القاعدة السابعة والخمسون:قال الشيخ رحمه الله ((قوله: «وحرم رفع مصلى مفروش ما لم تحضر الصلاة»، يعني أن رفع المصلى الذي وضعه صاحبه ليصلي عليه ثم انصرف حرام، و «المصلى»: ما يصلى عليه، مثل: السجادة.
((درء المفاسد مقدم على جلب المصالح))([1])
وصورة المسألة: رجل وضع سجادته في الصف، وخرج من المسجد فلا يجوز أن ترفع هذا المصلى؛ التعليل: أن هذا المصلى نائب عن صاحبه، قائم مقامه، فكما أنك لا تقيم الرجل من مكانه فتجلس فيه، فكذلك لا ترفع مصلاه.
ومقتضى كلام المؤلف أنه يجوز أن يضع المصلى ويحجز المكان؛ لأنه لو كان وضع المصلى وحجز المكان حرامًا لوجب رفع المصلى، وإنكار المنكر، فلما جعل المؤلف للمصلى حرمة دل ذلك على أن وضعه جائز، وهذا هو المذهب.
ولكن الصحيح في هذه المسألة أن الحجز والخروج من المسجد لا يجوز، وأن للإنسان أن يرفع المصلى المفروش؛ لأن القاعدة: ((ما كان وضعه بغير حق فرفعه حق))، لكن لو خيفت المفسدة برفعه من عداوة أو بغضاء، أو ما أشبه ذلك، فلا يرفع ((لأن درأ المفاسد أولى من جلب المصالح))، وإذا علم الله من نيتك أنه لولا هذا المصلى المفروش لكنت في مكانه، فإن الله قد يثيبك ثواب المتقدمين؛ لأنك إنما تركت هذا المكان المتقدم من أجل العذر))اهـ([2]).
وقال الشيخ رحمه الله ((بيَّن المؤلف حكم الكتابة فقال: «وتسن مع أمانة العبد وكسبه»؛ أفادنا المؤلف أن الكتابة سنَّة إذا كان العبد أمينًا قادرًا على التكسب، فإن لم يكن أمينًا، بأن كان يخشى من عتقه أن يذهب إلى الكفار، ويكون معهم على المسلمين، أو خشي أنه إذا عتق سعى في الأرض فسادًا، فهنا لا تُسن الكتابة؛ لأنه ليس بأمين، ولأن العتق هنا يفضي إلى شر، ودرء المفاسد أولى من جلب المصالح))اهـ([3]).
تقييد قاعدة درء المفاسد مقدم على جلب المصالح:
قال الشيخ رحمه الله: ((وقوله: «وقبيعة السيف»؛ القبيعة ما يكون على رأس مقبض السيف، وهي مثل القبع، فيجوز أن تحلى هذه القبيعة بالفضة؛ لآثار وردت في ذلك بعضها مرفوع وبعضها موقوف؛ ولأن السيف من آلة الحرب، فيتحليته إغاظة للعدو، ولهذا جازت الخيلاء في الحرب، وجاز لباس الحرير في الحرب، وكل شيء يغيظ الكفار فإن الإنسان له فيه أجر، ومفسدة الكبر ولبس الحرير يقابلها مصلحة إغاظة الأعداء، قال الله تعالى: {وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة: 120]، وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح: 29]، فدل ذلك على أن إغاظة الكفار مرادة لله عز وجل، وأن فيها أجرًا.
قوله: «وحلية المنطقة»؛ والمنطقة ما يُشد به الوسط، فالعمال في الحرث، والاحتطاب يتخذون مناطق لتشدهم وتقويهم من وجه، وترفع ثيابهم من وجه آخر، فهذه المنطقة يجوز أن تُحلَّى بالفضة؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم فعلوا ذلك، وهذا مما يؤيد ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من أن التحلي بالفضة، الأصل فيه الجواز، ما لم يصل إلى حد الإسراف.
وقوله: «ونحوه»؛ أي: نحو ما ذكر.
قال في الروض: «كحلية الجوشن، والخوذة، والخف، والران، وحمائل السيف»؛ لأن هذا يشبه المنطقة، وإذا جاز ذلك في المنطقة فهذه مثلها، كما أن في ذلك إغاظة للكافرين؛ ومن هنا نأخذ أن قاعدة درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ليست على إطلاقها، بل يكون ذلك عند التساوي أو رجحان المفاسد، أما إذا رجحت المصالح فإنه تغتفر المفاسد بجانب تلك المصالح، ولهذا أجاز الشرع بعض المسائل الربوية من أجل المصلحة، مثل بيع العرايا))اهـ([4]).
وقال الشيخ رحمه الله: ((وجواز السلم هو القياس الصحيح الموافق للأصول خلافًا لمن قال: إن السلم على خلاف الأصول؛ لأنه بيع معدوم، والواقع أنه ليس بيع معدوم في الحقيقة؛ لأنه بيع موصوف في الذمة، أنا لم أبع عليك شيئًا معدومًا ليس في ملكي حتى يدخل في الجهالة والغرر، هذا موصوف في الذمة، وأيضًا القاعدة: ((أن كل ما ثبت بالشرع ليس مخالفًا للقياس))، بل كل قياس يخالف ما جاء به الشرع فهو قياس باطل، لكنه قد يخفى دخول ذلك في القياس على بعض الناس فيظنه مخالفًا للقياس، فالصواب أن السلم على وفق القياس؛ لأن فيه مصلحة للبائع وللمشتري، أما المشتري فمصلحته أنه يحصل على أكثر، وأما البائع فمصلحته أنه يتعجل له الثمن.
ونقول فيما ادعي أنه على خلاف القياس: إنه على وفق القياس، ونبين ذلك، أو نقول: خالف القياس لمصلحة راجحة، والمحظور الشرعي إذا قابلته مصلحة راجحة أرجح منه أصبح جائزًا بمقتضى تَرَجُّح المصلحة، وإذا كان الشرع يحرم الشيء لأن إثمه أكبر، فإنه يبيح الشيء إذا كانت مصلحته أكبر، ولهذا العبارة المشهورة (درء المفاسد أولى من جلب المصالح) هذه يجب أن تكون مقيدة بما إذا تساوت المفاسد والمصالح، أو غلب جانب المفاسد، وإلا فإنه قد يكون في بعض الأشياء مصلحة ومضرة فترجح المصلحة، فيحلل من أجل هذا الرجحان))اهـ([5]).
[1])) ذكرها الشيخ: (5/ 102)، (6/ 115)، (9/ 50)، (10/ 273)، (11/ 337).
[2])) ((الشرح الممتع)) (5/ 101، 102).
[3])) ((الشرح الممتع)) (11/ 337).
[4])) ((الشرح الممتع)) (6/ 113- 115).
[5])) ((الشرح الممتع)) (9/ 49، 50).