سم الله الرحمن الرحيم
هِمَّة السَّلَف في طلب العلمالحمدُ لله الذي جعل العلماء مرفوعين منزِلةً ، وسهَّل لطالب العِلم طريقًا إلى الجنة كلَّما سلك طريقًا إلى العلم ، فله الحمد كثيرًا كما أنعم كثيرًا ، وأشهد أنْ لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُ الله ورسولُه ، صلى الله عليه وعلiى آله وصحبه وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا .أما بعدُ :فأسأل الله – جل وعلا – أن يجعلنا ممن صلُحت له الأقوال والأعمال ، وصلح له قول اللسان وقول القلب ، واستقام له عمل القلب وعمل الجوارح ، كما أسأله – سبحانه – أن يَقِيَنا العِثار في القول والعمل ، وأن يجعلنا مباركَين معلمين للخير مفتِّحين أسبابه أينما كنا ، إنه سبحانه جوَاد كريم .
العلم سبيل النجاة :إن طلب العلم سبيل نجاة وسبيل هداية ، كما أنه سبيل لرفع الأُمَّة من الواقع الذي تعيش فيه ؛ لأن رفع الأمة مما تعيش فيه يحتاج إلى أسباب كثيرة تُبذَل وتُيسَّر السُّبُل لها ، ومن ذلك أن يكثُر طَلَبَة العلم ؛ لشدة الحاجة اليوم إلى ورثة الأنبياء ؛ فإن هذه الأُمَّة لم يكن فيها نبي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل خُتمت الرسالات والنبوات بمحمدِ بنِ عبد الله عليه الصلاة والسلام ، ولكن بقِي وَرَثَة محمدِ بنِ عبد الله عليه الصلاة والسلام ، وهم أهل العلم وحملة العلم وطلبة العلم ؛ فإنهم أهل الوراثة الحقيقية .وصحَّ عنه – عليه الصلاة والسلام – أنه قال : « العُلَمَاءُ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ ، وَإِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا ، وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ »( [1] ) ، لهذا كانت الحاجة ماسَّة إلى التربية العلمية لكي تقوى الأمة ولكي يبقى فيها العلم النافع المستقَى من الكتاب والسنَّة على نهج سَلَف الأمة ، فهذا العلم النافع فيه قوة ، وفيه إرغام للأعداء ، كما قال ابن الوَرْدِيّ في لاميته :
فيازدياد العِلْمِ إِرْغَامُ العِدَا وجمالُ العِلم إصلاحُ العَمَلْ
إن في ازدياد العلم وبث العلم ونشر أسبابه من الدورات العلمية والمحاضرات والدروس وما شابه ذلك . . . في هذا دعوة إلى الخير على بصيرة ؛ لأن الدعوة إنما تكون بالعلم ، فإذا صح العلم صحت الدعوة وكانت على بصيرة ، قال جل وعلا : ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [ يوسف : 108 ] ، والبصيرة هي العلم النافع ؛ لأن البصيرة للقلب هي ما يُبصِر به القلب الصواب في المعلومات والمدرَكات ، والصواب في المعلومات والمدركات يكون بالبصيرة بالعلم النافع ، وبالعلم المتلقَّى من مصدر التلقي المأمون الصحيح ، وهو كتاب الله جل وعلا ؛ القرآن العظيم ، وسنة محمدِ بنِ عبد الله عليه الصلاة والسلام ، وما تفرع عنهما من علوم مختلفة .
رفع شأن العلم والعلماء :لهذا تجد – يا طالب العلم – أن الله – جل وعلا – رفع شأن العلم والعلماء في القرآن الكريم ، ورفع شأنهم النبي صلى الله عليه وسلم ، يقول الله – جل وعلا – لنبيه عليه الصلاة والسلام : ﴿ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴾ [ طه : 114 ] ، ويقول الله جل وعلا : ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾ [ المجادلة : 11 ] ، فأهل العلم والذين أُوتُوا العلم مرفوعون درجاتٍ بوعد الله – جل وعلا – الصادق لهم ، وكذلك بَيَّن – جل وعلا – في القرآن العظيم أن الأنبياء حملوا العلم فبلغوه كما أمرهم الله – جل وعلا – بذلك ، وكل رسول أُمر الناس بأن يُطيعوه ، وإنما أتى الرسل بالعلم من الله – جل وعلا – بما أُوحي إليهم : ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [ النساء : 64 ] .والعلم النافع أثنى عليه النبي – صلى الله عليه وسلم – في الحديث الصحيح : « مَثَلُ ما بَعَثَنِي اللهُ به مِنَ الْهُدَى والعِلمِ كمَثَلِ الغَيْثِ الكثيرِ أصابَ أَرْضًا »( [2] ) .
فهنا العلم النافع مُثل بالماء في هذا الحديث ، ومُثل الوحي في القرآن في أكثر من آية بالماء ، والوحي علم ، والعلم وحي من جهة أنه يُؤخَذ من الوحي ، فعِظم شأن العلم يُنظر إليه بالنظر إلى عِظَم شأن النبوَّة وعظم شأن الرسالة ، فازدياد العلم هو بقاء لأنوار الرسالة .ومن فوائد قصة موسى – عليه الصلاة والسلام – مع السَّحَرَة ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيميَّة من أن السحر والسحرة يكثرون إذا قلتْ أنوار العلم والنبوَّة ، ويَضْمَحِلُّون إذا ازدادت أنوار العلم والنبوة . وهذا صحيح ظاهر من قصة موسى : ﴿ فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ﴾ [ الشعراء : 45 ] ، فالعلم والسنَّة يلقَفان كل ما أفكوه ويبتلعانه ويأخذانه ويصيحان به من كل جانب .
ما يجب أن يَتَحَلَّى به طالب العلم :
1 – النية الصالحة والعلم لا بد لتحصيله من أمور :وأولها النية الصالحة ؛ لأن طَلَب العلم عبادة ، ومُدارسة العلم خشية ؛ كما قال السلف ، فطلب العلم عبادة ، وكما جاء في صحيح مسلم أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : « وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ »( [3] ) ، فالعلم وطلبه عبادة ، فيحتاج إلى عزيمة وصبر – كما سيأتي – ويحتاج أولًا إلى تصحيح النية .وطالب العلم قد يأتي للعم ولمدارسته بدون نية ، لكن إذا طلب العلم جاءت النية ؛ لأنه حينئذٍ يُحاسِب نفسه ، قال ابن المبارك وغيره من أئمة السلف : طلبنا العلم وليس لنا فيه نية فجاءت النية بعدُ . لأن النية الصالحة في العلم ربما غفَل عنها طالب العلم إما لِصِغره أو لأنه لم يَستحضِرْ هذا الأمر ، لكن أوَّل ما يتعلم في هذا العلم حديث : « إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ ، وإنما لِكُلِّ امْرِئٍ ما نَوَى »( [4] ) . والأعمال جمع عمل ، وهو العمل الذي يُراد به وجه الله جل وعلا ، ومن ذلك العلم وطلب العلم ، فكل طلب للعلم هو بالنية ، فمن أراد به وجه الله – جل وعلا – فهو بحسَب نيته ، ومن أراد به الدنيا وأن يزداد منها أو أن يلتفت الناس إليه أو أن يشيروا إليه أو أن يكون مِقْوَلًا يتحدث ويحسن الكلم ، فإنه حينئذ فاسد النية .قال السلف الصالح من أئمة أهل الحديث : النية في العلم أن تنوي به وجه الله جل وعلا . قال الإمام أحمد : النية في العلم أن تنوي به رفع الجهل عن نفسك . وبه تلحظ أن رفع الجهل متوجِّه إليك ، فإذا طلبت العلم فاعلَم أنك تتعلم لترفع عن نفسك الجهل بأعظم ثلاثة أمور يُسأل عنها العبد في قبره ؛ ألا وهي الجهل بالله جل وعلا ، والجهل بالدين ، والجهل بالرسول صلى الله عليه وسلم ؛ فإن المسلم والمسلمة يُسألان في القبر عن ثلاث : من ربك ؟ وما دينك ؟ ومن نبيك ؟ ولهذا كان العلم النافع متوجهًا إلى رفع جهل المرء أو المرأة عن هذه الثلاث ، فيتعلم ما يستحقه الله – جل وعلا – من الربوبية ، والعبادة له وحده دون سواه ، ومن الأسماء والصفات ونعوت الجلال والجمال والكمال ، ويتعلم دين الإسلام بالأدلة ، ويتعلم حق النبي – صلى الله عليه وسلم – واسمه وسيرته وما كان عليه ودلائل نبوته عليه الصلاة والسلام ، يتعلم ذلك ليكون مسلمًا رافعًا الجهل عن نفسه في هذه المسائل العظام .وإذا أنِس طالب العلم من نفسه رشدًا وقوةً في العلم وحفظًا فإنه يضيف إلى هذه النية أن ينفع المسلمين ، وأحب عباد الله إلى الله أنفعُهم لعباده ، فإذا نوى بعلمه أن ينفع عباد الله في المسجد ، وفي بيته ، وأن ينفعهم في الإجابة عن أسئلتهم أو في إرشادهم أو في تعليم الجاهل ؛ وذلك في تعليم التوحيد ، وتعليم شروط الصلاة . . . وهكذا أينما كانت الحاجة ، ويوطن نفسه على ذلك ، فهو على نية صالحة .
2 – الصبر :يحتاج طالب العلم إلى أمر ثانٍ بعد النية ، ألا وهو أن يعلم طالب العلم أن طريق العلم ليس بالقصير ، بل طريق العلم طويل جدًّا ، بل هو مع الإنسان منذ أن يبدأ في العلم إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولًا بوفاته ؛ وإذا كان كذلك فإن توطين النفس على الصبر مطلوب ، والصبر هنا من جهتين :
الجهة الأولى : أن العلم عبادة ، وكل عبادة تحتاج إلى صبر .
الجهة الثانية : الصبر على الثَّبات على سلوك طلب العلم ؛ فإن طالب العلم يحتاج إلى صبر كثير ، فهل هو صبر في الحضور للدروس فقط ؟ لا ، وهل هو صبر في ملازمة المشايخ ؟ لا ، وهل هو صبر في استماع العلم ؟ لا ، ليس هذا فقط ، بل صبر على ألا يشغله عن العلم ما هو دُونَه ، وهذا أعظم ما يُعِيق العلم ، وخاصة في الشباب ؛ فإنه قد يشغلك – أيها الشاب – عن العلم الأصحاب أو النُّزَه ، أو يشغلك عن العلم أمور كثيرة مما تلذ لها النفس ، فلا مانع من أن تأخذ من هذه الأمور حظًّا لكن بحيث لا تشغلك عن العلم .ولقد قال أحد العلماء ، وهو ابن عطاء الله : من كانت بداياته مُحرقة كانت نهاياته مشرقة . فمن كانت بداياته مُحرقة قوية كانت نهاياته مشرقة ، ونحوه قول ابن المبارك أيضًا ، قال : إذا مررتَ بجدار فرأيت مكتوبًا عليه موعظة فقف عندها لتتعظ ، ولكن الفقه في الدين إنما يكون بالمشافهة والسماع . وهذا يبين لك أن الإنسان في المواعظ – خاصة الشباب – قد يجدها مع صحبه وفي أي مكان يكون فيه مما يرقق قلبه وما يقوي همته في الاستقامة ونحو ذلك ، لكن العلم يحتاج إلى المشافهة والسماع ، وقد يكون في ذلك انقطاع عما تلذ له النفس ؛ لذلك كان ينبغي على طالب العلم الصبر ، فإذا كانت بدايتك في شبابك قوية محرقة فأحرقت شبابك وأحرقت قوتك وسخرت ما أعطاك الله من الشباب والقوة وقوة الذهن والصحة والنشاط للعلم ؛ كانت النهايات مشرقة وأشرقت عليك فقهًا وعلمًا واستقامة في دين الله ، وأشرقت على غيرك أيضًا ، وأما من كان في البداية ضعيفًا فإنه سيظل ضعيفًا دون استفادة .لهذا ينبغي أن تُوطِّن نفسك على أن طريق العلم يحتاج إلى صبر ، وخذ مثلًا لذلك : قصة موسى – عليه السلام – مع الخَضِر ، كيف أنه لم يَصبِر فلم يَستفِدْ من الخضر إلا ثلاث مسائل فقط ؛ لأنه لم يصبِر ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ، كما في الصحيح : « وَدِدْنَا أنَّ مُوسَى كانَ صَبَرَ »( [5] ) . يعني فتعلمنا وأخذنا وعلِمنا ما عند عبد الله الخضر .والصبر في العلم يحتاج منك إلى قوة نفسية صارمة ؛ بأن تحفظ وأن تفهم وأن تستمع وأن يكون العلم هو الشغل الشاغل ، فابن القيم – رحمه الله تعالى – يذكر أنه ربما أتته المسألة في العلم وهو مع أهله ، فهذا من باب أولى أنه إذا كان مع غيرهم فإنه يكون تعلقه بالعلم أكبر وأعظم .
ابن رجب الحافظ العلامة زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي المتوفَّى سنة خمس وتسعين وسبعمائة – رحمه الله تعالى – كان في العلم ليله ونهاره ، ولذلك صنف هذه التصانيف الشائقة البديعة التي يُحتاج إليها ، أكثرها ليس فيه تكرار لمؤلفات مَن قبله ، وكان ابن رجب همته في العلم عالية جدًّا ، حتى إنه قرأ ما قرأ من العلم في شبابه على مشايخه وتأخر زواجه ، فلما تزوج أتته امرأته متعطِّرة متطيبة ووقفت على رأسه وهو مُنْكَبّ على أوراقه وكتبه ، فرفع رأسه إليها وقال : نظرت إليها فإذا هي كذا وكذا . فوصفها من جهة استعدادها له وتزينها وتطيبها وتجمُّلها . قال : ثم أطرقت برأسي على أوراقي وأكملت ، فغضبت امرأتي وذهبت . وذلك لأنه لم يلتفت إليها كثيرًا .
والواجب أن يُعطى كل ذي حق حقه « وإنَّ لِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا »( [6] ) ولكن أحيانًا تزيد الهمة ويزيد الرَّغَب فيصبر المرء في علمه عما هو بحاجة إليه ، ويقوى به تعلق البحث .إن بعض أهل العلم كان إذا نام لا ينام إلا وبجانبه بعض الكتب والمراجع الأساسية ؛ وذلك أنه قد يحتاج إليها حين يفكر في مسألة .