ليلة النصف من شعبان قنطرة رمضان
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه . أما بعد :
فإن ليلة النصف من شعبان ليلة مباركة ، وفيها فضيلة ظاهرة فقد خصها الله – تعالى – من بين سائر ليالي العام أن تكون مغفرته فيها عامة لكل العباد إلا المشرك والمشاحن .
فقد ثبت عن أبي موسى – رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم – أنه قال : " إن الله - تعالى - ليطلع في ليلة النصف من شعبان ، فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن " (صحيح الجامع، رقم : 1819) .
فالمشرك لا يغفر الله له بسبب شركه وكفره ، والمشاحن لا يغفر له بسبب حقده وغله . يوضحه حديث أبي ثعلبة الخشني – رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم – أنه قال: " إذا كان ليلة النصف من شعبان اطلع الله إلى خلقه ، فيغفر للمؤمنين ويملي للكافرين ويدع أهل الحقد بحقدهم حتى يدعوه " ( صحيح الجامع، رقم : 771) .
ومع هذه الفضيلة الباهرة إلا أنه لا يشرع في ليلة النصف من شعبان أي عمل خاص أو عبادة معينة بل هي كسائر الليالي من جهة التعبد والتقرب إلى الله – تعالى - .
ومن المناسبات التي تظهر بسببها هذه الفضيلة لليلة النصف من شعبان أنها تعتبر قنطرة بين يدي شهر رمضان المبارك للدخول فيه والنهل من بركاته بنفوس نقية ، وقلوب سليمة ؛ لذلك فلا يجتازها إلا طاهر الإيمان ، ونقي القلب .
وهي كالقنطرة التي تكون بين يدي الجنة في الآخرة ، لا يجتازها المشرك ؛ لأنه محرم عليه دخول الجنة ، كما قال – تعالى - : {إنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة: 72] .
ولا يجتازها المتشاحنون حتى تهذب قلوبهم ، كما قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " يَخْلُصُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ النَّارِ فَيُحْبَسُونَ عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَيُقَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مَظَالِمُ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَأَحَدُهُمْ أَهْدَى بِمَنْزِلِهِ فِي الْجَنَّةِ مِنْهُ بِمَنْزِلِهِ كَانَ فِي الدُّنْيَا " ( رواه البخاري ) .
والمناسبة بين قنطرة الجنة ، وبين قنطرة شهر رمضان – ليلة النصف من شعبان - أن شهر رمضان تفتح فيه أبواب الجنة وتغلق فيه أبواب النار ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ ، فُتِحَتْ أبْوَاب الجَنَّةِ ، وَغُلِّقَتْ أبْوَابُ النَّارِ ، وَصفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ " ( متفقٌ عَلَيْهِ ) .
ولما كان رمضان تفتح فيه أبواب الجنة كانت ليلة النصف من شعبان قنطرة بين يديه ، كالقنطرة التي تكون بين يدي الجنة . فلذلك لا يغفر فيها للمشرك لأنه محرم عليه دخول الجنة ، ولأنه ليس محلاً للمغفرة ، كما قال - تعالى - : {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].
ولا يغفر للمشاحن لأنه لا يدخل الجنة أحد في قلبه غل على أحد حتى تهذب نفوسهم وتطهر قلوبهم في القنطرة بين يدي الجنة في الآخرة ، كما قال – تعالى - {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47] .
ففي الحديثين إشارة إلى وجوب نبذ الشرك ، ونبذ التقاطع والتهاجر بين المؤمنين ، وأن عليهم أن يهيئوا قلوبهم بالإيمان الخالي من الشرك ، ويهذبوا نفوسهم من الغل والحقد والضغائن ، وعلى العبد أن يسعى جاهدا في إزالة كل أسباب العداوة والبغضاء بينه وبين إخوانه حتى يدخل في رمضان وقد تخلص من تبعات أعماله بمغفرتها في قنطرة ليلة النصف من شعبان .
وقد أكد النبي – صلى الله عليه وسلم – على هذا المعنى بأن الجنة لا تدخل إلا بعد الإيمان الخالي من الشرك ، والمودة والمحبة الخالية من الأحقاد والضغائن ، كما قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - : " والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لا تَدْخُلُوا الجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا ، وَلا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا ، أوَلاَ أدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ ؟ أفْشُوا السَّلامَ بينكم " (رواه مسلم) .
فلا يدخل عبد الجنة حتى يؤمن ولا يؤمن حتى يكون بينه وبين إخوانه المحبة والمودة ، وذلك من خلال إفشاء السلام وعدم التقاطع والتهاجر ، فإذا فعلوا ذلك تسللت المحبة في قلوبهم وكمل فيها الإيمان فاستحقوا المغفرة ودخول الجنان .
فعلينا أن نستغل قنطرة ليلة النصف من شعبان بأن لا تمر علينا إلا وقد أزلنا كل الخلافات بيننا وبين إخواننا فندخل ضمن أهل المغفرة من أهل الإيمان والمودة .
فكن عبد الله السباق إلى هذه الفضيلة وأبدأ كل من خاصمك بالسلام ، فعن أَبي أيوبَ - رضي الله عنه - : أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ : يَلْتَقِيَانِ ، فَيُعْرِضُ هَذَا ، وَيُعْرِضُ هَذَا ، وخَيْرُهُما الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ " ( متفق عَلَيْهِ) .
ونظراً لأن كثيراً من الناس قد لا يكون عنده وازعاً إيمانياً يحمله على المبادرة بالسلام ، وترك الخصام والنزاع ؛ فإن الله – تعالى – قد رغب بإصلاح ذات البين ، وأمر بها ، ورتب الأجور العظيمة على ذلك ، كما في قوله – تعالى - :{ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا }[النساء : 114] . وقال – تعالى - :{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }[الحجرات : 10] . وقال – تعالى - : {فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ}[الأنفال : 1] .
فعلينا أن نسعى جاهدين في إزالة كل بغضاء أو شحناء وقعت بين اثنين من المسلمين : من الأقارب أو الجيران أو الأصدقاء أو الزملاء ، ونحوهم .
وقد بشر النبي – صلى الله عليه وسلم – في أحاديث كثيرة في بيان فضيلة الإصلاح بين الناس ، فمنها قوله – عليه الصلاة والسلام – :" أفضل الصدقة إصلاح ذات البين " ( الصحيحة : 2639) .
فدل هذا الحديث على أن أفضل أنواع الصدقات أن تصلح ذات البين بين الأب وابنه ، أو بين الأخ وأخيه ، أو بين الجار وجاره ، أو بين أي مختصمين من المسلمين .
وقال النبي – صلى الله عليه وسلم – في حديث آخر - : " ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة قالوا بلى قال صلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة " ( صحيح الترغيب والترهيب : 2814) .
فتأموا عباد الله كيف أن إصلاح ذات البين يقدم على نوافل الصلاة والصيام والصدقة ، فإذا تزاحم عندك ذلك مع إصلاح ذات البين فقدم الإصلاح ؛ لأنه أعظم أجرا عند الله – تعالى - .
والمقصود أن الموفق من يغتنم فرصة ليلة النصف من شعبان ، وأن يعرف أنها قنطرة بين يدي رمضان تهيئ العبد للدخول فيه لاغتنام أجوره على أكمل الوجوه .
وأن المحرومين فضل هذه الليلة هم كل مشرك عبد غير الله ، وكل من امتلأ قلبه حقداً وضغينة على أحد من إخوانه المسلمين بسبب حظوظ النفس وشهواتها ، فوجب علينا أن نحقق الإيمان ، ونطهر قلوبنا من الغل والشنآن ، وأن نشيع السلام بين المؤمنين ، فإذا فعلنا ذلك تهيئت نفوسنا للدخول في شهر رمضان ، كما تتهيأ نفوس المؤمنين في الآخرة عند القنطرة حتى يدخلوا جنات النعيم .
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل
ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل .