بارك الله فيك قد أجاب عن ذلك الإمام الخيضري في كتابه: (الافتراض دفع الاعتراض: (صـ 163 - 168)، بتحقيقي -تطبع لأول مرة ولله الحمد والمنة-)، عن هذا الكلام:
فقال: (فنقول: وبالله التوفيق إلى سلوك سواء الطريق إن كلام الطحاوي هَذا الذي استحسنتموه وأثنيتم عليه غير حسن وَلا مستحق للثناء فعليه فيه مؤاخذات ومناقشات سوف نذكرها ونبديَها متجنبين فيها الحمية ومطرحين رداء العصبية.
فقوله في أول كلامه: أن ابن تيمية أجاب عن حجة البخاري في حديث المائة سنة أنه يمكن أن يكون الخضر إذ ذاك ليس على وجه الأرض؛ ولأن الدجال قد ثبت أنه كان حيًا موجودًا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو باق إلى اليوم ولم يخرج وكان في جزيرة من جزائر البحر، فما كان الجواب عنه فهو جواب عن الخضر، وهو إما أن يكون لفظ الأرض لم يدخل فيها البحر، أو يكون أراد من الآدميين المعروفين، فأما من خرج عن العادة فلم يدخل في العموم كما لم يدخل الجن، وإن كان لفظ: (مِنْ)، يشمل الجن والإنس وتخصيص مثل هَذا النوع من مثل هَذا العموم كثير معتاد.
فنقول: هذا الذي نقله عن ابن تيمية ليس هو اعتقاده في مسألة الخضر، وَإنما نقله عن الطائفة القائلين بحياته، والمنقول عن ابن تيمية في تصانيفه ترجيح القول بوفاته، وقد تتبعت جواب ابن تيمية في هذه المسألة الذي نقل عنه الطحاوي هَذا الكلام فلم أزل حتى ظَفرت به فوجدته قد قال بعد حكاية هَذا القول وَاحتجاج القائلين به ما نصه: (وقالت طائفة هو ميت فإنَّ حياته ليس فيه دليل يصلح مثله للخروج عن العادَة المعروفة في بني آدم، وذلك بأن حياته ليس فيها خبر صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه، والحديث المذكور في مسند الشافعي مرسل ضعيف، والحديث الذي يروى في اجتماع الخضر وَإلياس كل عام بالموسم وَافتراقهما على تلك الكلمات؛ هو أضعف من ذلك الحديث، والكلمات كلمات حسنة؛ لكن الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم باجتماعهما كل عام وَافتراقهما على هؤلاء الكلمات خبر ضعيف، وَإذا لم يكن فيه خبر صحيح عمن علم أمته كل شيء، وقال أبو ذر: (لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وَمَا طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علمًا)([1])، -ونحو ذلك- مع أنه أخبرهم بقصته مع موسى وتفصيل مَا جرى له معه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وددت أن موسى صبر حتى يقصَ علينا من خبرهما)([2])، فلو كان حيًا كانت حياته أعجب من ذلك، فكيف لا يخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم؟ أم كيف يخبر به فلا يبلغه أصحابه؟ ولا كان هَذا معروفًا عندهم؟
وأيضًا فلو كان حيًا لكان يجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإنه قد اجتمع به ليلة المعراج من مات قبله، فكيف لا يجتمعُ به من هو حي في وقته؟
وَأيضًا كان يجب عليه الإيمان به والمجاهدة معه، كما قال تعالى: (وإذا أخذ الله ميثاق النبيين لما أتيتكم من كتاب وحكمة ثم جائكم رسول مصدق لما معكم ...)([3]) الآية
قال ابن عباس: (ما بعث الله نبيًا إلا أخذ عليه الميثاق لئين بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه).([4])
وَالخضر: إما نبي أو من أتباع الأنبياء، وعلى التقديرين فعليه أن يؤمن بمحمد وينصره، ومعلوم أن ذلك لو وقع لكان مما تتوفر الدواعي والهمم على نقله، فقد نقل الناس من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم من الأحبار والرهبان، فكيف لا ينقل إيمان الخضر وجهاده معه لو كان قد وقع؟
وقول من قال: (الخضر كان حيًا في حياته)، بمنزلة قول من يقول: (يوشع بن نون كان حيًا أو بعض أنبياء بني إسرائيل كإلياس)، وَهَذا باطل لمقدمتين:
إحداهما: لو كان حيًا لوجَبَ عليه أن يؤمن به ويهاجر إليه ويجاهد معه.
الثانية: أن ذلك لو وقع لتوفرت الدَّواعي والهمم لنقله.
وَإذا كان هَارون ونحوه تبعًا لموسى، وكان أنبياء بني إسرائيل تبعًا لموسى، فكيف لا يكون الخضر ونحوه إن قدر نبوته تبعًا لمحمد صَلى الله عليه وسلم الذي ما خلق الله خلقًا أكرم عليه منه، وَمَا تلقوه عن الله بواسطة محمد صلى الله عليه وسلم أفضل مما تلقوه بغير واسطة موسى.
وأيضًا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر بنزول المسيح ابن مريم آخر الزمان، وذكر أنه يحكم فينا كتاب الله وسنة رسوله، والمسيح أفضل من الخضر، فلو كان الخضر حيًا لكان يكون مع محمد ومع المسيح ابن مريم.
وقول بعض الناس: (إن الرجل الذي يقتله الدجَّال هو الخضر)([5])، لا أصل له، -ثم قال- وعدم اجتماعه بموسى إنما كان لأنَّ موسى لم يُبْعث إليه، كما في الحديث الصحيح: أن موسى لما سَلم عليه قال له: (وأنى بأرضك السلام)، فقال أنا موسى، قال موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، -وقال في أثنائه-: (يا موسى إني على علم علمنيه الله لا تعلمه وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه).([6])
وأما محمد صَلى الله عليه وسلم فدعوته عامة لجميع الخلق أسودهم وأحمرهم، فلا يمكن الخضر وغيره أن يعامل محمدًا صلى الله عليه وسلم ويخاطبه كما عامل موسى وخاطبه؛ بَل على كل من أدرك مبعثه أن يؤمن به ويجاهد معه، ولا يستغني بما عنده عما عنده، وكل من جوز لأحد ممن أدركته دعوة الرسول أن يكون مع محمد كما كان الخضر مع موسى؛ فهوَ ضالٌ ضلالًا مُبينًا؛ بل هو كافر يُستتاب فإن تابَ وَإلا قتل.
وَلهذا لم يكن في العلم بحياة الخضر بتقدير صحتها وَلا في وجوده حَيًّا منفعَة للمسلمين، ولا فائدة لهم في ذلك فإنه في المسند والنسائي عن جابر أن النبي صَلى الله عليه وسلم رأى بيد عمر بن الخطاب ورقة من التورَاة فقال: (أمتهوكون يا ابن الخطاب لقد جيئتكم بها بيضاء نقية لو كان موسى حيًّا لما وسعه إلا اتباعي).([7])
فإذا كان هَذا حَال الأمة مع موسى فكيف مع الخضر وَأمثاله، والمسيح إذا نزل إنما يحكم في الأمة بكتاب ربها وَسنة نبيها، فليست هذه الأمة محتاجة في شيء من دينها إلى غير كتاب الله وسنة رسوله لا إلى شيء آخر، ولا إلى غيْر نبيّ لا خضر ولا غيره، فإن الذي يجيئهم إن جاءهم بما علم في الكتاب والسنة لم يحتج إليه فيه، وإن جاءهم بخلاف ذلك كان مردودًا عليه.
وَلهذا كان أكثر من يتكلم في هذه الأشياء أهل الضلال والحيرة والتهوك الذين لم يستبينوا طرائق الهدى من كتاب الله وسُنة رسُوله؛ بل يتعلقون بالمجهولات ويرجعُون إلى الضلالات، ونجد كثيرًا منهم يعنون بالخضر الغوث -ثم أطال الكلام في تقرير ذلك-).([8])
فهذا هو المحفوظ عن ابن تيمية في حال الخضر وقد تكلم على ذلك في عدة مَوَاضع من تصانيفه وفتاويْه وقد وقفت له على فتاوى كثيرة سُئل عنها في هَذا المعنى، منها:
قوله في المسألة السادسة وَالستين بعد المائة مَا نصَّه: (ليسَ في دعوى المدعي اجتماعه بالخضر فائدة في دين المسلمين، سواء كان صَادقًا أو كاذبًا؛ بل اتفقوا المسلمون على أنه لا يرجع إلى الخضر ولا إلى من ينقل عن الخضر غير طريق النبي صلى الله عليه وسلم بشيء من دينهم؛ بل لو نقل ناقل عن نبي من الأنبياء، كموسى وعيسى من غير أن يكون نبينا صَلى الله عليه وسلم وَاسطة في ذلك النقل لم يرجع إليه المسلمون في دينهم، والحال في تقرير ذلك -ثم قال- وبعد هَذا فالخضر مَات قبل النبي صلى الله عليه وسلم ولم يدرك زمنه ولا رأه ولا ذكر أحد من الصحابَة أنه كان موجودًا، وكل من ادعى أنه حي، فإنه إن كان من أهل الصدق فهو ملبس عليه رآى رجلًا ظنَّ أنه الخضر غلطًا منه، أو قال له رجل أنه الخضر وكان كاذبًا، أو تخيَّل شيئًا في نفسه ظنه الخضر في الخارج، وإن كان كاذبًا كان من أهل الإفك والبهتان يستحق التعزير والمآل في تقرير ذلك).([9])
فانظر في كلام هَذا الإمام مَا أعظمه وأكبر تحقيقه وَأين هذا مما اقتصر الطحاوي على نسبته إليه؛ ولكن آفة الأخبار رُواتها وقول الطحاوي وله -يعني ابن تيمية- في بعض جوابه نظر، ألا يخلو من نظر.
قلت: وددت لو أبان لنا وجه النظر فيما استشكله من كلام ابن تيمية لكنا بينا له وجه الصواب فإنا لم نر في جَواب ابن تيمية هذا الذي نقلناه غير الحق الواضح.
([1]) ابن حبان: (65)، والبزار: (3897)، والطبراني: (1647).
([2]) البخاري: (3401)، ومسلم: (2380)، عن أبي بن كعب.
([3]) آل عمرن: 81
([4]) ينظر: الطبري: (3/ 330 – 331)، وتفسير ابن كثير: (2/728).
([5]) قال معمر: بلغني أنه الخضر الذي يقتله الدجال ثم يحييه. ينظر مصنف عبد الرزاق (20824).
وقال أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان راوِي صحيح مسلم: يقال إن هذا الرجل هو الخضر. ينظر صحيح مسلم (2938).
وليس في مثل هذا البلاغ حجة، ولا مستندَ لهذا القول، وقول ابن تيمية: (لا أصل له)، أي من كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
([6]) البخاري: (3401)، ومسلم: (2380)، عن أبي بن كعب.
([7]) أحمد: (15156)، وابن أبي شيبة: (6/ 228)، قال الحافظ ابن حجر في الفتح: (رجاله موثقون، إلا أن مجالدًا ضعيف)، وحسنه الألباني في الإرواء: (6/ 34).
([8]) جامع المسائل: (5/ 133- 137).
([9]) لم أقف على هذا الكلام في شيء من كتب ابن تيمية، وإنما وجدت: (وسئل - رحمه الله -: عن الخضر وإلياس: هل هما معمران؟ بينوا لنا رحمكم الله تعالى.
فأجاب: إنهما ليسا في الأحياء؛ ولا معمران؛ وقد سأل إبراهيم الحربي أحمد بن حنبل عن تعمير الخضر وإلياس وأنهما باقيان يريان ويروى عنهما فقال الإمام أحمد: (من أحال على غائب لم ينصف منه؛ وما ألقى هذا إلا شيطان).
وسئل البخاري عن الخضر وإلياس: هل هما في الأحياء؟ فقال: (كيف يكون هذا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يبقى على رأس مائة سنة ممن هو على وجه الأرض أحد).
وقال أبو الفرج ابن الجوزي: قوله تعالى: (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد)، وليس هما في الأحياء والله أعلم). ينظر مجموع الفتاوى: (4/ 337).