس الآية :- يريد أن تصل باستدلالك إلى أعلى درجات العلم وهى البصيرة التي تكون نسبة المعلوم فيها إلى القلب كنسبة المرئي إلى البصر، وهذه هي الخصيصة التي اختص بها الصحابة عن سائر الأمة ، وهى أعلى درجات العلماء،قال تعالى{قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني} أي أنا واتباعى على بصيرة، ومن اتبعني كذلك يدعو إلى الله على بصيرة، وعلى القولين:-
فالآية تدل على أن أتباعه هم أهل البصائر الداعون إلى الله تعالى،ومن ليس منهم فليس من أتباعه على الحقيقة والموافقة وإن كان أتباعه على الانتساب والدعوى}([4]).
فنرى من تفسير السلف لهذه الآية أن" البصيرة " يجب أن تكون من سمات القائد والأتباع أيضا لا ينفرد بتا أحد دون الآخر.
ونرى كذلك أن القرآن قد أخبرنا عن قوم ضلوا بسبب عدم تفعيل عقلهم وتفّكرهم واتّبعوا ما عليه الآباء وهم أصحاب «العقلية الآبائية»وهم الذين قالوا{إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون } (الزخرف23 ) فحين عطلوا تفكيرهم عن إبصار الحق ارتكسوا هم وآباءهم في الضلال المبين.
يتبع إن شاء الله .
الهوامش.
[1]- تفسير الطبري تفسير سورة النحل.
[2] - د.محمد العبدة"بعض أسس التفكير كما جاءت في القرآن الكريم"ص3 من سلسلة دروب النهضة طباعة دار الصفوة بمصر.
[3] - الطاهر بن عاشور"النظام الاجتماعي في الإسلام" نقلا عن المصدر السابق ص4.
[4] - فتح المجيد شرح كتاب التوحيد طبعة دار الفتح ص77 .