تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: أسباب الأحكام وتطبيقاتها عند الفقهاء.

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Apr 2008
    المشاركات
    16

    افتراضي أسباب الأحكام وتطبيقاتها عند الفقهاء.

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    أما بعد،
    فهذا جزء لطيف من بحث لنيل شهادة الإجازة في الدراسات الإسلامية، قدمه هذا الأسبوع أخ طالب من مدينة الدار البيضاء المغربية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بن مسيك جامعة الحسن الثاني، أبثه هنا بإذن منه بل وبطلب من أستاذه المشرف، الذي حثه على نشر نبذة من البحث بهذا المجلس المبارك لينظر فيه الإخوة المشايخ والباحثون وطلبة العلم الأفاضل ويدلوا بآرائهم وانتقاداتهم وتصويباتهم.
    وبما أن الأخ مطالب ببثه هنا في هذا اليوم بالذات - والحال أنه غير مسجل بموقع الألوكة - فقد رجاني أن أتولى ذلك عنه فأسعفته بمطلوبه.

    صاحب البحث الطالب: عبد الرحمن الخلفي.
    الأستاذ المشرف: الدكتور سعيد اجديرا.

    الفصل الثاني: أسباب الأحكام وتطبيقاتها عند الفقهاء.

    المبحث الأول: المقصود بأسباب الأحكام وأقوال العلماء في المسألة

    أ ـــ المقصود بأسباب الأحكام: فأسباب الأحكام هي ما تضاف إليها الأحكام من حيث الظاهر, وهذا معنى ينتظم كل وصف ظاهر منضبط, دل الدليل السمعي على كونه معرفا لحكم شرعي سواء ظهرت مناسبته أم لم تظهر, وعلى هذا تكون أسباب الأحكام كلها أسباب بطريق الحقيقة, سواء كانت عللا كأسباب العقوبات أم لم تكن عللا كوقت الصلاة.
    وقيل إن المراد بها ما يكون عبارة كما هو طريق الشيء أي أنها خاصة بما لم تظهر مناسبته كالوقت للصلاة, وعلى هذا فتسميته ما ظهرت مناسبته سببا مجازية.
    وعلى كل حال فالمراد بالأسباب ما تضاف إليها الأحكام من حيث الظاهر سواء كانت المناسبة ظاهرة أم لا, والإطلاق حينئذ على سبيل الحقيقة أو ما تضاف إليها الأحكام من حيث الظاهر مما لم تظهر مناسبته, والإطلاق على ما ظهرت مناسبته مجازي.[1]
    ب ـــ أقوال العلماء في المسألة: فلا خلاف بين العلماء في أن المؤثر الحقيقي في الأشياء كلها هو الله تعالى كما قال ابن القيم في مدارج السالكين لا نعلم من أتباع الرسل من قال: أنها مستقلة بأنفسها حتى تحتاج إلى نفي هذا المذهب, ولكنهم بعد اتفاقهم هذا، اختلفوا في تسمية الأحكام من حيث الظاهر إلى أسباب تدل عليها.
    المذهب الأول: المثبتون لأسباب الأحكام وأدلتهم:
    فقد قال بهذا بهذا عامة الحنفية وبعض أصحاب الشافعي، وعامة المتكلمين في أن لأحكام الشرع أسبابا تضاف إليها، وإن كان الموجب في الحقيقة هو الله سبحانه وتعالى، ولا فرق في ذلك بين العبادات وغيرها كالعقوبات وحقوق العباد.[2]
    ومن أدلتهم على ذلك إجماع المسلمين على وجوب الصلاة على النائم في وقتها مع أن الخطاب عنه موضوع، لأنه لا يصلح للخطاب وعلى الصوم عليه، إذ أنه مؤاخذ بالقضاء بعد الانتباه والمغمى عليه والمجنون يؤاخذون بقضاء الصلاة، مالم يزد الإغماء أو الجنون عن يوم وليلة عند الحنفية، ويؤاخذ المجنون بقضاء رمضان، ما لم يستغرق الشهر عندهم ويؤاخذ المغمى عليه والنائم بقضاء رمضان وإن استغرق الشهر عندهم، فالخطاب عن هؤلاء موضوع بالإجماع، ومع ذلك لم يمتنع وجوب هذه الأحكام فدل على أن وجوبها حتما مضاف إلى أسباب شرعية غير الخطاب.[3] وقد قال الشافعي رحمه الله بأن الزكاة تجب على الصبي مع أنه غير مخاطب، وقال الجميع بوجوب العشر وصدقة الفطر عليه مع أنه غير مخاطب فدل وجوب ذلك عليه مع أنه غير مخاطب على أن الوجوب قد أضيف إلى أسباب شرعية غير الخطاب.[4]
    وإذا كان الأمر كذلك فإن جميع الأحكام مضافة إلى أسباب، كجعل القتل سببا في وجوب القصاص، والإتلاف سببا في وجوب الضمان، والنكاح سببا في ملك الوطء، والوقت في وجوب الصلاة.[5]
    ومما يدل لإثبات الأسباب أيضا ما جاء في القرآن الكريم من ترتيب الأحكام على الأسباب متنوعة تارة بباء السببية، وتارة بلام التعليل صريحة أو مقدرة، وتارة بتعليق الحكم المشتق، على غير ذلك من الطرق.
    ومن أمثلة ذلك قول الله تعالى:{فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم و بصدهم عن سبيل الله كثيرا و أخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل}[النساء آية160] فقد رتب الله سبحانه وتعالى تحريم الطيبات عليهم على ظلمهم و صدهم عن سبيل الله وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وذلك بباء السببية, وهذا يدل على إثبات الأسباب.[6]
    وقد أسند ابن تيمية رحمه الله إثبات الأسباب للأحكام إلى السلف والأئمة بل زاد ذلك بالقول بأن السلف والأئمة متفقون على إثبات الأسباب والحكم خلقا وأمرا.[7]
    ونجد أيضا ابن مفلح شمس الدين المقدسي الحنبلي في كتابه أصول الفقه نسب إثبات الأسباب للأحكام إلى إجماع السلف حيث قال: "وذكره بعضهم إجماع السلف والجمهور."[8]
    ويقول ابن القيم رحمه الله:"ونحن نقول إن الدين هو إثبات الأسباب والوقوف معها والنظر عليها والالتفات إليها، وإنه لا دين إلا بذلك، كما لا حقيقة إلا به، فالحقيقة والشريعة مبناها على إثباتها لا على محوها، ولا ننكر الوقوف معها، وإن الوقوف معها بمعنى أننا نثبت الحكم إذا وجدت وننفيه إذا عدمت, ونستدل بها على حكمه الكوني، فوقوفنا معها بهذا الاعتبار هو مقتضى الحقيقة والشريعة"[9]، وقال في نفس الكتاب ومعلوم أن طي بساط الأسباب والعلل تعطيل للأمر والنهي والشرائع والحكم، وأما الوقوف على الأسباب واعتقاد تأثيرها فلا نعلم من أتباع الرسل من قال إنها مستقلة بأنفسها حتى يحتاج إلى نفي هذا المذهب, إلى أن قال والحق الذي بعث الله به رسله و أنزل به كتبه وفطر عليه عباده وأودعه في ققلوبهم بين مذهب هؤلاء و هؤلاء فالهدى بين الضلالين والاستقامة بين الانحرافين.[10]
    تنبيه: هناك خلاف بين أهل العلم في هذه المسألة أقصد بين المعتزلة وأهل السنة:
    فالمعتزلة تقول: أن السبب مؤثر في الحكم بذاته ولكن بواسطة قوة أودعها الله فيه فعلى هذا المذهب يكون المراد بكون الزنا سببا لوجوب الحد ومؤثر في إيجاب الحد بذاته بواسطة قوة أودعها الله فيه، وهذا سبب عندهم على كون العقل يدرك الأفعال قبحا وحسنا قبل أن يرد الشرع بأحكامها و قد نفى هذا المذهب كل من البزدوي والسرخسي والبخاري والأسنوي وغيرهم.[11]
    أما الصنف الآخر وهم أهل السنة وعلى رأسهم الغزالي قال: إن السبب مؤثر في الحكم لكن لا بذاته بل بجعل الله تعالى هو المؤثر في الأحكام بواسطة تلك الأسباب وليس المراد ما يقوله المعتزلة من أن الله تعالى خلق قوة في هذه الأسباب يكون بها التأثير، بل المراد أن الله ربط بين المسببات والأسباب ربطا عاديا بحيث إذا وجد السبب وجد عنده المسبب.[12]
    فالكلام حول هذا الموضوع يطول والمقام لا يتسع لكون هذه المسألة تتعلق بالمعتقد بين أهل السنة والمعتزلة في مسألة أفعال العباد, ومسألة التحسين والتقبيح فيحسن بنا أن ننتقل إلى المذهب الثاني القائلين بإنكار أن يكون للأحكام أسبابا أصلا.
    فأصحاب هذا المذهب قالوا: إن العلم بها إنما حصل من الأدلة صراحة أو دلالة بمعنى أنه إن كان الحكم المنصوص عليه ثبت بظاهر النص وصريحه وإن كان في غير المنصوص عليه تعلق بالوصف الذي جعل علة ويكون ذلك أمارة لثبوت الحكم في الفرع، وأما ثبوته فإنما حصل من الأدلة.[13]
    فهم يرون أن السبب علامة وأمارة على الحكم فهو معرف له، بحيث إذا وجد توجه الخطاب إلى المكلف دون أن يكون هذا المعنى المنضبط مؤثرا في الحكم، بل المؤثر فيه هو الله وحقيقة ذلك إنكار أن يكون للحكم سبب، فدلوك الشمس مثلا: معرف لإيجاب الصلاة بمعنى أننا متى رأينا الدلوك علمنا أن الله تعالى أوجب الصلاة، دون أن يكون للدلوك تأثير في إيجاب الصلاة, بل المؤثر هو الله تعالى, والزنا معرف لإيجاب الحد دون أن يكون للزنا تأثير في إيجاب الحد بل المؤثر هو الله تعالى, والقتل العمد معرف لإيجاب القصاص بمعنى أننا متى رأينا شخصا قتل شخصا عمدا عدوانا علمنا أن الله أو جب على الحاكم أن يقتص من القاتل دون أن يكون للقتل العمد العدوان تأثير في إيجاب القصاص، بل المؤثر هو الله تعالى إلى غير ذلك من الأسباب فإنه يقال فيها ما يقال في هذه.[14]
    وقد صرح بحقيقة هذا المذهب ابن القيم حيث قال: بل عندهم [أي الجبرية] صدور الكائنات والأوامر والنواهي عن محض المشيئة الواحدة التي رجحت مثلا على مثل بغير مرجح فعنها يصدر كل حادث، ويصدر مع الحادث حادث آخر مقترن به, اقترانا عاديا لا أن أحدهما سبب الآخر ولا مرتبط به، فأحدهما مجرد علامة وأمارة على وجود الآخر فإذا وجد أحد المقترنين وجد الآخر معه بطريق الاقتران العادي فقط لا بطريق التسبب والاقتضاء.[15]
    وإلى هذا الرأي ذهب بعض الأشاعرة كالبيضاوي القائل فإن أريد بالسببية الإعلام فحق، ومعنى هذا أنه إذا أريد بالسببية التعريف والأمارة فهو حق لا شيء فيه إذ لا مانع من أن يجعل الله شيئا علامة وأمارة على حكم شيء آخر، وتابع الأسنوي أيضا البيضاوي فقال:"إن أريد أن يجعل الشرع الزنا سببا لإيجاب الحد هو كونه إعلاما ومعرفا له فهو حق لا نزاع فيه فإنه يجوز أن يقول الشارع متى رأينا إنسانا يزني فاعلم أني أوجبت عليه الحد".
    وذهب بعض الحنابلة إلى هذا، ولهذا ورد في مسودة آل تيمية:"قد أطلق غير واحد من أصحابنا القاضي أبي يعلى وأبو الخطاب محفوظ الكلوذاني وابن عقيل والحلواني وغيرهم في غير موضع: أن علل الشرع إنما هي أمارات وعلامات نصبها الله أدلة على الأحكام فهي تجري مجرى الأسماء".[16]
    وقال ابن مفلح:"فعله وأمره لعلة وحكمة أو بهما ينكره كثير من أصحابنا كالقاضي وكثير من المالكية والشافعية وقاله الجهمية والأشعرية والظاهرية غيرهم".[17]
    واستدلوا لما ذهبوا إليه بما يأتي:
    الدليل الأول: كما أن الله سبحانه وتعالى مختص بصفة الإيجاب للأشياء المحسوسة والخلق لها فهو مختص أيضا بصفة الإيجاب للأحكام والشرع لها، فلو أضفنا الإيجاب للأحكام والشرع لها إلى الأسباب كان ذلك قطعا لها عن الله سبحانه، وذلك لا يجوز لكنه تعالى جعل بعض أوصاف النص علامة على الحكم في الفرع، كي يظهر للناس ومن هنا تسمي هذه الأوصاف أسبابا موجبة على طريق المجاز، حيث ظهور أحكام الله عندها.
    وأجيب عن ذلك بأنه لا يلزم من إضافة الإيجاب للأحكام إلى الأسباب قطعها الله سبحانه، إذ أننا لا نقول بأن الأسباب موجبة بذواتها، لأن الإيجاب لا يتصور إلا مفترض الطاعة، بل بمعنى أن يقال: إن الأسباب طريق إلى الحكم وموصلة إليه، وقد يظهر فيها معنى المناسبة لأحكامها وإضافة الحكم إلى السبب بالمعنى الذي قلناه لا يمنع من إضافته إلى غيره، ومن ذلك مثلا ما لو قتل إنسان آخر بسيف فإن القتل حصل حقيقة بالسيف, ولكنه لا يمنع ذلك من إضافته إلى القاتل حتى أنه يجب عليه القصاص، وكذلك الشبع والري يحصل حقيقة بالمطعم، والري يحصل حقيقة بالماء ومع ذلك لا يمنع من إضافتها إلى المطعم والساقي.[18]
    الدليل الثاني: أن الأحكام مضافة قطعا إلى إيجاب الله تعالى لأنه وحده شارع الشرائع إجماعا, فلو أضيفت الأحكام إلى أسباب أخر لزم توارد العلل المستقلة على معلول واحد واللازم ممتنع، فيمتنع الملزوم وهو إضافة الأحكام إلى الأسباب.[19]
    الدليل الثالث: لو أثبتنا الأسباب للأحكام ولم نقل بانفرادها في إيجاب الأحكام لزم من ذلك أن تكون مكملة في إيجاب الأحكام لقدرة ناقصة، والله سبحانه موصوف بالقدرة التامة، وإذا كان كذلك فلا يجوز أن يتعلق وجوب أحكامه بالأسباب حقيقة.[20]
    وأجيب عن الدليلين بما أجيب عن الأول، إذ أن ذلك يلزم أن لو قلنا إن الأسباب موجبة بذواتها ولسنا نقول بذلك بل نقول: إنها طريق إلى الحكم وموصلة إليه وقد يظهر فيها معنى المناسبة للحكم الذي دلت عليه.
    فقول هؤلاء مخالف لما تقدم من الإجماع على إثبات الأسباب للأحكام وقد علق عبد العزيز البخاري على هذا المذهب بقوله لمن أنكر جميع الأسباب وعطلها وأضاف الإيجاب إلى الله تعالى فقط، فقد خالف النص والإجماع وصار جبريا خارجا عن مذهب السنة والجماعة.[21]
    قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى:"منكروا الأسباب كجهم ومن وافقه وإلا فالسلف والأئمة متفقون على إثبات الأسباب والحكم خلقا وأمرا"، وقال أيضا:"وإنما يقول إنه علامة محضة طائفة من أهل الكلام الذين بنوا على قول جهم وقد يطلق ما يطلقونه طائفة من الفقهاء وجمهور من يطلق ذلك من الفقهاء يتناقضون، تارة يقولون بقول السلف والأئمة، وتارة يقولون بقول هؤلاء".[22]
    وجاء في مسودة آل تيمية بعد ذكر هذا المذهب:"وهذا الكلام غير صحيح على الإطلاق"، يقول ابن القيم في المدارج:"ومعلوم أن طي بساط الأسباب والعلل تعطيل للأمر والنهي والشرائع والحكم"، ويقول أيضا:"قال شيخنا[ابن تيمية]وهذا الأصل[إنكار الأسباب] مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف وأئمة الدين, بل ومخالف لصريح العقل والحس والمشاهدة"، ويقول أيضا:"وبالجملة فالقرآن من أوله إلى آخره يبطل هذا المذهب ويرده كما تبطله الفطر والعقول والحس".[23]
    وأما المذهب الثالث فقالوا بالتفصيل:وقال بهذا المذهب جمهور الأشعرية فقالوا بإثبات الأسباب للأحكام سوى العبادات يعني فالعقوبات وحقوق العباد لها أسباب يضاف وجوبها إليها وأما العبادات فلا تضاف إلا إلى إيجاب الله تعالى وخطابه،[24] واستدلوا لما ذهبوا إليه بما يأتي:
    الدليل الأول: أن العبادات قد وجبت لله تعالى على الخلوص ولم نعرف وجوبها إلا بالشرع فتضاف إلى إيجاب الله تعالى دون غيره من الأسباب، أما العقوبات فقد حصلت جزاء لأفعال محظورة صارت سببا فيها، والمعاملات حصلت بكسب العبد, ولهذا فإن كلا من العقوبات والمعاملات تضاف إلى ما حصلت به فيصير سببا فيها.
    الدليل الثاني: إذا نظرنا إلى العبادات وجدنا أن الواجب فيها شيء واحد وهو الفعل فقط ووجوبه بالخطاب إجماعا, فلا يمكن إضافته إلى شيء آخر ومن هنا قلنا بنفي الأسباب للعبادات, أما المعاملات والعقوبات فالواجب فيها شيئان, فالمعاملات يجب فيها أداء المال والفعل فيمكن إضافة وجوب أداء المال إلى السبب, وإضافة وجوب الفعل إلى الخطاب، والعقوبات يجب فيها الفعل على الولاة, فأما ما وجب على الجاني فيجوز إضافته إلى السبب، وأما ما وجب على الولاة فيضاف إلى الخطاب لتوجهه إليهم حيث قال الله:{فاقطعوا أيدهما}[المائدةآية39] وقال أيضا:{فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} وقال:{فاجلدوهم ثمانين جلدة}.[25][النورآية 2ــ و4]
    وعلى هذا فالعبادات المالية يجوز أن تضاف عندهم في جانبها المالي إلى الأسباب أيضا: وأجيب عن الدليلين بأن ذلك يلزم أن لو كانت إضافة الأحكام إلى الأسباب على سبيل التأثير للأسباب فيها وليس الأمر كذلك بل الله سبحانه هو المنفرد بإيجاب الأحكام وأما تلك الأسباب فإنما أضيفت إليها الأحكام وصارت واجبة بها بجعل الله لها كذلك وذلك تيسيرا تسهيلا على العباد, حيث يمكنهم التوصل بمعرفة هذه الأسباب الظاهرة إلى معرفة الأحكام وعلى هذا فلا يمتنع إضافة العبادات إلى الأسباب التي تعرفها.[26]
    يقول التفتازاني في هذا:"والجواب أنه لا كلام في أن شارع الشرائع هو الله تعالى وحده وأنه المنفرد بإيجاب الأحكام، إلا أنا نضيف ذلك إلى ما هو سبب في الظاهر بجعل الله تعالى والأحكام مترتبة عليها تيسيرا وتسهيلا على العباد، ليتوصلوا بذلك إلى معرفة الأحكام بمعرفة الأسباب الظاهرة على أنها أمارات وعلامات لا مؤثرات".[27]
    ثم إن هذا القول مخالف لما تقدم ذكره من العبادات التي أضيفت إلى الأسباب على طريق الإجماع، وقد علق عبد العزيز البخاري في كتابه كشف الأسرار على هذا المذهب بقوله:"ومن أنكر البعض وأقر البعض فلا وجه له أيضا, لأنه لما جاز بإضافة بعض الأحكام إلى الأسباب بالدليل, فلم لا يجوز أن يضاف سائرها إلى الأسباب أيضا بالدليل"[28].
    وما تقدم ذكره يظهر قوة أدلة الرأي الأول وضعف أدلة الرأي الثاني الثالث لما ورد عليها من مناقشات, وبه يتبين رجحان الرأي الأول, والله أعلم.
    فائدة نصب الأسباب أسبابا للأحكام:
    ففائدة نصب الأسباب أسبابا للأحكام كما أشار إلى ذلك مجموعة من أهل العلم, التيسير على العباد ليتوصلوا إلى معرفة الأحكام الشرعية بمعرفة الأسباب الظاهرة والاتقاء من تعطيل أكثر الوقائع عن الأحكام الشرعية, وذلك لعسر وقوف المكلفين على خطاب الشارع في كل واقعة من الوقائع ولا سيما بعد انقطاع الوحي، ولهذا اقتضت حكمة الله سبحانه إظهار خطابه للعباد بهذه الأمور المحسوسة وجعلها مقتضية لأحكامها لا بذاتها بل بجعله لها كذلك.[29]

    المبحث الثاني : تطبيقات أسباب الأحكام عند الفقهاء.

    أ ـ قسم العبادات:
    1ــ سبب وجوب الطهارة: اختلف في سبب وجوب الطهارة فقيل إن سبب وجوبها الصلاة, أي وجوب الصلاة أو إرادة الصلاة, وقيل إن سبب وجوبها الحدث.
    واستدل من قال بأن سبب وجوبها الصلاة بما يلي:
    الدليل الأول: قالوا إن الطهارة تضاف إلى الصلاة شرعا وعرفا، يقال طهارة الصلاة وتطهر للصلاة، والإضافة دليل السببية في الأصل[30]، ونوقش هذا الدليل بما يأتي:
    أن الطهارة شرط للصلاة بالاتفاق وكونها شرطا لها يقتضي تقدمها عليها، ضرورة تقدم الشرط على مشروطه, وبهذا يمتنع إضافتها إلى الصلاة لأن كونها مضافة إلى الصلاة وحكما لها يقتضي تأخرها عنها ولا يمكن اجتماع التقدم والتأخر وبهذا يتبين أن الصلاة ليست سببا لوجوب الطهارة.
    وأجيب بأن وجود الطهارة شرط لصحة الصلاة, لا لوجوبها وكونها شرطا لصحة الأداء لا يمتنع من إضافة وجوبها إلى وجوب الصلاة لتغايرهما, وبصحة هذه الإضافة تبين أن الصلاة سبب لوجوب الطهارة[31]، لو كان وجوب الطهارة مضافا إلى الصلاة ينبغي ألا يجوز الوضوء قبل دخول الوقت لما يلزم من تقديم الحكم على سببه وهو غير جائز.
    وأجيب بمنع الملازمة:"لأننا نقول وجوب الصلاة أو إرادتها سبب لوجوب الطهارة لا لشرعيتها, ووجوبها لا يثبت قبله, إلا أنه لما توضأ قبل الوقت ودام وصف الطهارة إلى حال الأداء, لا يجب عليه إعادة الوضوء لحصول الشرط كما إذا استقر ستر العورة أو استقبال القبلة قبل الوقت واستدام إلى حال الأداء, إذ الشرط يراعي وجوده لا وجوده قصدا.[32]
    الدليل الثاني: أن الطهارة تثبت بالصلاة فكانت متعلقة بها والتعلق دليل السببية يعني أنها تجب بوجوب الصلاة وتسقط بسقوطها ولهذا قال النسفي:"الطهارة تقوم بالصلاة حتى تجب بوجوبها وتسقط بسقوطها لأنها شرطها وما يكون شرطا للشيء يكون متعلقا به حتى بوجوبه ومثل باستقبال القبلة".
    ويوضح عبدالعزيز البخاري هذا قائلا:"تثبت الطهارة بالصلاة حتى وجبت بوجوبها وسقطت بسقوطها, وهذا التعلق دليل السببية والطهارة شرط للصلاة وما يكون شرطا للشيء وكان وجوبه بوجوب الأصل كاستقبال القبلة وستر العورة وطهارة الثوب في الصلاة فإن وجوبها متعلق بوجوب الصلاة.[33]
    وقد قال الله تعالى:{ إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ...}[المائدة الآية6]، وقد حصل الإجماع على أن المقصود في الآية إرادة الصلاة لا حقيقة القيام فتكون الطهارة واجبة بإرادة الصلاة لأنها شرطها وما كان شرطا للشيء كان متعلقا به والتعلق كما قدمنا دليل السببية فتكون إرادة الصلاة سببا في وجوب الطهارة.
    وأما من قال بأن سبب وجوب الطهارة الحدث, فاستدلوا بأن وجوبها يتكرر بتكرر الحدث كما تتكرر الصلاة يتكرر الوقت, والتكرر دليل السبب أما الصلاة لا يتكرر وجوب الطهارة بتكررها.[34]
    2ــ سبب وجوب الصلاة:
    السبب الحقيقي لوجوب الصلاة، إيجاب الله تعالى، وأما سبب وجوبها في الظاهر في حقنا هو الوقت والدليل على أن الوقت هو سبب وجوبها تعلقها به في قول الله تعالى:{أقم الصلاة لدلوك الشمس}[الإسراء الآية 78] فقد علق الأمر بإقامة الصلاة بوقت الدلوك بحرف اللام والتعليق باللام أقوى وجوه الدلالة على تعلق الصلاة بالوقت, لأن اللام للتعليل والاختصاص, كما يقال: تطهر للصلاة وتأهب للشتاء ويقال اتخذ فلان الضيافة لفلان, أي بسببه وخرج فلان لقدوم فلان يعني قدوم فلان سبب لخروجه.[35]
    ويقول السرخسي:"إنها تنسب إلى الوقت شرعا فيقال: فرض الوقت وصلاة الفجر والظهر وإنما يضاف الواجب إلى سببه"[36]. ومما يدل على أن الوقت سبب لوجوبها, الإجماع على إضافتها إلى الوقت فيقال صلاة الفجر وصلاة الظهر ونحوها.[37]
    وتقدم أن الأصل في إضافة الشيء إلى الشيء, أن يكون الشيء المضاف إليه سببا للمضاف ومما يدل أيضا على أن الوقت سبب لوجوبها, أن وجوبها يتكرر وتكرره لا يخلو الأمر فيه إما أن يكون سببه الخطاب أو الوقت, إذ ليس هنا سواهما، والخطاب لا يوجب التكرار, فثبت أن الوقت هو الموجب للتكرار فصار سببا لوجوبها.[38]
    وفي هذا يقول محمد صوفي بن أحمد في كتابه موسوعة القواعد الفقهية بعد شرحه للسبب:"ومنها سبب وجوب الصلاة الوقت, فلا يمكن أن تقع صلاة صحيحة قبل دخول وقتها".
    3ــ سبب وجوب الحج :
    قال أبو زيد عبد الله الدبوسي الحنفي في التقويم : أما الحج فسبب وجوبه: البيت دون الوقت، بدليل أنه لا يتكرر بتكرر الوقت، وإنما يجب مرة لأن السبب هو البيت وإنه لا يتجدد بتجدد الوقت، وكذلك يضاف إلى البيت فيقال: حج البيت قال الله تعالى:{ولله على الناس حج البيت}[آل عمران آية 97] إنما الوقت شرط عنده يجب كحين الإقامة في صوم المسافر، وفيه يؤدى كوقت الصلاة واليوم في حق الصوم والأداء.
    وأما الاستطاعة فصفة للعبد عندها يحل الوجوب به تيسيراً علينا لما في السفر بلا زاد ولا راحلة من المشقة، كالإقامة في باب الصوم وليس بصفة لما هو سبب من البيت فلا يجعل من السبب كالطهارة تجب للصلاة، ولا تجب إلا على المحدث فلم يكن الحدث سبباً للوجوب ولهذا قيل: إذا عجل العبد الحج قبل الاستطاعة أجزأه، فتفسير الاستطاعة ملك الزاد والراحلة، والأداء قبل ملكهما جائز لأن السبب قد وجد كما يجوز للمسافر أن يصوم قبل الإقامة لأن السبب وهو الشهر قد وجد، ولذلك لا يتجدد الوجوب بتجدد ملك الزاد والراحلة، ولا يضاف إليهما فصار تأويل الآية والله أعلم: ولله على الناس المستطيعين حج البيت حقاً للبيت، واجباً بسببه إذا جاء وقت الأداء.
    فإن قيل: إن وقت الحج أشهر الحج وهي شوال إلى العاشر من ذي الحجة، والأداء غير جائز لأول شوال فكيف يقال إنه شرط الأداء، وعلم أنه سبب الوجوب؟
    قلنا: قد ذكرنا أن امتناع جواز الأداء شرعاً في وقت يدل على أنه ليس بسبب للوجوب، ثم الجواب أن الأداء جائز في الوقت كله فإن من أحرم بالحج في رمضان وطاف بالبيت وسعى فيه ثم طاف طواف الزيارة فعليه أن يعيد السعي لأنه كان قبل الوقت، ولو طاف وسعى في شوال لم يكن عليه الإعادة لأنه كان في وقته إلا أن للحج أركاناً أخر ولكل ركن وقت على حدة، فلم يجز قبل وقته الخاص، كما لا يجوز طواف الزيارة قبل يوم عرفة وهو وقت أداء الركن الأعظم، ولا يجوز رمي اليوم الثاني في اليوم الأول ولا قبل الزوال، والسعي واجب غير مؤقت بوقت خاص فيؤدى في جميع وقت الحج.[39]
    ب ــ الأحوال الشخصية :
    1ــ مقدمات الزواج:
    فالشرع من كتاب وسنة اعتنى كثيرا بهذا الجانب الذي هو الزواج وما يتعلق به من مقدمات كالخطبة وغيرها من الأمور التي تبين وتعطي دراسة قويمة لكلا الطرفين وطباعهما وميولهما وغير ذلك.
    والسبب في عناية الشرع بهذه المقدمات:
    هو الحرص على إقامة الزواج على أمتن الأسس، وأقوى المبادئ، لتتحقق الغاية الطيبة منه، وهي الدوام والبقاء، وسعادة الأسرة، والاستقرار ومنع التصدع الداخلي، وحماية هذه الرابطة من النزاع والخلاف، لينشأ الأولاد في جو من الحب والألفة والود والسكينة واطمئنان كل طرف إلى الآخر[40]، قال الله تعالى:{ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة ورحمة، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون}.[الروم:21]
    فهذه المقاصد كلها كانت سببا في غاية الشرع بالزواج ومقدماته.
    2ــ السبب في جعل الطلاق بيد الرجل:
    فالطلاق قد أباحه الشرع الحنيف في غير ما نص سواء كتابا أو سنة، وجعله بيد الزوج لا بيد الزوج بالرغم من الشراكة التي تجمعهم في العقد حفاظاً على الزواج، وتقديراً لمخاطر إنهائه بنحو سريع غير متئد؛ لأن الرجل الذي دفع المهر وأنفق على الزوجة والبيت يكون عادة أكثر تقديراً لعواقب الأمور، وأبعد عن الطيش في تصرف يلحق به ضرراً كبيراً، فهو أولى من المرأة بإعطائه حق التطليق.
    والسبب في جعل الطلاق بيد الرجل يرجع إلى أمرين:
    الأول: إن المرأة غالباً أشد تأثراً بالعاطفة من الرجل، فإذا ملكت التطليق، فربما أوقعت الطلاق لأسباب بسيطة لا تستحق هدم الحياة الزوجية.
    الثاني: يستتبع الطلاق أموراً مالية من دفع مؤجل المهر، ونفقة العدة، والمتعة، وهذه التكاليف المالية من شأنها حمل الرجل على التروي في إيقاعه بسبب سرعة تأثرها وانفعالها.
    ثم إن المرأة قبلت الزواج على أن الطلاق بيد الرجل، وتستطيع أن تشرطه لنفسها إن رضي الرجل منذ بداية العقد، ولها أيضاً إن تضررت بالزوج أن تنهي الزواج بواسطة بذل شيء من مالها عن طريق الخلع، أو عن طريق فسخ القاضي الزواج بسبب مرض منفر، أو لسوء العشرة والإضرار، أو لغيبة الزوج أو حبسه، أو لعدم الإنفاق.[41] 3ــ سبب وجوب العدة: تجب العدة في الجملة بأحد أمرين: طلاق أو موت، والفسخ كالطلاق[42], وذلك بعد الدخول (الوطء) من زواج صحيح أو فاسد أو شبهة بالاتفاق، أو بعد استدخال ذكر زائد، أو أشل، أو إدخال مني الزوج؛ لأنه أقرب إلى العلوق من مجرد الإيلاج ولاحتياجها لتعرف براءة الرحم، أو بعد خلوة صحيحة عند الجمهور غير الشافعية. وتجب العدة أيضاً عند المالكية والحنابلة بعد الزنا كالموطوءة بشبهة، وبناء عليه تجب العدة بأحد الأسباب التالية:
    أ ـــ تجب العدة بالفرقة بعد الدخول من زواج صحيح أو فاسد، أو بعد الخلوة الصحيحة في رأي الجمهور غير الشافعية، سواء أكانت الفرقة في حال الحياة بسبب طلاق أو فسخ، أم بسبب الوفاة، فإن كان الزواج فاسداً كزواج الخامسة أو المعتدة، فلا تجب العدة إلا بالدخول الحقيقي، ولا تجب عند الجمهور بالخلوة. وأوجب المالكية العدة بالخلوة بعد زواج فاسد، كما تجب بالدخول الحقيقي؛ لأن الخلوة مظنّة الوقاع.
    ودليل الجمهور على وجوب العدة بالخلوة: ما روي عن زرارة ابن أوفى قال:{قضى الخلفاء الراشدون أن من أغلق باباً أو أرخى ستراً، فقد وجب المهر، ووجبت العدة}[43].
    ولا تجب العدة بالخلوة المجردة عن الوطء عند الشافعية في الجديد، لمفهوم الآية السابقة: {ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن، فما لكم عليهن من عدة تعتدونها}[الأحزاب آية 49].
    ب ـــ وتجب العدة أيضاً بالاتفاق بالتفريق للوطء بشبهة، كالموطوءة في زواج فاسد؛ لأن وطء الشبهة والزواج الفاسد كالوطء في الزواج الصحيح في شغل الرحم ولحوق النسب بالواطئ، فكان مثله فيما تحصل به براءة الرحم، كيلا تختلط الأنساب والمياه. ومثال الوطء بشبهة، أن تزف امرأة إلى غير زوجها، وتقول النساء للرجل، إنها زوجتك، فيدخل بها بناء على قولهن، ثم يتبين أنها ليست زوجته.
    ولا فرق في وجوب العدة بأحد السببين السابقين بين أن تكون الفرقة بسبب طلاق أو فسخ، فكل فرقة بين زوجين عدتها عدة الطلاق، سواء أكانت بخلع أم لعان أم رضاع أم فسخ بعيب أم إعسار أم اعتاق أم اختلاف دين أم غيره عند أكثر العلماء.
    ولا فرق أيضاً بين أن يكون الوطء حلالاً، أم حراماً كوطء حائض ومحرمة بحج أو عمرة، ولا بين أن يكون الوطء في قُبل، أو دبر على الأصح لدى الشافعية، والحكم واحد سواء أكان الواطئ عاقلاً أم لا، مختاراً أم لا، لفَّ على ذكره خرقة أو كيساً أم لا، بالغاً أم صبياً،ولا عدة قبل الدخول بنص القرآن والسنة.
    ج ـــ وتجب العدة كذلك بالاتفاق بعد وفاة الزوج في العقد الصحيح، ولو قبل الدخول أو الوطء أو كانت الزوجة صغيرة، أو زوجة صبي ولو رضيعاً أو زوجة ممسوح، لإطلاق الآيات القرآنية مثل:{والذين يتوفون منكم، ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً} [البقرة].
    د ـــ وأوجب المالكية والحنابلة خلافاً لغيرهم العدة على المزني بها كالموطوءة بشبهة؛ لأنه وطء يقتضي شغل الرحم، فوجبت العدة منه كوطء الشبهة.
    ولم يوجبها غير هؤلاء؛ لأن العدة لحفظ النسب، ولا يلحق الزاني نسب بالزنا.[44]
    ج ــ الحدود والعقوبات:
    أسباب وجوب الحدود والعقوبات: جرت عادت كثير من العلماء عند بيان هذا النوع أن يأتوا بكلمتين {الحدود والعقوبات}معا عطفا للعقوبات على الحدود، فيمكن أن يراد بالعقوبات؛ التعزيرات، فيكون العطف على أصله مقتضيا للمغايرة، وقيل إن ذكر العقوبات بعد الحدود من باب عطف البيان، إذ أن العقوبات هي الحدود ولا فرق بينهما في المعنى، فذكر العقوبات بعد الحدود للبيان والإيضاح، وقيل: إن العقوبات أعم من الحدود، إذ أنه يدخل فيها القصاص والجزية وغيرهما كالضمانات النفسية أو المالية، وليست بحدود فيكون ذكر العقوبات بعد الحدود من باب عطف العام على الخاص مثل قول الله تعالى:"تنزل الملائكة والروح" وهذا هو الأول لكونه يشمل ما ينبغي شموله في بحث أسباب هذا النوع، بل إن بعضهم يكتفي بذكر العقوبات أو المزا جر، دون أن يذكر الحدود وهو مسلك لاشيء فيه حيث إن العقوبات أو المزا جر تشمل الحدود كما قدمنا.[45]
    1ــ سبب حد الزنا:
    إن سبب حد الزنا هو ارتكاب جريمة الزنا، ولكن الفقهاء وضعوا ضوابط دقيقة لتحقق هذه الجريمة؛ لأن الحدود عموماً مبنية على الدرء والإسقاط، صيانة للمجتمع من سماع وقوع هذه الفاحشة، فضلاً عن انتشارها والخوض في مساوئها، فإذا لم تتوافر هذه الضوابط سقط الحد، ويجب التعزير أو المهر إذا كان الوطء بشبهة؛ لأن كل وطء حرام لا يخلو عن عَقر (أي عقوبة أو حد زاجر) أو عُقر (أي مهر جابر في حالة الشبهة).[46]
    2ـ مشروعية حد القدف وسبب وجوبه: القذف محرم من الكبائر، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال:{اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله، ما هن؟ قال: الشرك بالله عز وجل، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات} البخاري ومسلم .
    وحد القذف مشروع بقوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات، ثم لم يأتوا بأربعة شهداء، فاجلدوهم ثمانين جلدة، ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً، وأولئك هم الفاسقون} [ النور آية 4].
    سبب وجوبه: يجب الحد بسبب القذف بالزنا؛ لأنه نسبة إلى الزنا، تتضمن إلحاق العار بالمقذوف، فيجب الحد دفعاً للعار عنه، وصيانة لسمعته.[47]
    3ــ حد شرب الخمر:
    قال صاحب فصول البدائع: وَأَمَّا حَدُّ الشُّرْبِ فَسَبَبُ وُجُوبِهِ الشُّرْبُ وهو شُرْبُ الْخَمْرِ خَاصَّةً حتى يَجِبَ الْحَدُّ بِشُرْبِ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا وَلَا يَتَوَقَّفُ الْوُجُوبُ على حُصُولِ السُّكْرِ منها، وَحَدُّ السُّكْرِ سَبَبُ وُجُوبِهِ السُّكْرُ الْحَاصِلُ بِشُرْبِ ما سِوَى الْخَمْرِ من الْأَشْرِبَةِ الْمَعْهُودَةِ الْمُسْكِرَةِ كَالسُّكَّرِ وَنَقِيعِ الزَّبِيبِ وَالْمَطْبُوخِ أَدْنَى طَبْخَةٍ من عَصِيرِ الْعِنَبِ أو التَّمْرِ وَالْمُثَلَّثِ وَنَحْوِ ذلك، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
    4ــ حد السرقة : فسبب وجوبه السرقة[48].
    د ــ المعاملات المالية :
    1ــ سبب تحريم الربا: فلقد عقد لها أبو حفص سراج الدين الحنبلي في كتابه اللباب في علوم الكتاب فصلا فقال: فصل في تحريم الربا، ذكروا في سبب تحريم الربا وجوها :
    أحدها: أنه يُفضي إلى أخد الإنسان مال غيره من غير عوضٍ؛ لأنه إذا باع الدِّرهم بالدرهمين نقداً أو نسيئةً، فقد حصل له زيادة درهم من غير عوض ومال الإنسان له حرمةٌ عظيمةٌ، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم:{حُرْمَةُ مَالِ المسلمِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ}؛ فكان أخذ ماله بغير عوض محرَّماً.
    وثانيها: أنَّ الرِّبا يمنع النَّاس عن الاشتغال بالمكاسب؛ لأنه إذا حصَّل الدرهم بالربا، فلا يكاد يحتمل مشقَّة التَّكسُّب بالتجارة، والصناعة، فيفضي إلى انقطاع منافع الخلق، ومن المعلوم أنَّ مصالح العالم لا تنتظم إلاَّ بالتجارات، والعمارات، والحرف، والصِّناعات.
    وثالثها: أنَّ الربا يفضي إلى انقطاع المعروف بين الناس من القرض؛ لأن الرِّبا إذا حرم، طابت النفوس بقرض الدرهم، واسترجاع مثله، ولو حلَّ الربا، لكانت حاجة المحتاج تحمله حاجته على أخذ الدرهم بالدرهمين، فيفضي ذلك إلى قطع المواساة، والمعروف، والإحسان.
    ورابعها : أنَّ الغالب أنَّ المقرض يكون غنيّاً، والمستقرض يكون فقيراً، فالقول بتجويز الرِّبا تمكينٌ للغني من أن يأخذ من الفقير الضَّعيف مالاً زائداً، وهو غير جائزٍ برحمة الرَّحيم.
    وخامسها: أنَّه غير معقولٍ المعنى[49].
    2ــ أسباب ضمان الوديعة:
    فأسباب ضمان الوديعة ترجع كلها إلى التفريط في حفظها أو التعدي عليها وتفصيلها كالآتي:
    1ــ التسبب بالتعدي عليها: التسبب بالتعدي على الوديعة يحصل بوجوه منها: سقوط شيء من يد من هي عنده عليها فتكسر، سواء عمدا أو خطئا، أورمي شيء يريد غيرها فيصيبها فتلفت، حيث أن الفعل المسبب في الإتلاف لم يأذن به صاحب الوديعة، فهو متعد به والخطأ لا يعفي من الضمان، فالخطأ والعمد في أموال الناس سواء.
    2ــ التسبب بالإغراء عليها: وذلك بكل ما يعد إغراء للظالم بالاعتداء على الوديعة، كأن يجعل الوديعة في مكان غير آمن ولم يضع عليها قفل مثلا وتركها مرئية أمام الناس، فذلك مما يعين السارق ويغريه على أخذها، أما إن فعل الأسباب كلها لحفظ الوديعة وتلفت فلا ضمان عليه.
    3ــ التسبب بالإهمال والنسيان : فهذا السبب قريب من الذي قبله، فمما يعد إهمالا في عرف اليوم؛ وهو ترك الوديعة داخل بيت أو داخل السيارة، ولم يضعها في محل الأمانات وسرقت فإنه يضمن لتفريطه لأنه بإمكانه حفظها وفرط.
    واختلف في النسيان، هل يعد تفريطا أم لا، قال: ابن وهب لاضمان عليه ن وقال غيره كابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون بوجوب الضمان لأن ذلك خيانة.
    4ــ التسبب بإيداعها عند الغير: فمن التسبب الذي يوجب الضمان على المودع ،أن يجعل المودع عند غيره فتهلك ؛لأن صاحب الوديعة ائتمنه هو ولم يأتمن غيره ، سواء في السفر أو الحضر،واستثنى الفقهاء من ذلك الابن والزوجة والخادم الذين اعتادوا حفظ ماله،فله أن يودع عندهم ولو من غير عذر[50].
    ثالثا: سبب منع بيوع العينة والآجال.
    فصور بيع العينة والآجال الممنوعة يرجع سبب منعها:
    أولا: إما إلى اجتماع بيع وسلف كأن يبيع شخص سلعتين بمائتي دينار إلى شهر, ثم يشتري واحدة منها نقدا فتبقى له على المشتري مائتين إلى شهر, مائة مقابل السلعة التي لم يرجعها, وهذا بيع, والمائة الأخرى صارت سلفا لأن السلعة التي كانت تقابلها رجعها البائع و دفع ثمنها نقدا فاجتمع بذلك البيع والسلف, وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وسلف.
    ثانيا: وإما إلى سلف جر نفعا كأن يبيع شخص سلعة بمائة إلى شهر ثم يشتريها بخمسين نقدا, لأن الأمر يؤل لأن السلعة رجعت إلى صاحبها الذي دفع خمسين ليأخذها عند الأجل مائة, وهو سلف جر نفعا, وقد صح عن عبد الله بن سلام وابن عباس رضي الله عنهما النهي عن قرض جر نفعا أو منفعة.[51]
    والقاعدة أن القرض والضمان والجاه هذه الثلاثة لا تكون إلا لله ولا يجوز أخذ عوض أو منفعة.[52]


    [1] كشف الأسرار / فصول البدائع ص 240 / السبب عند الأصوليين ص 190

    [2] كشف الأسرار ص 339 / شرح التلويح على التوضيح

    [3] أصول البزدوي ص 345 / و شارحه البخاري ص 342

    [4] البزدوي ص 346

    [5] كشف الأسرار

    [6] مدارج السالكين لابن القيم ص462

    [7] مجموع الفتاوى ص 485 / ابن القيم في مدارج السالكين

    [8] أصول الفقه لابن مفلح ص 155

    [9] مدارج السالكين ص 1045

    [10] نفس المصدر السابق ص 1041

    [11] السبب عند الأصوليين للربيعة ص 196

    [12] أصول السرخسي ص 302/ فصول البدائع ص 246/ النسفي ص 309

    [13] كشف الأسرار ص 660 / التلويح ص141

    [14] السبب عند الأصوليين للربيعة ص204

    [15] مدارج السالكين ص 1111

    [16] المسودة في أصول الفقه لآل تيمية ص 345

    [17] أصول الفقه لابن مفلح ص 150 ـ 151

    [18] كشف الأسرار ص 341

    [19] شرح التلويح على التوضيح ص 294

    [20] كشف الأسرار ص 340

    [21] نفس المصدر

    [22] مجموع الفتوى ص 385 ج 8

    [23] مدارج السالكين ص 1111 ـ1112

    [24] كشف الأسرار ص 340ـ 341

    [25] كشف السرار ص 340 / التلويح على التوضيح ص141ج2

    [26] التفتازاني في التلويح ص141ج2

    [27] شرح التلويح على التوضيح ص 294 ج 2

    [28] كشف الأسرار ج 2 ص 341

    [29] شرح مختصر الروضة ص 413 ج 1/ البزدوي ص 345 / الآمدي في الفروق / ابن قدامه في الروضة

    [30] كشف الأسرار ص 355 ـ 356 / أصول البزدوي ص 350

    [31] فصول البدائع / كشف الأسرار ص 356

    [32] المصادر السابقة

    [33] كشف الأسرار ص 356

    [34] السبب عند الأصوليين ص 260 / كشف الأسرار على البزدوي

    [35] أصول السرخسي ص 102/ البزدوي 347 / كشف الأسرار

    [36] أصول السرخسي ص 103

    [37] البزدوي وشارحه البخري ص 347

    [38] المصادر السابقة

    [39] تقويم الأدلة ص 67 بتصرف

    [40] الفقه الإسلامي وأدلته ص3 ج9

    [41] المصدر السابق ص 338ــ 339.

    [42] الفقه الإسلامي وأدلته ص593ج9 ينظر فصول البدائع ص 191ــــ 192 والدر المختار .

    [43] مُصنف ابن أبي شيبة ج4 ص 235

    [44] الفقه الإسلامي للزحيلي بتصرف.

    [45] السبب عند الأصوليين ص 263ــ ينظر فصول البدائع ص 370.

    [46] الزحيلي ص 293 ج 7.

    [47] البدائع ص40 الفقه الإسلامي للزحيلي ص337ج 7

    [48] بدائع الصنائع ص 39ج7

    [49] اللباب في علوم الكتاب ص 449

    [50] مدونة الفقه المالكي وأدلته 23 ــ24ـ ج4

    [51] السنن الكبرى

    [52] مدونة الفقه المالكي وأدلته للغرياني ص383ج3

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    13,785

    افتراضي

    بحث ماتع نافع ، نفع الله بكاتبه وناقله .
    لكن في حكاية الخلاف بين المعتزلة وأهل السنة في كون السبب مؤثرا بذاته أم لا ، أمر قد يتعقب عليه في جعل المعتزلة في مقابل أهل السنة ، ثم النقل عن الغزالي وأنه من أهل السنة مع أنه أشعري كما هو معلوم ، وليس التعقيب على مقابلة المعتزلة بأهل السنة بل لجعله الغزالي منهم مع أنه تأثر بالمعتزلة وأهل الكلام وهو أشعري كما ذكرت آنفا ، وإن كان الأشعرية كمذهب داخل في أهل السنة إذا قارنا بين السنة والشيعة بل باعتبار هذا يدخل المعتزلة كذلك ، فلم أدخل الغزالي ولم يدخل المعتزلة بهذا الاعتبار ، ولم لم يكثر النقل في المسألة عن أهل السنة ، هل لقلة من كلم منهم فيها أم ماذا ؟
    أرجو أن أكون قد أوضحت الأمر جيدا وفُهم على وجهه الذي أردته.

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •