الدرس الثاني والثلاثون- مباحث الكتاب
الأمر بالشيء نهي عن ضده- تكرر الأمر
أولا: الأمر بشيء ما هل هو نهي عن فعل ضده أو لا ؟
بداية ما هو المقصود بالضد هنا ؟
والجواب: تارة يراد بالضد هو ترك ذلك الفعل وهذا هو الضد العدمي، فضد الصلاة هو تركها، وضد الحج هو تركه. وتارة يراد بالضد كل فعل ينافي الأركان والشرائط المعتبرة فيه، فيكون للفعل الواحد أضداد كثيرة جدا وهذا هو الضد الوجودي، فمن أضداد الصلاة مثلا: المشي، والنوم، والأكل، والكلام، وغير ذلك.
فالأمر بالشيء نهي عن تركه قطعا. هذا هو الضد بالمعنى الأول.
وأما الضد بالمعنى الثاني فوقع الخلاف فيه بين العلماء والكلام فيه في مقامين:
1- الأمر النفسي- على القول به- وفيه أقوال:
أ- الأمر بالشيء هو عين النهي عن ضده، فمثلا إذا أراد السيد أن يأمر غلامه بالكتابة فطلبه الكتابة هو عين طلبه الكف عن النوم والمشي ونحوهما، بمعنى أنهما حصلا بطلب واحد لا بطلبين، فطلب فعل الشيء هو نفسه طلب ترك أضداده.
ب- الأمر بالشيء ليس هو عين النهي عن ضده، إذْ أَن طلب هذا غير طلب الكف عن ذاك كما هو ظاهر، ولكنه يستلزمه فطلب الكتابة يستلزم الكف عن أضدادها.
ج- الأمر بالشيء لا هو عين النهي عن ضده ولا يستلزمه، لأنه قد لا يخطر بقلب الآمِر ضده أصلا فكيف يكون قاصدا للنهي عن ضده!.
2- الأمر اللفظي، كأن يقول السيد: اكتب، فهذا قطعا ليس هو عين لا تنم ولا تمش ونحوهما؛ فإن الأمر اللفظي غير النهي اللفظي ولكن قيل:
أ- هو يستلزمه، بمعنى أنه إذا قيل اكتب فكأنه قيل: لا تنم، لا تمش؛ لأنه لا تتحقق الكتابة بدون الكف عن النوم والمشي.
ب- هو لا يستلزمه، لأنه وإن توقف تحقق الكتابة على الكف عن أضدادها إلا أنها قد لا تخطر ببال الآمر.
واعلم أن القائل بهذا القول أعني عدم الاستلزام يسلم أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وأن الضد تركه واجب لتحقيق الأمر الواجب ولكن يقول تسميته نهيا يقتضي أن الناهي قاصد لتوجيه النهي عن تلك الأشياء وكيف ينهى عن شيء وهو لم يخطر بباله.
ومثل ما قيل في الأمر يقال في النهي بقسميه النفسي واللفظي.
فقد قيل إن النهي عن شيء هو أمر بفعل ضده، كالنهي عن الزنا أمر بالزواج أو التعفف، وقيل هو يستلزمه، وقيل ليس نهيا عن ضده ولا يستلزمه؛ لأن تلك الأضداد قد لا تخطر ببال الناهي.
ثم إنه في الأمر بفعل شيء لا بد من ترك جميع الأضداد، أما في النهي عن فعل شيء فيكفي فعل واحد من الأضداد.
ثانيا: إذا ورد أمر بعد أمر- كأن قيل: اكتبْ الدرسَ اكتبْ الدرسَ- وجب أن ننظر فيما يلي:
1- هل ورد الأمران متعاقبينِ أي ورد أحدهما بعد الآخر مباشرة، أو غير متعاقبين، أي ورد أحدهما بعد الآخر بمهلة؟
2- هل كان الأمران بشيئين متماثلين، كتكرار الأمر بالصلاة مثلا، أو بشيئين متخالفين، كالأمر بالصلاة والأمر بالصدقة؟
3- هل ورد الثاني معطوفا على الأول نحو: صلّ ركعتين وصل ركعتين، أو لا نحو: صلّ ركعتين صلّ ركعتين.
4- هل هناك مانع من حمل المعنى على التكرار وتعدد الفعل والمانع قد يكون عقليا مثل: اقتلْ زيدًا اقتل زيدًا، فإن إزهاق الروح شيء واحد فإزهاقه ثانيا لا يمكن لأنه تحصيل للحاصل، وقد يكون شرعيا مثل: اعتقْ عبدَك اعتقْ عبدَك، فإن الاعتاق إذا حصل أول مرة لم يتأت حصوله مرة أخرى، وقد يكون عاديا مثل: اسقني ماءً اسقني ماءً، فإن العادة جرت باندفاع الحاجة وهي العطش بأول شربة فلا حاجة للتكرار، أو لا يكون هنالك مانع مثل: صلّ ركعتين صل ركعتين فأي مانع من أن يراد منه أن يصلي أربع ركعات.
فإذا تقرر هذا فإليك الأحكام:
1- إذا ورد الأمران غير متعاقبين فهما متغايران فيجب العمل بهما، سواء كانا متماثلين كأن يقال لك: صلّ ركعتين، وبعد مهلة يقال: صلّ ركعتين، فيجب أن تصلي أربع ركعات، أم كانا متخالفين مثل: صلّ ركعتين، تصدّق بدرهم، فيجب أن تصلي وتتصدق.
2- إذا ورد الأمران متعاقبين فهنا أحوال:
أ- أن يكونا متخالفين فهما متغايران فيجب العمل بهما، سواء كانا متعاطفين نحو: أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، أو غير متعاطفين نحو: اضربْ زيدًا أعطه درهما.
ب- أن يكونا متماثلين ولم يمنع من التكرار مانع فهما متغايران أيضا فيجب العمل بهما، سواء كانا متعاطفين نحو: صلّ ركعين وصلّ ركعتين، فيلزمه أربع ركعات، أو غير متعاطفين نحو: صلّ ركعتين صلّ ركعتين.
ج- أن يكونا متماثلين ومنع مانع عادي من التكرار وكانا متعاطفين فيتوقف حينئذ فيهما، مثل: اسقني ماءً واسقني ماءً، فهنا مانع عادي من التكرار فالحمل على التوكيد - أي بأن يراد بالأمر الثاني تقوية الأمر الأول لا تحصيل الفعل مرتين- هو الظاهر، وهذا الظاهر عارضه أمر آخر وهو العطف فإن العطف يقتضي المغايرة فحينئذ يتوقف في الأمر فلا ندري أيراد بالأمر الثاني هو التوكيد أو التأسيس بأن يراد تحصيل الفعل مرتين.
د- أن يكونا متماثلين ومنع مانع عقلي أو شرعي، أو عادي ولم يعارضه عطف، فالأمر الثاني للتوكيد.
مثال المانع العقلي: اقتل زيدًا اقتل زيدًا بدون عطف أو مع عطف فالحكم واحد وهو أن الأمر الثاني للتوكيد لاستحالة الذهاب للتأسيس.
ومثال المانع الشرعي: اعتق عبدك اعتق عبدك بدون عطف أو مع عطف فالحكم واحد وهو أن الأمر الثاني للتوكيد لامتناع الذهاب للتأسيس.
ومثال المانع العادي الذي لم يعارضه عطف: اسقني ماءً اسقني ماءً، فالأمر الثاني يراد به التوكيد.
( شرح النص )
مسألةٌ
المختارُ أَنَّ الأمرَ النفسيَّ بمُعَيَّنٍ ليسَ نهيًا عن ضِدِّهِ ولا يستلزِمُهُ، وأَنَّ النهيَ كالأمرِ.
مسألةٌ
الأمرانِ إنْ لم يتعاقَبَا، أو تعاقَبَا بغيرِ متماثلينِ فغيرانِ، وكذا بمتماثلينِ ولا مانعَ مِنَ التَّكرارِ في الأَصحِّ، فإنْ كانَ مانعٌ عاديُّ وعارضَهُ عطفٌ فالوقفُ، وإلَّا فالثاني تأكيدٌ.
......................... ......................... ......................... ......................... ......
هذه ( مسألةٌ ) في أن الأمر بالشيء نهي عن ضده أو لا، القول ( المختارُ ) تبعا لإمام الحرمين والإمام الغزالي والنووي وغيرهم رحمهم الله ( أَنَّ الأمرَ النفسيَّ ) وهو طلب الفعل القائم في النفس ( بـ ) شيء ( مُعَيَّنٍ ) إيجابا أو ندبا ( ليسَ نهيًا عن ضِدِّهِ ولا يستلزِمُهُ ) لجواز أن لا يخطر الضد بالبال حال الأمر، سواء كان الضد واحدا كضد السكون وهو الحركة، أو متعددا كضد القيام وهو القعود والاضطجاع، فالأمر بالسكون مثلا ليس نهيا عن ضده وهو التحرك ولا يستلزمه على المختار أي أن طلب السكون ليس هو نفس الكف عن التحرك ولا مستلزما له، وقيل: نهي عن ضده، وقيل: يستلزمه، وخرج بالأمر النفسي الأمر اللفظي فليس هو عين النهي اللفظي قطعا بلا خلاف، ولا يستلزمه أيضا على الأصح، وقيل: يستلزمه ( و ) المختار ( أَنَّ النهيَ ) النفسي عن شيء معين تحريما أو كراهة ( كالأمرِ ) فيما ذكر فيه فالنهي عن فعل ليس أمرا بضده ولا يستلزمه، وقيل: عينه، وقيل: يستلزمه، والنهي اللفظي كالأمر اللفظي فليس هو عين الأمر اللفظي قطعا، ولا يستلزمه على الأصح، وقيل: يستلزمه، هذه ( مسألةٌ ) في تكرر الأمر ( الأمرانِ إنْ لم يتعاقَبَا ) بأن تأخر ورود الثاني عن الأول، سواء أكانا متماثلين كالأمر بالصلاة أو متخالفين كالأمر بالصلاة والزكاة ( أو تعاقَبَا ) لكن ( بغيرِ متماثلينِ ) أي بمتخالفين سواء أكانا متعاطفين كأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، أو غير متعاطفين كاضربْ زيدًا أعطِه درهما ( فغيرانِ ) أي فالأمران غيران يجب العمل بهما ( وكذا ) إن تعاقبا ( بمتماثلينِ ولا مانعَ مِنَ التَّكرارِ ) من عقل أو شرع أو عادة، فهما غيران ( في الأَصحِّ ) من الأقوال سواء مع العطف نحو صلّ ركعتين وصل ركعتين أو بدونه كصل ركعتين صل ركعتين، وقيل: الأمر الثاني للتوكيد ( فإنْ كانَ ) ثَمَّ ( مانعٌ عاديُّ ) من التكرار ( وعارضَهُ عطفٌ ) مثل: اسقني ماء واسقني ماء ( فـ ) حكم الأمر الثاني هو ( الوقفُ ) عن التأسيس بأن يراد تكرار الفعل وعن التوكيد، لأن وجود المانع العادي يقتضي التوكيد، ووجود العطف يقتضي التأسيس فتعارضا فتوقف فيهما حيث لا مرجح فإن وجد مرجح فيصار إليه ( وإلَّا ) بأن كان ثَمّ مانع عقلي نحو اقتل زيدا اقتل زيدا أو شرعي نحو اعتق عبدك اعتق عبدك، أو كان ثَمَّ مانع عادي ولكن لم يعارضه عطف نحو اسقني ماء اسقني ماء ( فـ ) الأمر ( الثاني تأكيدٌ ) للأمر الأول.