مساجلة علميّةوقعت هذه المسألة من الشيخ بمكان فأقذع رحمه الله القول في الظاهرية ومما قال:
بين الظاهرية وبين الشيخ الشنقيطي في حدّ قاذف الرجل المحصن.
1- «وسنضرب لك أمثلة من ذلك تستدل بها على جهل الظاهرية القادح الفادح الفاضح، وقولهم على الله وعلى رسوله وعلى دينه أبطل الباطل، الذي لا يشك عاقل في بطلانه، وعظم ضرره على الدين؛ بدعوى أنهم واقفون مع النص...»
ثم قال رحمه الله:« ومن ذلك قوله تعالى:﴿والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون﴾ فالله جل وعلا في هذه الآية الكريمة نصّ على أن الذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء يجلدون ثمانين جلدة وترد شهادتهم ويحكم بفسقهم... ولم يتعرّض في هذا النص لحكم الذين يرمون المحصنين الذكور.
فيلزم على قول الظاهرية: أن من قذف محصنا ذكرا ليس على أئمة المسلمين جلده، ولا ردّ شهادته، ولا الحكم بفسقه، لأنّ الله سكت عن ذلك في زعمهم، وما سكت عنه فهو عفو. فانظر عقول الظاهرية وما يقولون على الله ورسوله من عظائم الأمور بدعوى الوقوف مع النص!!» أضواء البيان (4/ 809 -811)
2- دعوى الظاهرية ودليل الحكم عندهم
الذي أعلمه أنهم يقولون: أن حدّ قاذف الرجل المحصن غير مسكوت عنه بل هو مذكور في الكتاب والإجماع.
أما الإجماع فقد نص أبو محمد ابن حزم صحة الإجماع على أن قاذف الرجل المحصن كقاذف النساء المحصنات حين قال: «جاء النص بالحدّ على قذف النساء، وصحّ الإجماع بحدّ من قذف رجلاً، والإجماع حق، وأصل من أصولنا التي نعتمد عليها، وقد افترض الله تعالى علينا اتّباع الإجماع، والإجماع ليس إلا عن توقيف من رسول الله صلى الله عليه وسلم»
وفي موضع آخر«وصحّ الإجماع على أن الحدّ على قاذف المحصنين كالحدّ على قاذف المحصنات... لأن الإجماع أصل من أصول الحق وإنما هو عن توقيف من رسول الله ولا يجوز غير ذلك»
وهذا الإجماع نقله غيرهم من الأئمة
وأما دلالة الكتاب على الحكم فلهم طريقان:
الطريق الأولى:
أن حد قاذف المحصن من الرجال داخل في عموم النص من قوله تعالى:﴿والذين يرمون المحصنات﴾ كما قال ابن حزم رحمه الله: «وقال بعض أصحابنا: بل نص الآية عام للرجال والنساء وإنما أراد الله تعالى النفوسَ المحصنات.
قالوا:وبرهان هذا القول ودليل صحّته: قول الله تعالى في مكان آخر: ﴿والمحصنات من النساء﴾.
قالوا: فلو كانت لفظة ﴿المحصنات﴾ لا تقع إلا على النساء لما كان لقول الله تعالى: ﴿من النساء﴾ معنى، وحاشى لله من هذا فصحّ أن المحصنات يقع على النساء و الرجال؛ فبيّن الله تعالى مراده هنالك بأن قال:﴿من النساء﴾، وأجمل الأمر في آية القذف إجمالا».
ثم قال الإمام ابن حزم رحمه الله: «وهذا جواب حسن».
ونقل هذا المعنى أبو عبد الله القرطبي عن الزهراوي قال القرطبي: «وحكى الزهراوي أن المعنى: والأنفس المحصنات؛ فهي بلفظها تعمّ الرجال والنساء، ويدل على ذلك قوله:﴿والمحصنات من النساء﴾» تفسير القرطبي (15/ 123).
وقرّره أيضا الإمام مكي بن أبي طالب رحمه الله:«والفائدة في قوله:﴿مِنَ النسآء﴾ أن المحصنات يقع على معنى: والأنفس المحصنات؛ فيكون للرجال والنساء، فبيّن أنه للنساء بقوله ﴿مِنَ النسآء﴾ دليل ذلك أنه قال:﴿والذين يَرْمُونَ المحصنات﴾ فلولا أنه يراد به الأنفس المحصنات لم يحدّ من قذف رجلاً بالنص على ما ذكرنا».
الهداية إلى بلوغ النهاية (2/ 1280).وقوّاه أبو حيان الأندلسي في البحر المحيط (16/ 22).
الطريق الثانية:
أن المراد بالمحصنات: الفروج بالدلائل الآتية:
الأول: لا خلاف بين الأمة: أن واجب الشهود الأربعة هو أن يشهدوا بأنهم رأوا فرجا في فرج والجاً خارجاً.
الثاني: صحّ الإجماع على أن ما عدا هذه الشهادة ليست شهادة بزنا ولا يبرأ بها القاذف من الحدّ؛ فعلمنا أن المحصنات كناية عن الفروج المحصنات، وأن الرمي المذكور إنما هو للفروج فقط.
الثالث: حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله تعالى كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة فزنا العنين النظر وزن اللسان النطق والنفس تمنّي وتشتهي والفرج يصدّق ذلك أو يكذبه) (قالوا: فلم يجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الزنا إلا للفرج فقط وأبطله عن جميع أعضاء الجسم – أولها عن آخرها – إلا أن يصدّقه فيها الفرج.
فصحّ يقينا أن النفس و القلب وجميع أعضاء الجسد حاش الفرج لا رمي فيها ولا قذف أصلا وأنه لا رمي إلا للفروج فقط؛ فإذ لا شك في هذا ولا مرية ، فالمراد من قول الله تعالى(والذين يرمون المحصنات) هي بلا شك الفروجُ التي لا يقع الرمي إلا عليها ولا يكون الزنا المرميّ به إلا منها) و(صحّ يقينا أن الزنى إنما هو بالفرج خاصة، فإذا كان ذلك كذلك، فالقذف بالزنى إنما هو الفرج، فالحدّ في ذلك إنما هو على قاذف الفرج فدخل في ذلك الرجال والنساء في نص الآية دخولا مستويا)
الرابع: أن قاذف ما عدا الفرج لم يأت نص ولا إجماع بإيجاب الحدّ عليه، وقد صحّ الإجماع بإيجاب الحد على قاذف الفرج بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اليدان تزنيان والرجلان تزنيان والقلب يزني والعين تزني والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه)
الخامس: أن المحذوف عند مخالفيهم هو النساء، وعندهم: الفروج، وقالوا: لا فرق بين اقتصاره تعالى على ذكر المحصنات وحذف الفروج على قولنا أو حذف النساء على قولهم، فسقط اعتراضهم جملة، وقولنا الذي حملنا عليه الآية أولى من دعواهم لأن قولنا يشهد له النص والإجماع على ما ذكرنا.
السادس: أن ما حملنا عليه الآية عام ينتظم جميع الفروج المحصنات وقول مخالفينا خاص يسقط الحدّ (عن قاذف نساءٍ كثيرة كالإماء والكوافر والصغار والمجانين فقد أفسدوا دعواهم من قرب من تعرّيها من البرهان)
المحلى(16/ 196- 197) والصادع في الرد على من قال بالقياس والرأي والتقليد والاستحسان والتعليل (ص490 - 492).
وعلى أي حالٍ فالظاهرية قالوا بحدّ قاذف الرجال المحصنين كالنساء واستدلوا على ذلك بالإجماع وبالكتاب المبين ولم يروا أنه من المسكوت عليه والله أعلم.