يهم من تلك الوقفات ما كان سببا لطعن الذهبي رحمه الله في نسبة الكتاب و قد بنى ذلك على
- سند الكتاب . و قد ذكر المحقق سندا آخر لم يقف عليه الطاعن ذكره ابن بطة في الإبانة
- ان المناظرة لو صحت . لكانت الحجة قد قامت على المأمون فكيف لم يرجع عن ذلك و بقي ينصر مذهب الجهمية و يمتحن الناس و يعاقبهم عليه ؟
فكان و لا بد بعد هذا لمن يصحح نسبة الكتاب أن يبين ماهية الحجة التي يشترطها في هذا المقام ؟
و كيف قامت على من حضر المناظرة من الجهمية و لم تقم على المأمون ؟
فلنذكر أهم المواطن في المناظرة التي تبين حال المأمون مع حجة الكناني و كيف لم يكن ذلك كافيا لقيامها عليه ؟ فبمثل هذا تدرك حقيقة الحجة التي يشترطها البعض لتكفير هؤلاء ؟
وقبل ذكر ذلك نذكر أهم ما قاله المحقق مما هو متعلق بهذا الأمر
قال الشيخ علي بن ناصر الفقيهي في مقدمة الكتاب
( إن نسبة كتاب "الحيدة" لعبد العزيز الكناني، وكذلك مناظرته لبشر المريسي بحضرة المأمون ثابتة كحادث تاريخي لم يشك في ذلك أحد من العلماء الذين نقلوا ذلك في كتبهم- اللهم إلا ما ورد عن الإمام الذهبي في كتابه "ميزان الاعتدال " من حيث إسناد الكتاب، وقد روى الكتاب ابن بطة بإسناد غير الإسناد الذي ذكره الذهبي . مع أن الذهبي قد أثبت كتاب الحيدة، والمناظرة في كتابيه العبر، ودول الإسلام )
( و قال ابن حجر في لسان الميزان : ووجه استبعاد المصنف ( الذهبي ) كتاب الحيدة، إنه اشتمل على مناظرات أقيمت فيها الحجة لتصحيح مذهب أهل السنة عند المأمون والحجة قول صاحبها. فلو كان الأمر كذلك ما كان المأمون يرجع إلى مذهب الجهمية ويحمل الناس عليه ويعاقب على تركه ويهدد بالقتل وغيره كما هو معروف في أخباره في كتب المحنة. )
وقال
( قد كانت حصيلة تلك المناظرة كتاب "الحيدة" هذا الذي تضمن الأدلة القوية الصريحة في الرد على القائلين بخلق القرآن من الجهمية والمعتزلة ومن تبعهم )
( وقد جرت المناظرة بين بشر المريسي وعبد العزيز الكناني في هذه المسألة وقد أورد الكناني في هذه المناظرة الأدلة القاطعة الدامغة لمن ينتحل هذه الفكرة بأسلوب أدبي علمي عجيب دل على سعة علم الكناني ومعرفته لكتاب الله وسنة رسوله فقد انتزع منه الحجج القطعية التي أبطل بها مذهب الجهمية والمعتزلة ومن يقول بقولهم من أن القرآن مخلوق)
وقال
( كون المأمون بقي بعد تلك المناظرة على رأيه، لا ينهض دليلا على عدم وقوع المناظرة، ولا طعنا في كتاب "الحيدة" الذي هو حصيلة تلك المناظرة، لأن الشبهة التي لبس بها الجهمية على المأمون كانت قوية بحيث أصبحت عند المأمون عقيدة يرى أن مخالفها كافر مرتد يستحق العقوبة بالقتل، فكم من مناظرة قد أقيمت بين يديه، وكم من عالم حبس وضرب، بل وقتل، فمن أجل هذه الشبهة القوية لم يستطع المأمون التخلص منها، ويدل لذلك أن بشرا وأتباعه لازالوا بعد المناظرة يستغلون الفرص المناسبة للطعن على الكناني عند المأمون )
لكن ان كان هذا مانعا من قيام الحجة على المأمون . فهو مانع من قيام ذلك على الجهمية ممن حضر المجلس . فنفس الشبهة التي هي عند المأمون هي شبهة و عقيدة عند هؤلاء لم يستطيعوا التخلص منها كحال المأمون تماما ؟
فلننظر الى الجميع على أنهم بشر تعتريهم الآفات و الشبهات . و أن المأمون جهمي كهؤلاء .
و قد قال الذهبي عنه في السير
( قرأ العلم والأدب والأخبار والعقليات وعلوم الأوائل )
( كان المأمون عالما فصيحا مفوها )
فإذا كانت حجج الكناني غير كافية لإزالة شبه الجهمية و لا تقوم بها حجة على هؤلاء . فليغلق هذا الباب ما دام أن خيار الأئمة و السلف لم يتمكنوا من ذلك . مع ان ادعاء بقاء الشبهة أمر خفي لا يستطيع أحد أن ينفيه عن هؤلاء ؟
ثم قال المحقق
( إن هذه المناظرة وإن قامت فيها الحجة للكناني على بشر المريسي أمام المأمون إلا أن الشبهة على المأمون أن كانت قوية، فلم تزل عنه بتلك المناظرة )
( كل ذلك يجعلنا نطمئن إلى أن كتاب "الحيدة" هو من تأليف عبد العزيز الكناني وقد نصر فيه السنة، وقمع البدعة، وقد استفاد من هذا الكتاب أناس كثيرون. غير المأمون الذي لم يستفد من تلك المناظرة ومعلوم أن المأمون لا يريد إلا الحق، ولكنه لم يهتد إليه )
لا بد ان يعلم ان من أعيان الجهمية و المعتزلة الذين كفرهم السلف و تكلموا فيهم من حاله احسن بكثير من حال المأمون . كيف و هو الذي قتل العلماء و عذب الزهاد و الأتقياء. و حمل الناس على الكفر بالله .
و سنذكر بعد هذا ما هو مهم في المناظرة لنتبين حال المأمون و مقدار حجة عبد العزيز الكناني عليه
و ننظر بعد ذلك هل كان ذلك كافيا لقيام الحجة عليه ام لا ؟
قبل المناظرة التزم المأمون اتباع الكناني ان ظهرت حجته على المبطلين فقال
( قد جمعتك والمخالفين لك لتتناظروا بين يدي وأكون آنا الحكم فيما بينكم فإن تكن لك الحجة والحق معك تبعناك، وإن تكن لهم الحجة عليك والحق معهم عاقبناك )
قال عبد العزيز الكناني في المناظرة محتجا على بشر المريسي
( {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ} يعني القرآن فهذا خبر الله أن القرآن أمره وأن أمره القرآن، وإن هذه أسماء شتى لشيء واحد، وهو الشيء الذي به خلق الأشياء وهو غير الأشياء، وخارج عن الأشياء، وغيره داخل في الأشياء، ولا هو كالأشياء وبه تكون الأشياء، وهو كلامه، وهو قوله، وهو أمره، وهو الحق. وهذا نص التنزيل بلا تأويل ولا تفسير
فقال المأمون: "أحسنت أحسنت يا عبد العزيز."
فقال عبد العزيز بعد ذلك
( لقد أخبر الله عز وجل عن جهله ( يقصد بشر المريسي ) , وأزال عنه التذكرة, وأخرجه عن جملة أولى الألباب، لكن أمير المؤمنين أطال الله بقاه لما خصه الله به من الفضل والسؤدد، ورزقه من دقة الفهم وكثرة العلم والمعرفة باللغة عقل عن الله عز وجل قوله، وعرف ما أراد به وما عنى به فقبله واستحسنه ممن انتزعه بين يديه وأظهر قبوله والرضاء بقوله )