الدرس الثمانون- القياس
شروط حكم الأصل
أولا: يشترط في حكم الأصل ما يلي:
1- أن يكون ثابتا للأصل بغير قياس؛ إذْ لوثبت بالقياس على أصل آخر كان القياس الثاني لغوا للاستغناء عنه بالقياس على الأول رأسًا.
مثال: لا يقاس الوضوء على الغسل في وجوب النية، والنية في الغسل إنما وجبت بالقياس على الصلاة بجامع أن كلا منها قربة، بل يقاس وجوب النية في الوضوء على الصلاة رأسا.
فلا بد من ثبوت حكم الأصل إما بنص أو إجماع.
2- أن لا يكون متعبدا فيه بالقطع، أي أن لا يجري فيما يطلب فيه اليقين كالعقائد، فهي يطلب فيها القطع واليقين، والحال أن القياس الفقهي لا يفيد سوى الظن.
فما يتعبّد فيه بالعلم اليقيني لا يجوز إثباته بالقياس كإثبات حجيّة خبر الواحد بالقياس على قبول شهادة الشاهدين.
وهذا الشرط محل نظر لأن القياس قد يفيد اليقين إذا علم حكم الأصل وعلمت العلة وتحقق وجودها في الفرع وقد تقدم أن القياس قد يجري في العقليات وهي يطلب منها اليقين.
3- أن يكون مِن جنس حكم الفرع فيشترط كونه شرعيا إن كان المطلوب إثباته حكما شرعيا، وكونه عقليا إن كان المطلوب إثباته حكما عقليا، وكونه لغويا إن كان المطلوب إثباته حكما لغويا.
4- أن يكون جاريا على سنن القياس وطريقته بأن يكون مشتملا على معنى يوجب تعديته من الأصل إلى الفرع.
فإن لم يكن كذلك بأن خرج عن سنن القياس فلم يشتمل على المعنى المذكور فلا يقاس على محله وهو الأصل لخصوصيته في هذه الحالة.
مثاله: شهادة خزيمة بن ثابت رضي الله عنه، فلا يقاس عليه غيره وإن فاقه رتبة كالصدّيق رضي الله عنه لما روى أبو داود والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم: جعل شهادة خزيمة بشهادة رجلين.
5- أن لا يكون دليله شاملا لحكم الفرع؛ فإنه إذا كان دليل حكم الأصل شاملا للفرع لم يكن بحاجة إلى قياس للاستغناء عنه بالنص.
مثاله: لو استدل مستدل على ربوية البر بحديث مسلم: الطعام بالطعامِ مثلا بمثل. ثم قاس الذرة على البر بجامع الطعم، كان هذا القياس مستغنى عنه؛ لأن الطعام الوارد في النص شامل للذرة شموله للبر.
6- أن يكون متفقا عليه بين الخصمين، وهذا معلوم من قانون المناظرة فمتى أراد أن يحتج زيد على عمرو بالقياس فلا بد أن يكون عمرو يسلم بثبوت حكم الأصل.
( شرح النص )
الثاني: حُكمُ الأصلِ وشرطُهُ ثبوتُهُ بغيرِ قياسٍ ولو إجماعًا، وكونُهُ غيرَ مُتَعَبَّدٍ بهِ بالقطعِ في قولٍ، وكونُهُ من جنسِ حكمِ الفرعِ، وأنْ لا يَعْدِلَ عن سَنَنِ القياسِ، ولا يكونَ دليلُهُ شاملًا لحكمِ الفرعِ، وكونُهُ متفقًا عليهِ جزمًا بينَ الخصمينِ فقطْ في الأصحِّ.
......................... ......................... .........................
( الثاني ) من أركان القياس ( حُكمُ الأصلِ وشرطُهُ ثبوتُهُ بغيرِ قياسٍ ) إذ لو ثبت بقياس كان القياس الثاني لغوًا للاستغناء عنه بقياس الفرع فيه على الأصل في الأول كقياس التفاح على البرّ في الربوية بجامع الطعم، ثم قياس السفرجل على التفاح بجامع الطعم، وهو لغو للاستغناء عنه بقياس السفرجل على البر ( ولو إجماعًا ) فيثبت حكم الأصل به ولا يشترط النص من كتاب أو سنة، وقيل: شرط حكم الأصل ثبوته بالنص فلا يثبت بإجماع ( وكونُهُ غيرَ مُتَعَبَّدٍ بهِ بالقطعِ ) أي اليقين (في قولٍ ) مرجوح للإمام الغزالي؛ لأن الحكم الذي تعبد فيه باليقين إنما يقاسُ على محلِه ما يطلبُ فيه اليقين كالعقائد، والقياس لا يفيد اليقين، وردّ بأنه يفيده إذا علم حكم الأصل، وما هو العلة فيه، ووجودها في الفرع ( وكونُهُ من جنسِ حكمِ الفرعِ ) فيشترط كونه شرعيا إن كان المطلوب إثباته حكما شرعيا، وكونه عقليا إن كان المطلوب إثباته حكما عقليا، وكونه لغويا إن كان المطلوب إثباته حكما لغويا ( وأنْ لا يَعْدِلَ ) أي حكم الأصل ( عن سَنَنِ القياسِ ) فما عدل عن سننه أي خرج عن طريقه لا يقاس على محله لتعذر التعدية حينئذ كشهادة خزيمة بن ثابت وحده، فلا يقاس به غيره، وإن فاقه رتبة كالصديق رضي الله عنه ( و ) أن ( لا يكونَ دليلُهُ ) أي دليل حكم الأصل ( شاملًا لحكمِ الفرعِ ) للاستغناء به حينئذ عن القياس، مع أنه ليس جعل بعض الصور أصلا لبعضها أولى من العكس، كما لو استدل على ربوية البر بخبر مسلم: الطعام بالطعام مثلا بمثل. ثم قيس عليه الذرة بجامع الطعم فإن الطعام يشمل الذرة كالبر سواء ( وكونُهُ ) أي حكم الأصل ( متفقًا عليهِ جزمًا ) أي بلا خلاف وإلا احتيج عند منعه إلى إثباته فينتقل إلى مسألة أخرى غير المسألة التي عقد القياس لها، وينتشر الكلام ويطول ويفوت المقصود، وذلك ممنوع منه إلا أن يروم المستدل إثبات حكم الأصل فليس ممنوعا- وإن طال الكلام لأن الأثبات حينئذ مقصود له- كما يعلم مما سيأتي ( بينَ الخصمينِ فقطْ في الأصحِّ ) لأن البحث لا يعدوهما، وقيل: لا بد أن يكون متفقا على ثبوت حكم الأصل بين كل الأمة حتى لا يتأتى المنع أصلًا من أي أحد، وفيه بعد ظاهر. وهنا تنبيهان: الأول: أن القول بأن القياس التمثيلي- وهو القياس الفقهي- لا يفيد اليقين إطلاقا إنما تسرّب لبعض الأصوليين من المنطق الأرسطي ولا يساعده النظر. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ( .. فيقال: تفريقهم بين قياس الشمول وقياس التمثيل، بأن الأول قد يفيد اليقين والثاني لا يفيد إلا الظن، فرق باطل، بل حيث أفاد أحدهما اليقين، أفاد الآخر اليقين. وحيث لا يفيد أحدهما إلا الظن لا يفيد الآخر إلا الظن، فإن إفادة الدليل لليقين أو الظن ليس لكونه على صورة أحدهما دون الآخر، بل باعتبار تضمن أحدهما لما يفيد اليقين. فإن كان أحدهما اشتمل على أمر مستلزم للحكم يقينا، حصل به اليقين، وإن لم يشتمل إلا على ما يفيد الحكم ظنًا، لم يفد إلا الظن... ) الرد على المنطقيين ص 255.
الثاني: القياس التمثيلي وإن احتج به في العقليات وإن أفاد اليقين في بعض الموارد إلا أنه هو وأخوه القياس الشمولي المنطقي لا يصح استعماله في حق القدوس العظيم جلّ وعلا بل يستعمل في حقه سبحانه قياس الأولى بأن يقال كل كمال ثبت بالدليل لمخلوق فالخالق أولى به، وكل نقص تنزه عنه المخلوق فالخالق أولى بالتنزه عنه. قال شيخ الإسلام: (.. وأعظم المطالب العلم بالله تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله وأمره ونهيه،وهذا كله لا تنال خصائصه لا بقياس الشمول ولا بقياس التمثيل فإن الله تعالى لا مثل له فيقاس به ولا يدخل هو وغيره تحت قضية كلية تستوي أفرادها فلهذا كانت طريقة القرآن وهي طريقة السلف والأئمة أنهم لا يستعملون في الإلهيات قياس تمثيل وقياس شمول تستوي أفراده بل يستعملون من هذا وهذا قياس الأولى فإن الله له المثل الأعلى.. ) درء تعارض العقل والنقل ج7 ص 318.