كنتُ أسير في السوق لأبتاع ما كتبتُه على ورقة؛ حتى لا أحيد عنه وأُحمّل عربتي بكل ما يبرق ويلمع, ولكن لا بأس بتأمل بعض أنواع المنتجات والموازنة بين الأسعار وأخذ فكرة كافية قد تُعين على تحديد الأنفع والأكثر نفعًا وهكذا..
دلفتُ إلى المكان المخصص لأنواع الحلوى على سبيل المشاهدة؛ فمعظمها لا يروقني ولا يجذبني إلا ألوان الأغلفة وجمال التصميم, ثم لفتَ نظري وشدّ انتباهي حلوى خاصة على شكل فاكهة الموز...
دُهشتُ وتحيّرتُ وتنحيتُ جانبًا وأنا أعود خطوة للوراء .. أحقًا هي؟؟
نعم تلك الحلوى التي كان يبتاعها لي عمّي - رحمه الله وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة - وأنا دون السادسة.. لا شك في ذلك!
كنت أركض مسرعة لأفتح له الباب وأنا على يقين أني سأحصل عليها بمجرد رؤية وجهه الصبوح!
شردت بذهني أكثر وحلقت في سماء الذكريات، ما أجمل طعمها !, ولعله كان طعم الأيام وليس طعم الحلوى..
هل ذكرتُ ذلك لعمّي حين كبرت؟
هل تراني أحسنتُ شكره عليها وقد اسشتعرتُ طعمها في فمي عندما لمحتُها بعيني؟
هل أخبرتُه بمشاعري واعترفت بفضله علي؟
لماذا لا تتجلى الأفضال وتظهر المحبة بهذه الصورة الواضحة وذلك النقاء الصافي إلا عند فقد الأحبة؟
لقد تفننتْ الخنساء – رحمها الله – في وصف مشاعر الحزن على أخيها وفي إظهار فضائله والتحدث بجمال خلقه وكريم شمائله:
طويل النجاد رفيع العماد **** ساد عشيرته أمردا
إذا القوم مدوا بأيديهم **** إلى المجد مد إليه يدا
فنال الذي فوق أيديهم **** من المجد ثم مضى مصعدا
إلى آخر أبياتها التي تنطق بكل معاني الحب والحنين لأخيها, فهل تُراها أخبرتْه بما يكنه صدرها ويعتلج في قلبها؟
لو علم صخر بمحبة أخته له فلن تتغير أحواله بعد ذهابه إلى الدار الآخرة, لكنه كان سيسعد بها لا شك في حياته.
لو دري بحال أخته وسمع تلك القصائد التي تفيض حنانًا وتسيل وجدًا عليه لامتلأ قلبه غبطة ولفاضت نفسه أُنسًا؛ فما أشد تأثيرَ كلمات الشكر وعبارات التقدير!
لماذا تتهافتْ علينا أفضال الأحبة وتغزو عقولنا وقلوبنا بلا توقف بعد مماتهم وبعد أن يُحال بيننا وبين التواصل معهم؟
لماذا يأخذنا إليهم الحنين بعد أن كُنا فيهم زاهدين؟
تلك طبيعة النفس البشرية وهذا حالها!
وكم للذي حاز الغنى بعد فقده **** بكاء ومن حزن عليه طويل
كثيرًا ما أسمع ثناء على أموات، وذكرًا لأحوالهم وحسن خلقهم مع أهلهم وذويهم، وما كنتُ أرى منها شيئًا ولا أشم لها رائحة حين كانوا بين أظهرهم يحيون وأمام أعينهم يسيرون..
"لقد كان يفعل ويفعل", "كانت خير معين", "كنت ألجأ إليه وقت شدتي", ... إلى آخر كلمات التحسّر التي لم يسمعها الفقيد ولم يدر عنها.
عاهدت نفسي أن أحاول ألا أكتم شكرًا ولا أنكر فضلا لمن حولي قبل أن يحول حائل بيني وبينهم وقبل أن أمضي وتمضي مشاعري معي..
أفقتُ من غفلتي, وعُدتُ من رحلتي على صوتِ بعض المارّة فلاحظتُ أن الحلوى ما زالت في يدي.. تركتها على الفور لعل أحدهم يبتاعها لابنة أخيه الصغيرة!