تدبرات قرآنية قيروانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فانطلاقا من قوله تعالى:{كتاب أنزلناه مبارك ليدبروا آياته و ليتذكر أولو الألباب} [سورة ص، الآية: 29]
وقوله تعالى:{أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها}[سورة محمد، الآية: 24]
و قوله مخبرا عن رسوله محمد -صلى الله عليه و سلّم- أنّه قال :{وقال الرسول يا رب إنّ قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا}[سورة الفرقان، الآية: 30]
نجد أنّ الله يوبّخ و ينكر شديد الإنكار على كل من أعرض عن كتاب الله جملة أو وقع له لونٌ من ألوان هجرانه لا سيّما هجر تدبره و هو أعظمها لأنّ القرآن كما في الشاهد من الآية الأولى ماأنزل إلّا للتدبر و التذكر ، و هذا يحيلنا أحبابي في الله إلى المعنى الحقيقي لبركة القرآن التي وصفه الله بها فالبركة كل البركة في تدبره و فهم معانيه لذلك أقول لكم : إعلموا علم اليقين أنّكم لن تدركوا شيئا من بركة هذا القرآن العظيم من غير تدبر و لو شيء بسيط من آياته، و تفهّم معانيه، ما يورثك العمل قدر المستطاع وفق ما يقتضيه ، حينها فقط ستصيبك بركة القرآن و ستستشعرها حتما في حياتك و قبل مماتك فالقرآن منهاح حياة مبارك.
ومن هذا الباب ارتئيت أن أتدبّر ولو آية على الأقل كل ليلة من ليالي رمضان كما كان جبريل عليه السلام يدارس الرسول صلى الله عليه وسلم القرآن كل ليلة من هذا الشهر الكريم وها أنّ اليوم يوم عيد الفطر الموافق للأحد 01 شوال 1438 قد انتهيت من جمع ما تدبرت طيلة الشهر لأنشرها حتى يستفيد منها طلّاب علوم القرآن خاصة وطلّاب العلم الشرعي عامة سائلا الله أن ينفع بها كل من قرأها ويكتب لنا بها القبول عنده.
1 رمضان 1438
قوله تعالى: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين} (البقرة:124).
النبوّة منتهى الإمامة في الدين فلا يجعل الله لها الاّ العدول العادلين بخلاف الإمامة في الدنيا فإنها قد تؤول الى ظالمين بطريق الوراثة -كما بعد زمن الخلافة الراشدة- أو صناديق المجانين.
قمة العدل هي النبوّة لكن عدل الأبوّة لا يستلزم عدل البنوّة فكما عدل ابراهيم رغم ظلم أبيه قد تظلم ذريته رغم عدله وهو نبيّ الله النزيه.
الأنبياء لم يورثوا دينارا و لا درهما حتى يناله الظالمون من الأبناء انّما هو علم يرثه العدول العادلون من العلماء فيوّرثهم إمامة في الدين هم بها أغنياء.
الأنبياء لا يظلم عندهم أحد أمّا الأمراء فقد يظلمون ما لا يحصى و لا يعد.
الإمامة عهد الله العدل لا ينالها الّا من كان عدلا عادلا ، فلا ينبغي أن تورّث لأنّ الوراثة قد توقعها في يد ظالم.
2 رمضان 1438
قوله تعالى: {وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنَى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم} (البقرة 247).
الملك دائما محل تنازع ولو عيّنه الله لا سيّما من غير أهله بل يرون لأنفسهم الأحقيّة المطلقة فالسفهاء دائما لا يرتضون الأكفّاء.
على قدر عظم المنصب يكون التنازع عليه.
حقيقة الناس أنّهم لا يرون الملك عليهم الّا للأغنياء وان كانوا غير أكفّاء وهذه هي عين الماديّة المقيتة.
مركز القيادة لا يناط الّا بيد من اجتمعت فيه قوتان : قوة معنوية علميّة تردعه وقوّة مادية بدنيّة تمكنه فالأولى من دونها يكون زعيما للمفسدين والثانية من دونها يكون أعجز العاجزين.
لا مجال للارتجال فلابدّ في كل أمر للنّاس من أمير يحكم التدبير ويحسن التأطير.
3 رمضان 1438
قوله تعالى: { وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} (البقرة 260).
البحث في تفاصيل الربوبية يحقق الطمأنينة القلبية.
رغم تحقيق أصل الايمان بالغيب يبقى الاستشكال العالق بأذهان البشريّة : هو الكيفيّة .
فالعقيدة الصحيحة أن نؤمن بلا تكييف إلّا أن نخبر.
ليست كل مسائل العقيدة (الربوبية) مسائل إيمان أو كفر.
الرد على السؤال بسؤال يفيد مزيد الاستفصال و ينفي بعيد الاحتمال.
لا عيب في السؤال عن غيب لمن ترجى إجابته فما كان مجهولا عند السائل -ابراهيم عليه السلام- قد يكون معلوما عند المسؤول -الله علّام الغيوب-.
لكل سؤال جواب ما التزم صاحبه الآداب وان كان ظاهره عجاب.
شتان بين السؤال الفاضل و فضول السؤال فسؤال ابراهيم عليه السلام ربه من قبيل الأوّل.
لطيفة لغويّة : الاجابة الصحيحة على السؤال المنفي تكون دائما بحرف [بلى] و لو قال ابراهيم -عليه السلام-و حشاه أن يقولها و هو نبي الله : [نَعَم] ، لكان تأويل ذلك: [نعم لم أؤمن] ، ولكان ذلك كفراً.
4 رمضان 1438
قوله تعالى: {إنّ في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار} آل عمران (191).
إدراك عظم هذه الثلاث السماوات الأرض واختلاف الليل والنهّار يكون بإعمال العقل أكثر من النقل.
بالتدبر في الآيات الشرعيّة والتفكر في الآيات الكونيّة تدرك معاني الربوبيّة والتي من مقتضياتها توحيد الالوهيّة علما وأنّه لا تلازم بينهما فكم من موحد في الربوبية!!! يكون مشركا في الالوهيّة.
قد يدرك الناس توحيد الربوبيّة بالعقل لكن ادراك توحيد الالوهيّة يكون بالنقل.
تستعرض هذه الآية دليلين من الأدلة العقلية على وجود الله :
-أولا: دليل الخلق والإيجاد.
-ثانيا: دليل الإحكام والإتقان.
قد تعجز عن القيام فتقعد و قد تعجز عن القعود فتتكئ على جنبك لكن لا تعجز عن ذكر الله ولو بإعمال عقلك من غير تحريك لسانك.
مداومة الذكر علامة على سلامة الفكر و التفكر أعظم أنواع الذكر.
إن كنت ذا لبّ فذلك يحملك على التنزيه " سبحانك" بخلاف السفيه.
من آداب الدعاء أن تجمل في الطلب لذلك من أراد الآخرة دعا ربه بالوقاية من عذاب النار فلا منزلة بين المنزلتين بخلاف من يطلب دخول الجنّة قد يناله شيء من عذاب النار قبل ذلك.
5 رمضان 1438
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} (النساء 59).
طاعة الله بالتحاكم لكتابه و أمر الرسول في سنته القولية والفعلية والإقرارية.
طاعة رسول الله عين طاعة الله وطاعة الله عين طاعة رسول الله.
السنّة الصحيحة تستقل بالتشريع فالنبيّ صلى الله عليه وسلم معصوم.
( أطيعوا الله ) أي : اتبعوا كتابه ( وأطيعوا الرسول ) أي : خذوا بسنته.
أولي الأمر لا يطاعون استقلالاً بل يطاعون تبعاً ما اطاعوا الله و رسوله فينا فإنما الطاعة في المعروف و لا تشق يد من طاعتهم الّا بكفر بواح عندما من الله فيه برهان و بهذا نتبين أن أهل السنة و الجماعة و سط بين حرورية خوارج و مداخلة مرجئة .
ينبغي ان ترد نزاعات المسلمين الى القرآن و السنة و من لم يتحاكم إليهما في ذلك ، فليس مؤمنا بالله ولا باليوم الآخر .
أولوا الأمر فهم - كائنين من كانوا - فالظاهر - والله أعلم - أنها عامَّة في كل أولي الأمر من الأمراء والعلماء.
ليس لأُولي الأمر الاستقلال و لوكان لهم ذلك لأدى إلى الاستبداد و أصبح لا معنى لإيجاب الردّ إلى الله والرسول.
6 رمضان 1438
قوله تعالى: {يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلّبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب} (المائدة 4).
واجب المسلم أن يسأل أهل العلم عن الحلال والحرام من الأطعمة وعن وسائل كسبها.
الطيبات كل ما طاب ولذّ ونفع من النباتات والحيوانات بحريّة كانت أو بريّة وضدّها الخبائث المحرّمة.
من تمام نعمة الله على الأنسان أن سخّر له ما في السماوات و الأرض جمادات و نباتات و حيوانات فاللهم لك الحمد و الشكر.
الجوارح كل ما صاد بمخالب أو أنياب و سميّت بذلك لمظنة و غلبة جرحها الصيد.
الحيوان المعلّم يأكل صيده بخلاف غيره و هذا دليل على فضل العلم و شرفه فكما يرفع الله به قدر الانسان يرفع به قدر الحيوان.
قد يكسبك الله علما من العلوم الخاصة المتعديّة بالنفع الى بني الانسان فلا تستنكف عن بثها لأجل أن المبثوث اليه ابتداءا هو حيوان.
ما أمسكت الجوارح لأجلنا جاز أكله بخلاف ما اصطادته لأجل نفسها من غير ارسال أو تسمية.
من لازم إباحة صيد الجوارح و تعليمها جواز بيعها واقتنائها.
من معاني تقوى الله أن يميز المسلم الطيّبات من الخبائث فيأكلها حلالا طيّبا لا شبهة فيه.
7 رمضان 1438
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين } (المائدة 102).
النهي في الآية خاص بزمن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو وقت نزول الوحي الذي يمكن أن تتجدد الأحكام فيه أو تتغير, دون ما بعده من الأزمنة ، فلا يكون هذا مانعا من طلب العلم الشرعي ، وتعلم الإنسان ما ينفعه ، أو يحتاج إليه في أمر معاشه ومعاده .
هذه الآية تحيلنا عن كثير من الأشياء ينهى السؤال عنها لما يترتب عليها من تشديد يفضي الى الحرج :
1-الأشياء التي لا يترتب عليها عمل وهي مما لا ينفع في أمر الدين كمسائل الفقه الافتراضيّة بعيدة الوقوع .
2-الأشياء التي سكت الشارع عن ذكرها ، رحمة بالناس ، غير نسيان ؛ فربما أدى السؤال عنها و الاستفتاء إلى تحريمها ،و الاشقاق على الناس بها.
3-الأشياء الأسرار التي لو اطلع عليها لم يستطيع كتمانها لا سيّما إذا وقعت له اكراهات و هب لو استطاع كتمانها فستكون عليه عبئا على عبء لا نفع فيها تنغص عليه حياته.
4-الأشياء التي إذا بينت لهم ساءتهم وأحزنتهم ، وذلك كسؤال بعض المسلمين لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن آبائهم ، وعن حالهم في الجنة أو النار، فهذا ربما أنه لو بين للسائل لم يكن له فيه خير ،أمّا الأشياء التي يترتب عليها بيان حكم شرعي وجب السؤال عنها قال تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) " بل ربما عدم السؤال عنها قد يوقعك في الكفر.
للسؤال دافعان بحسبهما يكون سؤالك مذموما أو محمودا وهما :
1-الدافع المذموم: حبّ الاطلّاع لأجل الفضول (انقياد لهوى النفس).
2-الدافع المحمود: حب العلم لأجل العمل (انقياد لشرع الله).
8 رمضان 1438
قوله تعالى: { سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون } (الأنعام148).
مشيئة الله مشيئتان : مشيئة كونية و مشيئة شرعية وأكبر خطر أن يتحجج التارك لدينه بالقدر.
العقيدة الصحيحة لايهتدى لها الّا بعلم صحيح فالعقل لا يهتدي للصواب من دون وحي .
شتّان بين فقه الدين و فقه التبرير بالدين.
اقتضت حكمة الله أن يكوّن الكون على ثنائيات من ذلك في باب العقائد عقائد صحيحة و في المقابل عقائد خاطئة .
تحرّى الصدق ولا تقتدي بكذّاب على الله و رسوله أو مكذّب لله و رسوله.
عليك بالعلم فهو مظنة اليقين و لا تتبع الظنّ فهو ظنين.
التخرّص هو التقوّل على الله بالباطل من غير علم.
9 رمضان 1438
قوله تعالى: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} (الأعراف 199).
العفو اسم جامع لكثير من مكارم الأخلاق فمن معانيه الصفح عمن ظلمك و اعطاء من حرمك و صلة من قطعك.
العرف اسم جامع لكل ما عرف الناس من خير و تعارف عليه سواءا بالنقل الصحيح أو العقل الصريح و الفطرة السليمة فلا تعارض بينهما البتّة.
ثلاث أصول كلية للآداب الشرعية والقواعد الدعويّة والأحكام العملية :
الأصل الأول : أخذ العفو أي لابدّ من التحلي بمكارم الأخلاق لا سيّما في المعاملات مع الغير.
الأصل الثاني : الأمر بالعرف وهو الدعوة لكل ما فيه خير .
الأصل الثالث : الإعراض عن الجاهلين ، أي الإعراض عمن أعرض عن العلم فهم سفهاء لا عقولا يعملون ،لا عفوا بعفو يقابلون و لا عرفا يعرفون .
من الاعجاز ( أي البلاغي) الايجاز فما جمعته هذه الكلمات القليلة من المعاني الكثيرة هو من إعجاز إيجاز القرآن.
10 رمضان 1438
قوله تعالى: {لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون} (التوبة 48).
المنافقون صنّاع الفتن في كل زمان ديدنهم تخذيل أهل الايمان.
أعظم الفتن فتنة قلب الحقائق لا سيّما الشرعيّة منها وللاعلام في عصرنا دور بارز في ذلك.
سيظهر الله دينه مهما أراد الأعداء فتنة أهله وصدهم عنه.
مهما تخفى المنافق وكره ظهور الحق سيفضحه الله يوما ويكشف باطله.
من كان على الباطل حتما يكره ظهور الحق لذلك تجده يحاربه بكل ما أوتي من قوّة ليؤخر ظهوره.
11 رمضان 1438
قوله تعالى: {ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون} (يونس 11).
طبيعة الانسان أنّه يستعجل أمور الخير من منافع و مصالح و أرباح...
العجلة في الخير ممدوحة و العجلة في الشر مذمومة لذلك قيل خير البر عاجله.
من رحمة الله بالناس أنّه لم يقابل الاستعجال باستعجال بل جعل الامهال في الآجال (الموت) و الاستئصال (العذاب).
استعجال الشر ينافي الحرص على الخير فلابدّ من الصبر.
قد لا يستجيب الله للدعاء رحمة منه و لحكمة بالغة.
الامهال ليس بإهمال فلا تلهينكم الآمال.
الامهال في الشر عنوان رحمة و الاستعجال في الشر عنوان نقمة.
12 رمضان 1438
قوله تعالى: {وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون} (هود 117).
فائدة لغويّة : قال ما كان ربك ليهلك و لم يقل لا يهلك ربك ، ف "ما كان ليفعل" أشد صيغ اللغة العربية تأكيداً، فعلماء اللغة فرقوا بين نفي الحدث، ونفي الشأن وهذه الآية من قبيل نفي الشأن أي ليس من شأن ربك، ولا من مقامه، ولم تجرِ سنته به بل لا يريده، ولا يفعله، ولا يتمناه، ولا يرضى به...فبهذه الصيغة يمكن أن تنفي أحداثا، تنفي الرضى والتمني والرغبة والقبول والإقرار، "ما كان لي أن أفعل".
قاعدة عامة : كلُّ آية مُصدَّرة ب "ما كان من شأنه" ، تنبئ عن سنة كونيّة ثابتة.
إصلاح الناس فيما بينهم مانع من إهلاكهم، وتسليط الأعداء عليهم، وإن كانوا مشركين بالله تعالى، وفيها دليل على أنَّ الإيمان بالله من غير إصلاح الأعمال، وعدل العمال، لا يمنع الإهلاك.
فرق بين المصلح والصالح ، فالأول نفعه متعدي و الثاني نفعه لازم فلا عبرة بكثرة الصالحين من دون إصلاح.
الإصلاح ضد الإفساد و هو أن تأمر بالصلاح ( العدل و مكارم الاخلاق و حسن المعاملة ...) و تنهى عن الفساد و ذلك سبيل تحقيق الأمن الدنيوي.
لم يكن الله ليهلك أهل القرى بالكفر وحده حتى ينضاف إليه الفساد، كما أهلك قوم شعيب ببخس المكيال والميزان، وقوم لوط باللواط...، ودل هذا على أن المعاصي أقرب إلى عذاب الاستئصال في الدنيا من الشرك، وإن كان عذاب الشرك في الآخرة أصعب.
13 رمضان 1438
قوله تعالى: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين} (يوسف 108).
الدعوة الى التوحيد واخلاص العبادة سبيل الأنبياء ويتبعهم فيها العلماء.
من لوازم الدعوة الى التوحيد واخلاص العبادة البراءة من الشرك وأهله.
دعوة محمد -صلى الله عليه وسلم- دعوة حق أسس لها نور الوحي.
ان أردت أن تثمر دعوتك ويفتح لك فيها فالتزم منهح محمد -صلى الله عليه وسلم- فكل سبيل غير سبيله هو مسدود.
أن تكون داعيا الى الله هذا شرف ما بعده شرف فيكفيك من ذلك أنّك تدعو الى الله وتتخذ سبيل الأنبياء والمرسلين.
من صدق الداعية امتثاله للحق وتطبيقه في نفسه قبل دعوة الغير اليه.
14 رمضان 1438
قوله تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين} (النحل 125).
مراتب الدعوة ثلاثة بحسب حال المدعو فلا تجاوزها يا رعاك الله الى أضدادها :
-المرتبة الأولى : بالحكمة (لا الرعونة).
-المرتبة الثانية : الموعظة الحسنة (لا الفظاظة والغلظة).
-المرتبة الثالثة : المجادلة بالتي أحسن (لا السب والشتم واللعن).
القصد من الدعوة هداية الخلق إلى الحق لا المغالبة ونحوها.
كل ما على الداعية أن يحسن عرض دعوته ويأخذ بأسباب قبولها أمّا النتيجة فلله وحده.
الدعوة فن لها فرسانها ممن أتقنوا طرقها النافعة ووسائلها المجدية الناجعة.
15 رمضان 1438
قوله تعالى: {وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا} (الكهف 19-20).
من حكمة المحاور تلقي السائل بغير ما يتطلب تنبيها على أن غيره أولى بحاله.
من فقه الضعيف أن يكون بالأقوياء لطيف.
الحركات الرعناء من بعض الفتية السفهاء تهوّش على جميعنا الأعداء فاللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء ونعوذ بك من سيئ الأدواء ومن سيئ الأهواء، إنك يا ربنا سميع الدعاء.
الغالب دوما هو من يجري أحكامه على المغلوب فاحرص على الغلبة بإعداد العدّة لها.
أعظم الفتن أن يفتن المرء في دينه لأنّه لن يفلح بعدها أبدا.
16 رمضان 1438
قوله تعالى: {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا} (مريم 59).
صلاح الاباء لا يلزم منه صلاح الأبناء والعكس أيضا صحيح.
من علامات صلاح الذريّة محافظتهم على الصلاة .
إضاعة الصلاة وإتباع الشهوات بينهما ترابط عكسي.
من إعجاز القرآن أنّ التسويف "سوف" لا تفيد في حق الله الإعلام بمستقبل غيبي إنّما هي واقع لا محال حقيقي.
قديما لم يكن تصوّر الفقهاء عند مباحثتهم لهذه الآية (مسألة ترك الصلاة) تركها بالكليّة إنّما إضاعة مواقيتها .
17 رمضان 1438
قوله تعالى: {وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير} (الحج 78).
" حق جهاده " أي جهاد حق لا يشوبه باطل مخلصين فيه لله متبعين فيه لرسول الله -صلى الله عليه و سلم-.
جاء الإسلام رافعا للحرج دافعا للهرج.
ملة إبراهيم عليه السلام هي الإسلام.
من خصائص هذه الأمة أن أورثها الله تبليغ دعوة الإسلام للنّاس بعد نبيّها.
شهادة الرسول علينا بتبليغنا الرسالة و شهادتنا على الناس بما نبلّغ عنه و لو بمقالة.
من أسباب النصر و التمكين : إقامة الصلاة و إيتاء الزكاة و اعتصام بالله.
18 رمضان 1438
قوله تعالى: {وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون} (النور 48-49-50).
من صدق إيمان العبد أن يحتكم إلى القرآن و السنّة في جميع أحواله و لو لم يكن الحق له.
من كمال الإيمان كمال الإذعان (سرعة الانقياد للحق).
مرضى القلوب و المرتبون و مسيؤو الظنون هم أكثر الفئات اعتراضا عن تحكيم شرع الله.
المؤمن الحق هو المنقاد لأحكام الشرع بمجرد أن تبلغه.
الظالم من لم يحتكم لشرع الله و ضدّه المفلح المحتكم له في جميع أحواله.
جنس الأعمال من لوازم إيمان القلب أي أن إيمان القلب يستلزم العمل الظاهر بحسبه.
19 رمضان 1438
قوله تعالى: {قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون} (النمل 34).
منذ القديم صنيع الملوك استعباد الأحرار وإذلالهم كي لا ينازعوهم الملك.
من وسائل هيمنة الطغاة على الشعوب إشاعة الفاحشة ونشر الفساد.
الملك المفسد يرى إفساده إصلاحا وحفاظا على ملكه.
قد يزهق الملوك أرواح شعوب بأسرها لأجل أن تخلى لهم العروش.
20 رمضان 1438
قوله تعالى: {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون} (العنكبوت 2).
الابتلاء محك الإيمان وينزل على قدره فالحكمة منه التمحيص.
المؤمن الصادق من يثبت في زمن الفتن.
الابتلاء ليس باستجلاب للبلاء إنّما هو سنّة كونيّة تنتج عن طاعة شرعيّة فيصح حينها أن يكون مقياسا للسلامة المنهجيّة.
الفتن صنفان فتن شبهات سبيل النجاة منها العلم وفتن شهوات سبيل النجاة منها الصبر.
الثبات لا يكون إلّا بعلم وصبر يصحبهما استعانة بالله في جميع الأمر.
21 رمضان 1438
قوله تعالى: {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون} (السجدة 24).
العلماء الربانيون الصابرون الموقنون أحق الناس بعد الأنبياء أن يكونوا أئمة يهدون ولهم أتباع بهم يهتدون.
بالصبر واليقين، تُنَالُ الإمامة في الدين.
درجة اليقين أعلى درجات العلم بآيات الله.
الصبر على مراتب صبر على التعلم، صبر على التعليم، وصبر في الدعوة إلى اللّه وهذا الأخير أعلى المراتب الثلاث وأجلّها لما يصيب المرء فيه من اذى في سبيله.
قرأ الجمهور {لَمَّا صَبَروا} بتشديد الميم وهي حرف وجود لوجود وتسمى " التوقيتية ".
22 رمضان 1438
قوله تعالى: {إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا} (السجدة 72).
لا يؤدي حق أمانة ما إلاّ من كان عادلا عالما بحقوقها.
النفس البشريّة مطبوعة على الجهل والظلم إلّا أن يردعها وازع الدين.
قد يأبى القوي العدل الأمين ويشفق من تحمّل بعض المسؤوليات لا لشيء إلّا خوفا من عواقب عدم استيفاءها.
تدافع المسؤوليات بين الكفاءات دليل على مدى خطورة تحمّل الأمانات فاحذر أن توسد لك وأنت غير أهل لها .
23 رمضان 1438
قوله تعالى: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب} (ص 29).
صحيح أنّ القرآن أنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- لكنه ذكرى لكلّ ذي عقل من العالمين.
لن تدرك بركة القرآن حتى تتدبر فيه فتنتفع بمعانيه.
التذكر من آثار التدبر والاعتبار لا يكون إلّا لأصحاب العقول الكبار.
فائدة بلاغيّة: {كِتاب} التنكير هنا للتعظيم.
24 رمضان 1438
قوله تعالى: {وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد} (26 غافر).
{ذروني} إذا عزم أمثال "فرعون" من الحكّام فلا يثنيهم عن عزمهم العوام لكن مثل هذا الإعلام من باب تهيئة (أو توجيه او تأليب...) الرأي العام
إذا ما أنكر المخلصون من الدعاة على الحكّام الطغاة هددوهم بالقتل وكأنّ بأيديهم الموت والحياة.
أعظم الفساد تجده يروّج تحت غطاء الإصلاح والإرشاد.
حملة الرسالة هم أكثر الخلق تعرّضا للأذى وحملات التشويه .
25 رمضان 1438
قوله تعالى: {ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير} (27 الشورى).
الغنى والفقر مقادير فحكمة الله اقتضت وجود غني وفقير لعلمه مصالح العباد قبل التقدير {إنه بعباده خبير بصير}.
سعة المال تحمل أصاحبها على البغي أكثر بخلاف الفقر يحمل أصحابه على الصبر.
من كان غنيّا فعليه بالاستعفاف وعدم الإسراف ومن كان فقيرا فعليه بالكفاف.
26 رمضان 1438
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} (الحجرات6).
الأصل في المؤمن التثبت والتبيّن.
مجهول الحال لا يقبل خبره حتى تحتف به القرائن فيثبت صدقه.
الإعلام أكثر الأسلحة فتكا في هذا الزمان خاصة بما ينشره من أنباء فاسقة.
مدار قبول الخبر على العدالة لا على الأحاد والتواتر فخبر الواحد من العدول مقبول.
إن حكم الحاكم قبل التثبت فقد أصاب المحكوم عليه بجهالة.
الإصابة بغير بيّنة وأخذ القوم بشبهة يفضي الندم المحقق.
27 رمضان 1438
قوله تعالى: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا. كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون} (الحديد 16).
خشوع القلوب عند قراءة أو سماع القرآن دليل إيمان.
طول الأمد مظنة غفلة العبد وهو أقوى سبب في قسوة القلب.
.الخشوع الحقيقي خشوع الجوارح الكليّ بمجرد وقوع الخشوع القلبي
الهمزة في {ألم يأن} للاستفهام وهو استفهام مستعمل في الإنكار، أي إنكار نفي اقتراب وقت فاعل الفعل.
28 رمضان 1438
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا قووا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ما يؤمرون} (التحريم 6).
{يا أيها الذين آمنوا} فيها تذكير أي يا من قد من الله عليهم بالإيمان، قوموا بلوازمه وشروطه.
وقاية في الدنيا خير من نار في الأخرة.
وقاية النفس تكون بالانقياد العملي أمّا وقاية الأهل ممن هم تحت ولايته من الزوجات والأولاد وغيرهم تكون بالنصح القولي.
لا يمدح غليظ وشديد إلّا في الحق .
الممدوح حقا عند الله هو الذي لا يعصي الله ما أمر ويفعل ما يؤمر.
29 رمضان 1438

.قوله تعالى: {قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين} (الملك 30).
إذا غار الماء أي ذهب في الأرض إلى أسفل، فلا ينال بالفؤوس الحداد، ولا السواعد الشداد
فمن يأتيكم بماء عذب المذاق سهل الإيراد: : ستفهام بمعنى النفي.
الماء المعين هو الظاهر على وجه الأرض يرى بالعين.
انحباس الأمطار يتبعه غور مياه العيون والاودية والآبار فاستسقوا الله الواحد القهّار.
30 رمضان 1438
قوله تعالى: {قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى} (الأعلى 15).
مقومات الفلاح أربع: تزكية النفس وإيتاء زكاة المال وإدامة الذكر و إقامة الصلاة.
الفرق بين النجاح و الفلاح أنّ النجاح يكون في الدنيا أمّا الفلاح ففي الدنيا والآخرة.
لا يحافظ على صلاته حق المحافظة إلّا من طهّر نفسه بالتزكية و ماله بالزكاة و لسانه بالذكر.
قال ابن جرير: حدثني عمرو بن عبد الحميد الآملي حدثنا مروان بن معاوية، عن أبي خلدة قال: دخلت على أبي العالية فقال لي: إذا غدوت غدا إلى العيد فمر بي. قال: فمررت به فقال: هل طعمت شيئا؟ قلت: نعم. قال: أفضت على نفسك من الماء؟ قلت: نعم. قال: فأخبرني ما فعلت بزكاتك؟ قلت: وكأنك قلت: قد وجهتها؟ قال: إنما أردتك لهذا.
ثم قرأ: (قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى) وقال: إن أهل المدينة لا يرون صدقة أفضل منها ومن سقاية الماء .
قال ابن كثير: وكذلك روينا عن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز أنه كان يأمر الناس بإخراج صدقة الفطر، ويتلو هذه الآية (قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى).


تمت بحمد الله و توفيقه ،كتبها/ ابن أبي القاسم القيرواني والله أعلم.