الفصل الثاني : المرسل الخفي وعلاقته بالتدليس .
ومما يتبصر لهُ الباحث الجهبذ أن العلاقة بين التدليس والإرسال الخفي تكونُ من التعريف حيث أنك لو أمعنت النظر في تعريف المرسل الخفي : (( الرواية عمَّن عاصرهُ ولم يعرف لهُ لقاءٌ بهِ مالم يسمع منهُ )) ، والتدليس : (( رواية الراوي عمَّن عاصرهُ و سمع منهُ ولقيهُ مالم يسمع منه بصيغةٍ موهمة بالسماع )) ولذلك فإعلم أن الحفاظ قد يطلقون على الذي حدث عمَّن عاصرهُ ولم يثبت لهُ سماعٌ منه أو لقاءٌ تدليس ، وهو ما نعرفهُ انا وأنت وقاله الحافظ ابن حجر العسقلاني بأنهُ المرسل الخفي ، وهذا ما يدفعنا لذكر أن مَنْ ذكرهم العلائي في كتابه جامع التحصيل هم ثلةٌ مِنْ الرواة الذين وصمهم العلائي بالتدليس وأطلق هذه اللفظة عليهم وهم معروفون بالارسال وقرروا قاعدةً على عدم قول روايات هؤلاء المُعنعنة وقد قال العلائي ومِنْ بعده الحافظ ابن حجر العسقلاني أن مَنْ ذكر في الجامع أو قال يذكر بالتدليس أو ذكره النسائي بالتدليس فإنه محمولٌ على رواية مَنْ سمع مِمَنْ لقيَّ وحدثَّ عنهُ مالم يسمع ! وقد كانوا يطلقون كذلك التدليس على رواية مَن عاصر ولم يثبت له اللقاء ولا السماع وحدث بما لم يثبت سماعهُ مِنْهُ ، فالأئمة المتقدمين كابن معين وابن حبان كانوا يتجوزون في مثل عبارات التدليس فلا مشاحة فيها عندهم قال الحافظ : (( قلت: والذي يظهر من تصرفات الحذاق منهم أن التدليس مختص باللقي، فقد أطبقوا على أن رواية المخضرمين مثل: قيس بن أبي حازم وأبي عثمان النهدي وغيرهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قبيل المرسل لا من قبيل المدلس. وقد قال الخطيب في باب المرسل من كتابه الكفاية:
لا خلاف بين أهل العلم أن إرسال الحديث الذي ليس بمدلس وهو: رواية الراوي عن من لم يعاصره أو لم يلقه، ثم مثل للأول بسعيد بن المسيب وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وللثاني بسفيان الثوري وغيره عن الزهري. ثم قال: والحكم في الجميع عندنا واحد )) .
فمقتضى كلام الخطيب أن من روى عمَّن عاصرهُ ولم يثبت له اللقاء لا يكون مدلساً ، والأصل بين هذا وهذه أن ما رواهُ بصيغةٍ موهمةٍ بالسماع فإن هذا يعتبر تدليساً ، وأما ما رواهُ على سبيل الإرسال الخفي ممن عرف لهُ المعاصرة ولم يعرف لهُ السماع أو ثبوت اللقاء فذلك لا مشاحة في تسميته كما ذهب إلي ذلك الحافظ ابن حجر العسقلاني وهو المرسل الخفي .
فتجد أن الحافظ ابن حجر - رحمه الله - فرق بين المعاصرة واللقاء في كلامهِ فعد من ثبت له اللقاء وهذا يشمل السماع تدليساً وعد من لم يعرف لهُ اللقاء أو السماع إرسالاً خفياً قال الإمام السخاوي - رحمه الله - في فتح المغيث (1/183) : (( فخرج باللقاء المرسل الخفي فهما وإن اشتركا في الانقطاع فالمرسل يختص بمن روى عمن عاصره ولم يعرف أنه لقيه كما حققه شيخنا تبعاً لغيره على ما سيأتي في بابه قال وهو الصواب لإطباق أهل العلم بالحديث )) .
قال العلائي في الجامع (ص/97) : (( قال ابن عبد البر: اختلفوا في حديث الرجل عمن لم يلقه، مثل مالك عن سعيد بن المسيب والثوري عن إبراهيم النخعي فقالت فرقة: هذا تدليس، لأنهما لو شاءا لسميا من حدثهما كما فعلا في الكثير مما بلغهما عنهما، قالوا: وسكوت المحدث عمن حدثه مع علمه به دلسة، قال أبوعمر-يريد ابن عبد البر- فإن كان هذا تدليساً فما أعلم أحداً من العلماء سلم منه في قديم الدهر ولا حديثة اللهم إلا شعبة بن الحجاج ويحيى بن سعيد القطان فإنهما ليس يوجد لهما شيء من هذا لا سيما شعبة. وقالت طائفة ليس هذا بتدليس وإنما هذا إرسال، وكما جاز أن يرسل سعيد بن المسيب عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما وهو لم يسمع منهم ولم يسم أحد من أهل العلم ذلك تدليساً، كذلك مالك في سعيد بن المسيب انتهى كلامه ، والقول الأول ضعيف؛ لأن التدليس أصله التغطية والتلبيس وإنما يجيء ذلك فيما أطلقه الراوي عن شيخه بلفظ موهم للاتصال وهو لم يسمعه منه فأما إطلاقه الرواية عمن يعلم أنه لم يلقه أو لم يدركه أصلاً فلا تدليس في هذا يوهم الاتصال وذلك ظاهر وعليه جمهور العلماء والله أعلم )) فالحافظ ابن حجر - رحمه الله - لم يعد رواية من عاصر ولم يثبت لهُ اللقاء بهِ تدليساً على خلاف ما ورد عن الأئمة المتقدمين على اختلاف مدلولاتهم في هذا الشأن فتجد ابن حبان يطلق لفظة كان يدلسها على روايته عمن لم يعرف لهُ سماعٌ ويتبعها بقوله لم يسمع منهم وإنما كان يدلسها ، كقول الإمام أحمد بن حنبل عن سعيد بن أبي عروبة - رضي الله عنهما - : (( كان يحدث عن كل هؤلاء على التدليس ولم يسمع منهم )) والصحيح أن هذا لا يسمى تدليساً وإنما إرسالاً فنفي الإمام أحمد السماع منهم دليلٌ على أن حديث سعيد عنهم في عداد المرسل ومن هنا يأتي التفريق بين المرسل الخفي والتدليس حيث أن كل واحدٍ منهما يختلف في مسألتين وهي الصيغة الموهمة بالسماع فإذا علمنا أنهُ قد حدث بصيغة موهمةٍ فهذا مدلسٌ وكان قد سمع منهُ ولقيهُ وأما إن رأينا أنه عاصرهُ ولم يعرف لهُ لقاءٌ به سواءٌ أكان باعترافه بنفسه أو بأقوال الأئمة ممن سبر روايته وعرف لقاؤه به من عدمه فإننا لا نسميه إلا إرسالاً خفياً ولا يكون بصيغةٍ توهم السماع لأنك تجدهم يطلقون على هذا مطلق الإرسال .
في النكت على مقدمة ابن الصلاح (2/2) : (( أن من ذكر التدليس أو الإرسال إذا ذكر بالصيغة الموهمة عمن لقيه فهو تدليس أو عمن أدركه ولم يلقه فهو المرسل الخفي، أو عمن لم يدركه فهو مطلق الإرسال )) ، قُلت : واعلم أن مَنْ عرف بأنه كان مُرسلاً أو ورد فيه وصفٌ بالتدليس ! والتحقيق أن روايته عمَّن عاصره ولم يلقَ فإن هذا لا يبحث في عنعناتهم كما سيأتيك البيان بل يبحث في أصل السماع هل ثبت لهم السماع أم لم يثبت ، ومثل مَنْ تدور عليهم مدارات الأخبار وفيهم القول الأول في الحديث وما ثبت عن نبينا العدنان فهؤلاء لابد للمرء أن يتحرى مروياتهم وأن عنعناتهم مقبولةٌ ولا يمكن تحري السماع فيها ! لأن أمثال يحيى بن أبي كثير اليمامي قد أخرج له الشيخان في الصحيح دُون تحري سماعاته ودُون الرجوع إلي ما قد يصرح بها بالسماع وحالهُ لا يخفى على أن وقع في الإرسال الخفي لا التدليس كما سترى .
فالتدليس والإرسال الخفي ومطلق الإرسال فقد مضى أن مطلق الإرسال هو أن يحدث عمن لم يدركهُ وهذا واردٌ في تعريف الخطيب - رحمه الله - ، والمرسل الخفي وهو أن يروي عمن عاصرهُ وعلم أنه لم يلقهُ فذلك الإرسال الخفي ، وأما ما رواهُ بصيغة موهمةٍ بالسماع عمن سمع منه وعاصرهُ فإن ذلك يسمى تدليساً وعليه الأئمة - رضي الله عنهم - .
وقد ميز المتقدمين - رضي الله عنهم - بين رواية الراوي عمَّن سمع منه ما لم يسمع ورواية الراوي عمن عاصرهُ ولم يثبت له سماعٌ منه مالم يسمع بصيغةٍ توهم السماع ومثالهُ ما جاء في العلل عن الإمام أحمد بن حنبل (1/255) : (( قلت لأبي كم سمع هشيم من جابر الجعفي؟ قال: حديثين. قلت: فالباقي؟ قال: مدلسة )) وروى الدوري عن ابن معين في التاريخ (4/377) : (( سألت يحيى عن حديث هشيم عن أبي إسحاق عن أبي قيس عن هزيل قال قال عبد الله ما أبالي ذكري مسست أو أنفي فقلت له من أبو إسحاق هذا فقال يحيى: هشيم لم يلق أبا إسحاق السبيعي ولم يلق أيضا أبا إسحاق والذي يدلس عنه الذي يقال له أبو إسحاق الكوفي )) فكما ترى فإنهم يطلقون لفظة التدليس على رواية الراوي عمن سمع منه مالم يسمع إلا أن الأئمة يطلقون لفظة التدليس على رواية الراوي عمن لم يثبت له سماعٌ منه أو لقاء وهو ما يعرفهُ الحافظ ابن حجر بالإرسال الخفي وإليك بعض الأمثلة مِن أقوال الأئمةِ - رضي الله عنهم - .
(1) قال الدوري عن الإمام يحيى بن معين - رضي الله عنه - : (( سمعت يحيى يقول لم يلق يحيى بن أبي كثير زيدَ بن سلام وقدم معاوية بن سلام عليهم فلم يسمع يحيى بن أبي كثير أخذ كتابه عن أخيه ولم يسمعه فدلسه عنه )) .
قُلت : وقد سبق وأن أوردنا هذا عن الإمام في دراستنا : (( مرويات الإمام يحيى بن أبي كثير بين التدليس والإرسال الخفي )) فهذا ابن معين يخبر أن رواية يحيى بن أبي كثير زيد بن سلام من قبيل التدليس وهي في الحقيقة مرسلٌ خفي ، وقد أطلقها ابن حبان - رضي الله عنهم - على من يشك في ثبوت معاصرتهِ أصلاً فسماهُ تدليساً فقال في ترجمة سليمان الأسدي : (( وقد قيل إنه سمع جابراً وليس ذاك بشيء تلك كلها أخبار مدلسة )) وقد وصف ابن حبان سليمان الأسدي بالتدليس ولو أن أحداً ممن لا يحقق النظر فيمن عرف بالتدليس إلي قوله لضعف حديث سليمان وقد استدرك الحافظ ابن حجر والعلائي هذا في حين أن الإمام أراد به الإرسال لأنه وكما تعلم فإن سليمان لم يسمع من جابر وقد نص على عدم سماعه منهُ عددٌ من الأئمة كالبخاري ولذلك فإنك تجد أقوالهم لا مشاحة فيها فإنهم يطلقونها ويريدون بها الإرسال ولا يريدون بها التدليس كأن ترى إماماً من الأئمة ينفي سماع أحد الرواة عمن حدث عنهُ تماماً وهو مطلق الإرسال وهي أن يروي عمن لم يدركه أصلاً فيقول وتلك أخبارٌ دلسها ! أو أن يقول فيمن ثبت المعاصرة لهُ أو الرؤية دون أن يكون ثبت لهُ السماع فتلك أخبارٌ مدلسة ولا يريد به التدليس المعروف إصطلاحاً .
(2) قال الإمام أحمد بن حنبل سير أعلام النبلاء (6/468) : (( لَمْ يَسْمَعْ سَعِيْدُ بنُ أَبِي عَرُوْبَةَ مِنَ الحَكَمِ, وَلاَ مِنَ الأَعْمَشِ, وَلاَ مِنْ حَمَّادٍ, وَلاَ مِنْ عَمْرِو بنِ دِيْنَارٍ, وَلاَ مِنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ, وَلاَ مِنْ إِسْمَاعِيْلَ بنِ أَبِي خَالِدٍ, وَلاَ مِنْ عُبَيْدِ اللهِ بنِ عُمَرَ, وَلاَ مِنْ أَبِي بِشْرٍ, وَلاَ مِنِ ابْنِ عَقِيْلٍ: وَلاَ مِنْ زَيْدِ بنِ أَسْلَمَ, وَلاَ مِنْ عمر ابن أَبِي سَلَمَةَ, وَلاَ مِنْ أَبِي الزِّنَادِ, وَقَدْ حدث عن هؤلاء على التدليس ولم يَسْمَعْ مِنْهُم )) قال الحافظ الذهبي : (( قُلْتُ: وَكَانَ مِنَ المُدَلِّسِيْنَ )) .
قُلت : وصفهُ الحافظ الذهبي بالتدليس تبعاً لقول الإمام أحمد بن حنبل : (( وحدث عن هؤلاء على التدليس ولم يسمع منهم )) فحملها الحافظ الذهبي على التدليس الإصطلاحي وليس ذلك بالمستقيمٍ إذ أن سعيد بن أبي عروبة لم يثبت لهُ سماعٌ من هؤلاء وكان قد عاصرهم فإذا حدث عنهم فإن حديثه عنهم من قبيل المرسل الخفي وهذا النقل كما قال الشيخ العوني في كتابه المرسل الخفي من أدق النصوص على أن الإمام أحمد إنما يريد بقوله : (( مدلسة )) الإرسال الخفي فيتضح للقارئ أن مصطلح التدليس واسعٌ عند الأئمةِ وأعم فيدخل فيه الإرسال الخفي عندهم - رضي الله عنهم - ودليلهُ أنهم كانوا يطلقون لفظة التدليس على من لم يثبت لهُ اللقاء أو السماع وقد ثبت لسعيد بن أبي عروبة المعاصرة لهؤلاء ! فكان إرسالاً خفياً .
(3) قال ابن حبان في مشاهير علماء الأمصار (1/158) : (( إسماعيل بن أوسط البجلي والى الكوفة لا يصح له صحبة لصحابي وتلك كلها أخبار مدلسة لا أعتمد على شئ منها مات سنة سبع عشرة ومائة )) أهـ ، وقد ذكره بالإرسال الحافظ الذهبي في تاريخ الإسلام فقال (3/209) : (( يُرْسِلُ عَنِ الصَّحَابَةِ )) وقد ضعفه الساجي وذكرهُ الحافظ في لسان الميزان .
قُلت : ومثل هذا لا ينبغي أن يوصف بالتدليس لأنه إنما كان يرسل عنهم ووصفه ابن حبان بأنه قد دلسها وهذا لا يثبت فلم يعرف بالتدليس ولم يصفهُ أحدٌ به وغاية ما في الأمر أنهم تكلموا فيه وقد ضعفهُ الساجي وغيره - رضي الله عنهم - وحاصل روايته أنها ليست من قبيل التدليس ودليلهُ ما قاله الحافظ الذهبي : (( يرسل )) وهي قرينة على أن مروياته مرسلةٌ لا مدلسةٌ .
(4) قال الإمام القدوة الثبت يحيى بن معين في التاريخ رواية الدوري (4/380) : (( سَمِعت يحيى يَقُول دلّس هشيم عَن زَاذَان أبي مَنْصُور وَلم يسمع مِنْهُ )) . قُلت : قد نفى سماع هشيم من زاذان الإمام أحمد كما قال الشيخ العوني في المرسل الخفي وقولهُ : (( ولم يسمع منه )) دليلٌ على أن المراد هنا الإرسال الخفي وليس التدليس لأن من صنيع الأئمة أن يقرنوا قولهم بما يعلم بهِ مرادهم فإذا قال ولم يسمع منهم ! أو قال وأخباره عنهم مدلسة ولم يسمع منهم فمرادهم لا يكون التدليس إنما الإرسال الخفي والتطبيق على الأقوالِ بينٌ صريحٌ في مدلولهم ومنطوق تلك الألفاظ التي أطلقها الأئمة - رضي الله عنهم - ولذلك فإنك تجد أن الحافظ ابن حجر لم يقل بهذا القول من فراغٍ فإن لهُ دليلهُ فنفي السماع مع عدم ثباته وثبوت المعاصرة فهذا من دقائق العلم ومن أوسع المسائل وهو الإرسال الخفي فيعرفهُ من عرف أنه إن ثبت المعاصرة ولم يثبت السماع فإن هذا لا يسمى تدليساً وإلا جعل هذا فيه من الأسباب التي يرد لأجلها حديثه فيذهب الكثير من الأخبار الصحيحة التي رواها ولا يبحث عن عنعنة أمثالهم بل يبحث عنهم في مظآن المراسيل من الكتب كالعلائي في جامع التحصيل فقد أورد جماعةً من الرواة موصوفين بالتدليس عمّن لم يسمعوا منهم وذهب وتبعه بذلك الحافظ ابن حجر إلي تقعيد قاعدة في عدم قبول عنعنة هؤلاء وهذا ليس بمسلم إذ لا بد أن يعي القارئ والباحث أن هذه الكتب فيها الكثير من الرواة الذين وصفوا بالتدليس وليس المراد بتدليسهم التعمية والخفاء ! إنما الإرسال وهذا في التعامل معه يختلف تماماً في التعامل مع التدليس فلا ترد عنعنتهم ولا يبحث فيها .
قال سبط ابن العجمي في التبيين (ص36) : (( اعلم أنه لا يدخل في المدلسين القسم الذين أرسلوا، وقد ذكر منهم العلائي في كتاب المراسيل جملة وزدت أنا جملة ذكرتهم على هوامش كتابه، لكن الفرق بين التدليس وبين الإرسال الخفي أنّ الإرسال رواية الشخص عمن لم يسمع منه. قال أبو بكر البزار: إنّ الشخص إذا روى عمن لم يدركه بلفظ موهم فان ذلك ليس بتدليس على الصحيح المشهور )) ثم تجده يصف الحسن البصري بالمشهور بالتدليس !.
(5) سؤالات الآجري لأبي داود تهذيب الكمال (21/113) : (( سمعت أبا داود يقول: كَانَ عند علي بْن المبارك كتأَبَان عن يحيى بْن أَبي كثير، كتاب سماع وكتاب إرسال، فقلت لعباس العنبري: كيف يعرف كتاب الإرسال؟ فَقَالَ: الَّذِي عند وكيع عن علي عن يحيى عن عكرمة، قال: هذا من كتاب الإرسال. قال: وكان الناس يكتبون كتاب السماع )) .
قُلت : قال الشيخ العوني في كتابه المرسل الخفي (ص50) فإنظر لهذين الإمامين يصفان رواية علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير مرسلاً على الرغم من أن هذا عند المتأخرين تدليساً لأنها رواية الراوي عمن سمع منه مالم يسمع ! وهذا دارجٌ في إصطلاحات الأئمةِ - رضي الله عنهم جميعاً - فيبحث في الراوي وسماعه ممن حدث عنهُ وينظر في أقوال الأئمة فلا بد مثلاً أن يأتي إمام من الأئمة فيثبت عدم اللقاء ويقول فلان لم يسمع من فلان، أو هو يقول أنا لم أسمع من فلان شيئاً. ثم بعد ذلك إذا روى عنه نقول هذا مرسل خفي، لأنك قلت بأنك لم تسمع منه، أو إذا روى مثلاً عن شخص نقول لا هذا مرسل خفي لأن أبا حاتم قال فلان لم يلق فلان، فلا نسمي هذا النوع إلا مرسلاً خفياً، فهل يشترط أن نعرف عدم ثبوت اللقاء للحكم على أنه مرسل خفي أم لا؟ نعم نشترط في المرسل الخفي أنه لم يسمع منه .
فهذه خُمسايةٌ من الأقوال التي تثبت أن الأئمة قد يطلقون التدليس على الإرسال ، كما وننبه إلي أنه لو أدخل بينه وبين الذي حدث عنه واسطةٌ فقد يكون عند الأئمة دليلاً على عدم السماع وعند البعض مزيداً من متصل الأسانيد وهذا مبحثٌ خاصٌ يحتاج لبسطٍ وبيان قال الحافظ ابن الصلاح - رحمه الله - : (( ومنه ما كان الحكم بإرساله محالاً على مجيئه من وجه آخر بزيادة شخص واحد أو أكثر في الموضع المدعى فيه الإرسال كالحديث عن عبد الرزاق عن الثوري عن أبي إسحاق، فإنه حكم فيه بالإنقطاع والإرسال بين عبد الرزاق والثوري، لأنه روى عن عبد الرزاق قال حدثني النعمان بن أبي شيبة الجندي عن الثوري عن أبي إسحاق. وحكم أيضًا فيه بالإرسال بين الثوري وأبي إسحاق، لأنه روي عن الثوري عن شريك عن أبي إسحاق )) .
وقال الحافظ ابن رجب : (( فإن كان الثقة يروي عمن عاصره - ولم يثبت لقبه له - ثم يدخل أحيانًا بينه وبينه واسطة فهذا يستدل به هؤلاء الأئمة على عدم السماع منه )) ، ولا يكون هذا إلا بعد سبر مرويات الإمام المعني بالدراسة فيميز عندها الباحث ما إن كان سمع منه أم لا ! وقد يهم الراوي فيدخل بين الذي حدث عنهُ واسطةٌ فيكون هذا على سبيل المزيد من متصل الأسانيد ولا يكون دليلا على عدم السماع إلا حين تثبت لنا المعاصرة للراوي . والله أعلم .
قال الشيخ المحدث خالد الدريس في موقف الإمامين (1/427) : (( والصواب في هذه المسألة الأخيرة أن التدليس لابد فيه من قصد الإبهام من قبل المدلس فإذا لم يوجد الإبهام من الراوي فلا يصح أن ينسب للتدليس، حتى فيما يرويه المحدث في بعض ما لم يسمعه عن شيخه الذي لقيه وسمع منه إذا لم يكن هناك إبهام فلا ينسب للتدليس، ومثال ذلك أن سعيد بن المسيب ثبت أنه سمع من عمر أحاديث قليلة، وقد روى عن عمر علمًا كثيرًا حتى سمي راوية عمر (1) ، مع علمنا أنه لم يسمع كل هذا من عمر، ورغم ذلك لم ينسب للتدليس لأنه لم يوهم من سمع منه أنه قد سمع كل ما رواه عن عمر لاشتهار قلة سماعه من عمر وصغر سنه عند وفاته رضي الله عنه، ومن ذلك أيضًا ما قاله أبوداود: (كان ابن سيرين يرسل وجلساؤه يعلمون أنه لم يسمع، سمع من ابن عمر حديثين، وأرسل عنه نحوًا من ثلاثين حديثًا) ....
ومما يؤكد بقوة أن الإرسال الخفي ليس هو كالتدليس فضلاً أن يكون أقبح منه ما قاله ابن أبي حاتم: (قلت أبو وائل سمع من أبي الدرداء؟ قال: أدركه، ولا يمكن سماع شيء. أبو الدرداء بالشام، وأبو وائل كان بالكوفة. قلت: كان يدلس؟ قال: لا، هو كما يقول أحمد بن حنبل) (2) علق العلائي بقوله: (يعني كان يرسل) ، وهذا نص صريح في أن المرسل الخفي ليس كالتدليس لن التدليس مذموم ومكروه، وفي نص آخر لأبي حاتم مؤيد لما تقدم عنه أنه قال في أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي: (لا يعرف له تدليس) (3) ، وأبو قلابة ممن عرف بالإرسال، وقد قال أبو حاتم فيه: (قد أدرك أبو قلابة النعمان بن بشير، لا أعلمه سمع منه) (4) ، فنفى عنه التدليس مع أنه وجد الإرسال الخفي في مروياته. وبهذا يعلم أن ما قاله المعلمي ليس بالصواب والله أعلم )) وقد مثلنا لذلك بالإمام قتادة ويحيى بن أبي كثير كذلك أبي الزبير المكي - رضي الله عنهم - .