القاعدة الثامنة والعشرون:قال الشيخ رحمه الله: ((قوله: «ولضرورة»، هذا عائد على الحرير، أي: أو لُبْسه لضرورة، ومن الضَّرورة ألا يكون عنده ثوب غيره، ومن الضَّرورة أيضًا أن يكون عليه ثوب، ولكنه احتاج إلى لُبْسِهِ لدفع البرد، ومن الضَّرورة أيضًا أن يكون عليه ثوب لا يستر عورته لتمزُّقٍ فيه، فكلُّ ما دعت إليه الضَّرورة جاز لُبْسُهُ.
((المحرَّم لا تبيحه إلا الضرورة))([1])
قوله: «أو حِكَّةٍ»، أي: أنه إذا كان فيه حِكَّة جاز لُبْسه، والحكمة: أن الحرير لنعومته ولينه يطفئ الالتهاب من الحِكَّة فلهذا أجازه الشَّارع، فقد رَخَّصَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بنِ عَوف والزُّبير رضي الله عنهما أن يلبسا الحرير من حِكَّة كانت بهما؛ فالحِكَّة إذًا تُبيح لُبْس الحرير.
فإذا قال قائل: لدينا قاعدة شرعية وهي: (أن المحرَّم لا تُبيحه إلا الضَّرورة)، وهنا الحِكَّة هل هي ضرورة؟
فالجواب: أنها قد تكون ضرورة؛ فأحيانًا يُبتلى الإنسان بحِكَّة عظيمة لا تجعله يستقر))اهـ([2]).
[1])) ذكرها الشيخ (2/ 214، 215)، (5/ 72).
[2])) ((الشرح الممتع)) (2/ 214، 215).
القاعدة التاسعة والعشرون:قال العلامة ابن القيم رحمه الله: ((ولما كان النظر مِنْ أقرب الوسائل إلى المحرم اقتضت الشريعة تحريمه وأباحته في موضع الحاجة؛ وهذا شأن كل ما حرم تحريم الوسائل فإنه يُباح للمصلحة الراجحة؛ كما حرمت الصلاة في أوقات النهي لئلا تكون وسيلة إلى التشبه بالكفار في سجودهم للشمس أبيحت للمصلحة الراجحة كقضاء الفوائت وصلاة الجنازة وفعل ذوات الأسباب على الصحيح))اهـ([2]).
((ما حُرِّمَ تحريم الوسائل أباحته الحاجة))([1])
وقال العلامة ابن القيم – أيضًا – رحمه الله: ((قال الله تعالى {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} الآية؛ فلما كان غض البصر أصلًا لحفظ الفرج بدأ بذكره، ولما كان تحريمه تحريم الوسائل فيباح للمصلحة الراجحة ويحرم إذا خيف منه الفساد ولم يعارضه مصلحة أرجح مِنْ تلك المفسدة، لم يأمر سبحانه بغضه مطلقًا؛ بل أمر بالغض منه، وأما حفظ الفرج فواجب بكل حال لا يُباح إلا بحقه؛ فلذلك عم الأمر بحفظه))اهـ([3]).
وقال العلامة ابن القيم – أيضًا – رحمه الله: ((وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى أن يُقرب طِيبًا، أو يُمس به، تناول ذلك الرأسَ والبدنَ والثيابَ، وأما شمه مِنْ غير مَسٍّ فإنما حرمه مَنْ حرمه بالقياس، وإلا فلفظ النهي لا يتناوله بصريحه ولا إجماع معلوم فيه يجب المصير إليه، ولكن تحريمه مِنْ باب تحريم الوسائل؛ فإنَّ شمه يدعو إلى ملامسته في البدن والثياب؛ كما يحرم النظر إلى الأجنبية؛ لأنه وسيلة إلى غيره، وما حرم تحريم الوسائل فإنه يباح للحاجة، أو المصلحة الراجحة، كما يباح النظر إلى الأمة المستامة، والمخطوبة، ومن شهد عليها، أو يعاملها، أو يَطُبُّهَا.
وعلى هذا، فإنما يُمنع المحرم مِنْ قصد شم الطيب للترفه واللذة، فأما إذا وصلت الرائحة إلى أنفه من غير قصد منه، أو شَمَّه قصدًا؛ لاستعلامه عند شرائه، لم يمنع منه، ولم يجب عليه سَدُّ أنفه، فالأول بمنزلة نظر الفجأة، والثاني: بمنزلة نظر المستام والخاطب))اهـ([4]).
وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: ((الحِكَّة تُبيح لُبْس الحرير؛ فإذا قال قائل: لدينا قاعدة شرعية؛ وهي: أن المحرَّم لا تُبيحه إلا الضَّرورة، وهنا الحِكَّة هل هي ضرورة؟
فالجواب: أنها قد تكون ضرورة، فأحيانًا يُبتلى الإنسان بحِكَّة عظيمة لا تجعله يستقر، وعلى هذا فلا إشكال.
لكن إذا كان لُبْسُه لحاجة فكيف يجوز ولا ضرورة؟ فالجواب: أن تحريم لُبْسِ الحرير من باب تحريم الوسائل؛ وذلك لأن الحريرَ نفسَه من اللباس الطيِّب ولِبَاس الزِّينة، ولكن لما كان مدعاة إلى تنعُّم الرَّجل كتنعُّم المرأة؛ بحيث يكون سببًا للفتنة؛ صار ذلك حرامًا، فتحريمه – إذًا - من باب تحريم الوسائل، وقد ذكر أهلُ العلم أن ما حُرِّمَ تحريم الوسائل أباحته الحاجة، وضربوا لذلك مثلًا بالعَرَايا، وهي بيع الرُّطب بالتَّمر، وبيع الرُّطب بالتَّمر حرام؛ لأن النبيَّ صلّى الله عليه وسلم لما سُئل عن بيع التمر بالرطب، قال: «أينقص الرُّطب إذا يَبسَ؟»، قالوا: نعم، فنهى عن ذلك؛ لأنه رِبَا؛ إذ إن الجهل بالتساوي كالعلم بالتَّفاضل، لكنَّ العَرَايا أُبيحت للحاجة، والحاجة هي أن الإنسانَ الفقيرَ الذي ليس عنده نقودٌ إذا كان عنده تمر، واحتاج إلى التَّفكُّة بالرُّطب، كما يتفكَّهُ النَّاسُ أباح له الشَّارع أن يشتري بالتَّمر رُطبًا على رؤوس النخل، بشرط ألا تزيد على خمسة أوسق، وأن يكون بالخَرْصِ؛ أي: أننا نَخْرِصُ الرُّطب لو كان تمرًا بحيث يساوي التَّمر الذي أبدلناه به.
فهذا شيء من الرِّبا، ولكن أُبيح للحاجة؛ لماذا؟ لأن تحريم رِبَا الفضل من باب تحريم الوسائل، بخلاف رِبَا النسيئة، فإن تحريم رِبَا النسيئة من باب تحريم المقاصد، ولهذا جاء في حديث أسامة بن زيد «لا رِبا إلا في النَّسيئة»، أو: «إنما الرِّبَا في النَّسيئة»، قال أهل العلم: المراد بهذا الرِّبَا الكاملُ المقصودُ، أما رِبَا الفضل فإنه وسيلة))اهـ([5]).
[1])) ذكرها الشيخ (2/ 215)، (8/ 420).
[2])) ((روضة المحبين ونزهة المشتاقين)) (95)، طـ دار الكتب العلمية.
[3])) ((روضة المحبين ونزهة المشتاقين)) (92).
[4])) ((زاد المعاد)) (2/ 223)، طـ الرسالة.
[5])) ((الشرح الممتع)) (2/ 215، 216).
أعانك الله على إتمام هذا العمل كما أعانك من قبل الأخ " حازم خنفر " على عمل " الحاشية العثيمينية على زاد المستقنع " ووضع فيها كل ما خالف في ابن العثيمين قول أبي النجا الحجاوي في الزاد وجمع بذلك 1950 مسألة فقهية .
فأسأل الله أن يُوَفِقك لإخراج هذه القواعد في كتاب ، حتى لو كان غير مطبوغ ولكن في شكل pdf محول عن ملف وورد ففيه إن شاء الله فوائد كثيرة.
القاعدة الثلاثون:قال الشيخ رحمه الله: ((مثال حمل النَّجَاسة: إذا تلطَّخ ثوبُه بنجاسةٍ، فهذا حامل لها في الواقع؛ لأنَّه يَحمِلُ ثوباً نجساً، وإذا جعل النَّجَاسة في قارورة في جيبه، فقد حَمَل نجاسة لا يُعفى عنها، وهذا يقع أحياناً في عصرنا فيما إذا أراد الإنسان أن يحلِّلَ البراز أو البول؛ فحَمَله في قارورة وهو يُصلِّي، فهذا صلاته لا تصحُّ؛ لأنَّه حَمَل نجاسة لا يُعفى عنها.
((النجاسة في معدنها لا حكم لها))([1])
فإن قال قائل: يَرِدُ عليكم على هذا التقرير ما ثَبَت عن النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم أنَّه حَمَل أُمَامة بنت زينب بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يُصلِّي والطِّفلة بطنها مملوء من النَّجَاسات، بل إن شاء أورد عليك أنك أنت تحمل النَّجاسة في بطنك، فما جوابك على هذا؟
أجاب العلماء على ذلك فقالوا: إنَّ النَّجاسة في معدنها لا حُكم لها، فلا تَنْجُسُ إلا بالانفصال، وما في بطن الإنسان لم ينفصل بعد، فلا حُكم له، وهذا الجواب صحيحٌ، ولهذا قال بعض العلماء: إن العَلَقَة في الرَّحم إذا استحالت إلى مُضغة، ثم إلى حيوان طاهر لم يصحَّ أن نقول: إن هذه طَهُرت بالاستحالة، وإن كان المعروف عند الفقهاء رحمهم الله أنهم يستثنون ـ مما يطهر بالاستحالة ـ العَلقَةَ تصير حيواناً طاهرًا، لكن بعض العلماء رَدَّ هذا الاستثناء وقال: إنَّ العَلقَة في معدِنها في الرَّحم ليس لها حُكم، فهي ليست بنجسة، ولا طاهرة، ولا حُكم لها، بناءً على هذه القاعدة، وهو أنَّ الشَّيءَ في معدنه لا حُكم له))اهـ([2]).
[1])) ذكرها الشيخ (2/ 226).
[2])) ((الشرح الممتع)) (2/ 225، 226).
القاعدة الحادية والثلاثون:قال الشيخ رحمه الله: ((قوله: «ولا تصحُّ الصَّلاةُ في مَقْبَرة»؛ نفيُ الصِّحَّة يقتضي الفساد؛ لأنَّ كلَّ عبادة إما أن تكون صحيحة، وإما أن تكون فاسدة، ولا واسطة بينهما، فهما نقيضان شرعاً، فإذا انتفت الصِّحَّة ثبت الفساد))اهـ([2]).
((نفي الصِّحَّة يقتضي الفساد))([1])
[1])) ذكرها الشيخ رحمه الله: (2/ 237)، (3/ 80).
[2])) ((الشرح الممتع)) (2/ 237).
القاعدة الثانية والثلاثون:قال الشيخ رحمه الله: ((بيع رجلين أقبلا إلى المسجد بعد الأذان فتبايعا وهما يمشيان إلى المسجد، فلا يصح بيعهما ما دام وقع بعد الأذان، ولو قبل الخطبة؛ لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9].
((النهي يقتضي الفساد))([1])
وقوله: «لا يصح البيع»؛ إذا قال قائل: ما الدليل على الفساد؟
قلنا الدليل: نهي الله عز وجل؛ لأن قوله {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]؛ يعني لا تبيعوا، والنهي يقتضي الفساد، هذه القاعدة التي دلت عليها سنة الرسول صلّى الله عليه وسلّم لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد»، وقال: «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط»، ولأننا لو صححنا ما نهى عنه الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم لكان في ذلك مضادة لله ورسوله؛ إذ إن النهي يقتضي البُعد عنه وعدم ممارسته، والتصحيح يستلزم ممارسة هذا الشيء ونفاذه، وهذا مضادة لله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم.
فإن قال قائل: لم لا تقولون هو حرام ولكنه صحيح، كما قلتم في تلقي الجَلَب؟
فالجواب: الفرق بينهما ظاهر.
أولًا: لأن حديث التلقي قال فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار»، فثبوت الخيار فرع عن صحة العقد، فيكون في الحديث دليل على أن العقد صحيح.
ثانياً: أن النهي عن التلقي ليس نهياً عن العقد لذاته، ولكن نهي عن العقد لحق الغير؛ حيث إنه ربما يكون فيه خديعة للقادم فيشتريه المتلقي بأقل، ولهذا جعل الحق له في إمضاء البيع أو فسخه.
وأما مسألتنا فإن النهي عن البيع بعينه، وما نُهِي عنه بعينه لا يمكن أن نقول: إنه صحيح، سواء في العبادات أو في المعاملات؛ لأن تصحيحنا لما جاء فيه النهي بعينه إمضاء لهذا الشيء الذي نهى الشارع عنه؛ لأن الذي نهى الشارع عنه يريد منا أن نتركه ونتجنبه، فإذا حكمنا بصحته فهذا من باب المضادة لأمر الله سبحانه وتعالى.
وعلى هذا نقول: إن البيع بعد نداء الجمعة الثاني حرام وباطل أيضاً، وعليه فلا يترتب عليه آثار البيع؛ فلا يجوز للمشتري التصرف في المبيع؛ لأنه لم يملكه، ولا للبائع أن يتصرف في الثمن المعين؛ لأنه لم يملكه، وهذه مسألة خطيرة؛ لأن بعض الناس ربما يتبايعون بعد نداء الجمعة الثاني ثم يأخذونه على أنه ملك لهم))اهـ([2]).
[1])) ذكرها الشيخ رحمه الله: (1/ 44)، (7/ 434)، (8/ 189)، (8/ 205)، (9/ 21).
[2])) ((الشرح الممتع)) (8/ 189).
القاعدة الثالثة والثلاثون:قال الشيخ رحمه الله: ((فإن قال قائل: قوله: «صَلُّوا في مرابض الغنم» أمرٌ، والأمر للوجوب، فهل هذا يقتضي أن أبحث عن مرابض غنم لأُصَلِّيَ فيها؟
((الأمر بعد الحظر للإباحة))([1])
فالجواب: لا؛ فإن الأمر هنا للإباحة؛ لأنه في مقابل النهي عن الصَّلاة في معاطن الإبل، ولهذا قال العلماء إن الأمر بعد الحظر للإباحة، فلما كان يُتوهَّم أنه لما نُهي عن الصَّلاة في أعطان الإبل أنَّه يُنهى كذلك عن الصَّلاة في مرابض الغنم، قال: «صَلُّوا في مرابض الغنم»، كأنه قال: لا تُصلُّوا في أعطان الإبل، ولكم أن تُصلُّوا في مرابض الغنم))اهـ([2]).
تنبيه:
اختلف الأصوليون هل الأمر بعد الحظر يفيد الإباحة، أم أنه يرفع النهي السَّابقَ ويعود الحكمُ الشرعيُّ إلَى ما كان قبل النهي فَإِنْ كان مباحًا كان الأمر للإباحة، أو مستحبًّا كان الأمر للستحباب، أو واجبًا كان الأمر للوجوب؟
قلت: والصواب – والله أعلم – هو الثاني؛ وهو أنه يرفع النهي ويعود الحكم إلى ما كان قبل النهي.
قال ابن كثير رحمه الله: ((وقوله: {وإذا حللتم فاصطادوا}؛ أي: إذا فرغتم من إحرامكم وأحللتم منه، فقد أبحنا لكم ما كان محرمًا عليكم في حال الإحرام من الصيد؛ وهذا أمر بعد الحظر، والصحيح الذي يثبت على السبر أنه يَرُدُّ الحكمَ إلى ما كان عليه قبل النهي، فإن كان واجبًا رده واجبًا، وإن كان مستحبًّا فمستحب، أو مباحًا فمباح؛ ومَن قال: إنه على الوجوب، ينتقض عليه بآيات كثيرة، ومن قال: إنه للإباحة، يَرِدُ عليه آيات أخر، والذي ينتظم الأدلة كلها هذا الذي ذكرناه، كما اختاره بعض علماء الأصول، والله أعلم))اهـ([3]).
وقال الشنقيطي رحمه الله: ((وبهذا تعلم أن التحقيق الذي دل عليه الاستقراء التام في القرآن أن الأمر بالشيء بعد تحريمه يدل على رجوعه إلى ما كان عليه قبل التحريم من إباحة أو وجوب؛ فالصيد قبل الإحرام كان جائزًا فَمُنِعَ للإحرام، ثم أَمَر به بعد الإحلال بقوله: {وإذا حللتم فاصطادوا}، فيرجع لما كان عليه قبل التحريم، وهو الجواز، وقتل المشركين كان واجبًا قبل دخول الأشهر الحرم، فَمُنِع من أجلها، ثم أَمَرَ به بعد انسلاخها في قوله: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم} الآية، فيرجع لما كان عليه قبل التحريم، وهو الوجوب.
وهذا هو الحق في هذه المسألة الأصولية))اهـ([4]).
قلت: وهو ما رجحه ابن عثيمين رحمه الله في منظومته في أصول الفقه، وفي شرحها.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في ((شرح منظومة الأصول)) (189- 191): ((قول الناظم: والأمرُ بعد النهيِ للحِلِّ*** وفي قولٍ لرفعِ النَّهي خُذْ به تَفِي.
لما ذكر أن الأمر يكون للوجوب ويكون للفور، ذكر الأمر الذي خرج عن هذه القاعدة؛ وهو الأمر الوارد بعد النهي؛ وفي هذا للعلماء قولان : فأكثر الأصوليين يقولون : إن الأمر بعد النهي للإباحة، ولا يعود إلى حكمه الأول الذي هو قبل النهي؛ لأن النهي ورد على الحكم الأول فنسخه، ثم رُفِع النهيُ بعد أن نسخ الحكم الأول، فعاد الأمرُ للإباحة.
وقيل: بل الأمر بعد النهي رفعٌ للنهي، فيُنظر فيما نُهي عنه ويرجع إلى أصله، فإن كان أصله الاستحباب كان مستحبًّا، وإن كان أصله الإباحة كان مباحاً.
قوله: (لرفع النهي): معناه : أنه إذا ورد الأمر بعد النهي فهو رفع، للنهي، وحينئذٍ يعود الحكم إلى ما كان عليه قبل النهي.
قوله: (خذ به تفي): أي: هذا أقرب؛ فنقول: إن الأمر بعد النهي يرفع النهي، ويعيد الحكم إلى ما كان عليه قبل وجود النهي.
فمن ذلك: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 9، 10] فالأمر بالانتشار في الأرض وطلب الرزق للإباحة على القول الأول، وعلى القول الثاني لرفع النهي؛ ومن المعلوم أن طلب الرزق مأمور به لسد حاجة الإنسان وحاجة من يمونه فيكون الأمر بذلك للندب.
ومن ذلك: الإذن للخاطب أن يرى من مخطوبته ما يدعو إلى نكاحها؛ فإنَّ الأصل تحريم نظر الرجل إلى المرأة. فهل الأمر بالنظر في قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «إذا خطب أحدكم امرأة فلينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها» للإباحة أو للاستحباب؟ ينبني على الخلاف.
ومن ذلك: قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]، فهذا ورد بعد النهي عن الصيد في حال الإحرام بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}، إلى قوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 1، 2].
فلما رفع النهي عن الاصطياد في حال الإحرام، وذلك بالإحلال، عاد الأمر إلى ما كان عليه من قبل، والاصطياد في الأصل مباح، فيكون للإباحة على القولين لأن الصيد من قسم المباح، ولم يقل أحد إن الإنسان إذا حَلَّ من إحرامه يجب عليه أن يذهب ويأخذ البندقية ويرمي الصيد، بل ولا قال أحد باستحبابه.
وهذا مما يدل على أن قول من قال : إن الأمر بعد النهي للوجوب، ليس له وجه.
وهذا الذي اخترناه في النظم هو الذي اختاره الغزالي رحمه الله في المستصفى))اهـ.
[1])) ذكرها الشيخ: (2/ 244)، (12/ 19).
[2])) ((الشرح الممتع)) (2/ 244).
[3])) ((تفسير ابن كثير)) (2/ 12).
[4])) ((أضواء البيان)) (1/ 327).
القاعدة الرابعة والثلاثون:قال الشيخ رحمه الله: ((لا تصحُّ الصلاة بدون استقبال القِبلة؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من عَمِل عملاً ليس عليه أمرُنا فهو رَدٌّ»، ولأن استقبال القبلة شرط، والقاعدة: أنه إذا تخلَّف الشرط تخلَّف المشروط، فلا تصحُّ الصَّلاة بدونه لهذه العِلَّة))اهـ([2]).
((إذا تخلَّف الشرط تخلَّف المشروط))([1])
[1])) ذكرها الشيخ: (2/ 262)، (4/ 243).
[2])) ((الشرح الممتع)) (2/ 262).
القاعدة الخامسة والثلاثون:قال الشيخ رحمه الله: ((ومن القواعد المقرَّرة عند أهل العلم المأخوذة من نصوص الكتاب والسُّنة: أنه لا واجبَ مع عَجزٍ، ولا محرَّمَ مع ضَرورة.
((لا واجبَ مع عَجزٍ، ولا محرَّمَ مع ضَرورة))([1])
ومن الأمثلة: حال اشتداد الحرب، فيسقط استقبال القِبْلة، مثل لو كانت الحرب فيها كَرٌّ وفَرٌّ؛ فإنه يسقط عنه استقبال القِبْلة في هذه الحال.
ومنها: لو هرب الإنسان من عدوٍ، أو من سيل، أو من حريق، أو من زلازل، أو ما أشبه ذلك، فإنه يسقط عنه استقبال القِبْلة))اهـ([2]).
[1])) ذكرها الشيخ: (2/ 263).
[2])) ((الشرح الممتع)) (2/ 262).
القاعدة االسادسة والثلاثون:قال الشيخ رحمه الله: ((وأما قولُهم بأنَّ أَمْرَ النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم الرجل الذي صَلَّى منفردًا خلفَ الصَّفِّ أن يعيدَ الصَّلاةَ، قضيةُ عَين .. إلخ. فجوابه: أنَّ الواجبَ حَمْلُ النَّصِّ على ظاهرِه المُتَبَادَر منه، إلا أنْ يَدلَّ دليلٌ على خِلافِهِ؛ والمُتَبَادَر هنا: أنَّ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم أَمَرَهُ بالإِعادةِ؛ لكونه صَلَّى منفردًا خلفَ الصَّفِّ؛ كما يفيده سياقُ الكلامِ، والأصلُ عدمُ ما سواه))اهـ([2]).
((الواجب حَمْلُ النص على ظاهرِه المُتَبَادَر منه، إلا أن يَدلَّ دليلٌ على خلافه))([1])
[1])) ذكرها الشيخ: (4/ 272).
[2])) ((الشرح الممتع)) (2/ 271، 272).
القاعدة السابعة والثلاثون:قال الشيخ رحمه الله: ((ومِن المعلومِ أن القاعدة الأصولية: أن ما وَرَدَ عن الشارع مطلقاً فإنَّه لا يجوز إدخال أيِّ قيدٍ مِن القيود عليه إلا بدليل؛ لأنه ليس لنا أن نقيِّد ما أطلقه الشرعُ، وهذه القاعدةُ تفيدك كثيرًا في مسائل؛ منها المسحُ على الخُفَّينِ، فقد أطلقَ الشارعُ المسحَ على الخُفَّينِ، ولم يشترط في الخُفِّ أن يكون مِن نوعٍ معيَّنٍ، ولا أن يكون سليماً مِن عيوبٍ ذكروا أنها مانعة مِن المسحِ كالخَرْق وما أشبهه، فالواجبُ علينا إطلاقُ ما أطلقَه الشرعُ؛ لأننا لسنا الذين نتحكَّمُ بالشرعِ، ولكن الشرعُ هو الذي يَحكمُ فينا، أمَّا أن نُدخِلَ قيودًا على أمْرٍ أطلقه الشرعُ فهذا لا شَكَّ أنه ليس مِن حَقِّنا، فلننظرْ إلى المسألة هنا، فقد قال النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّما جُعِلَ الإِمامُ ليؤتمَّ به، فإذا كبَّر فكبِّروا، وإذا ركعَ فاركعوا، وإذا سَجَدَ فاسجدوا، وإذا صَلَّى قائماً فصلُّوا قياماً، وإذا صلّى قاعدًا فصلُّوا قعودًا أجمعون»، هل هذه الأحكام التي جعلها الشارعُ في مسارٍ واحدٍ تختلفُ بين إمامِ الحيِّ وغيرِه أو لا؟
((ما وَرَدَ عن الشارع مطلقاً فإنَّه لا يجوز إدخال أيِّ قيدٍ مِن القيود عليه إلا بدليل))([1])
فهل نقولُ: إذا كبَّر إمام الحَيِّ فكبِّرْ، وإذا رَكَعَ فاركعْ، وإذا كَبَّرَ غيرُ إمامِ الحَيِّ فأنت بالخيارِ، وإذا رَكَعَ فأنت بالخيارِ؟
الجواب: لا، فالأحكامُ هذه كلُّها عامةٌ لإِمامِ الحَيِّ ولغيرِه، وعلى هذا يتبيَّنُ ضعفُ الشرطِ الأولِ الذي اشترطه المؤلِّفُ، وهو قوله: «إمام الحي»، ونقول: إذا صَلَّى الإِمامُ قاعدًا فنصلِّي قعودًا، سواء كان إمامَ الحَيِّ أم غيره، وقد قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «يَؤمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤهُمْ لِكِتَابِ اللهِ»، فإذا كان هذا الأقرأُ عاجزًا عن القيام، قلنا: أنت إمامُنا فَصَلِّ بنا، وإذا صَلَّى بنا قاعدًا فإننا نصلِّي خلفَه قُعودًا بأمرِه صلّى الله عليه وسلّم في كونه إمامَنا، وبأمره في كوننا نصلِّي قعودًا))اهـ([2]).
[1])) ذكرها الشيخ: (4/ 233).
[2])) ((الشرح الممتع)) (4/ 233، 234).
القاعدة الثامنة والثلاثون:قال الشيخ رحمه الله: ((ولدينا قاعدة مهمة وهي: كما أن الفعل سنَّة، فالترك مع وجود سبب الفعل سنَّة، مع أنه ترك وليس بفعل.
((كما أن الفعل سنة، فالترك مع وجود سبب الفعل سنة))([1])
ولهذا أمثلة؛ منها سُنِّيَّةُ السواك عند دخول المسجد.
فبعض العلماء قال: يُسنُّ له أن يتسوَّك عند دخول المسجد، وبنى ذلك على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا دخل بيته بدأ بالسواك، فقاسوا دخول المسجد على دخول البيت، وقالوا: إذا كان الإِنسان يتسوَّك إذا دخل بيته من أجل أن يقابل أهله بطهارة فم، فكذلك إذا دخل المسجد من أجل أن يناجي ربه بطهارة فم؛ فنقول: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يدخل المسجد ولم يُرْوَ عنه أنه كان إذا دخل المسجد بدأ بالسواك، ولو كان هذا سنَّة لفعله النبي صلّى الله عليه وسلّم، فالسنَّة أن لا يتسوَّك إذا دخل المسجد بناء على أن سبب سواكه دخول المسجد، أما لو كان إذا دخل المسجد سيصلي ركعتين فورًا، وأراد أن يتسوَّك من أجل الصلاة، لا من أجل دخول المسجد فإن هذا مشروع))اهـ([2]).
[1])) ذكرها الشيخ: (4/ 362).
[2])) ((الشرح الممتع)) (4/ 362).
جزاك الله خيرا شيخنا على ماتكتب وتنقل .
إذن الضرورة لاتعني بالضرورة هو خشية المسلم على نفسه الموت أو تلف أحد أعضاءه فقط .. فأحيانا الحاجة تنزل منزلة الضرورة ولو للشخص نفسه.
فمثلا لو قلنا لايلبس الحرير فهو سيكون في حالة يمكن أن نتصورها من غير أن نعبر عنها ... ويمكن أن نقيس على مثل هكذا حالة من الإنزعاج والأذى
فأحيانا المسلم يحصل له موقف إن لم يرتكب ماهو محرم حصل له أكثر من هذا .. كالخوف مثلا على نفسه أو ماله أو عائلته أو أحد أفراد أسرته
وإن قول ابن مسعود رضي الله عنه ما كلام يدرأ عني سوطين إلا كنت متكلما به .وأكيد هو يقصد ماحرم من الكلام .. وهو رضي الله عنه يعتبر هذا إكراها
فنستفيد من هذا القول في مواقف وأحوال أعظم من السوطين !! يمكن تنزيلها منزلة الضرورة ... والله أعلم
هذا فهمي أعرضه عليك شيخنا المبارك .. وعليك توجيهي وبيان الخطأ إن كان فيه !
بارك الله فيك أخي الحبيب إبراهيم العليوي.
نعم، نص الأصوليون والفقهاء على أن الحاجة قد تنزل أحيانًا منزلة الضرورة؛ ولا يلزم من الضرورة الموت أو القطع؛ بل المشقة الشديدة تنزل منزلة الضرورة، ولكن الممنوع هو التوسع في ذلك؛ لأن الضرورة هي: ((حَالَةٌ تَطْرأُ عَلَى الْإِنْسَانِ بِحَيثُ لَوْ لَمْ تُرَاعَ وَقَعَ عَليِه ضَرَرٌ)).
القاعدة التاسعة والثلاثون:قال الشيخ رحمه الله: ((وهذه قاعدة مهمة: إذا جاءنا نص عام، ثم ورد تخصيصه فإنه يتقيد ـ أي التخصيص ـ بالصورة التي ورد بها النص فقط.
((إذا جاءنا نص عام، ثم ورد تخصيصه فإنه يتقيد بالصورة التي ورد بها النص فقط))([1])
مثلًا: وردت إباحة الدف في موضعه، فهل يمكن أن يقول قائل: إذًا جميع آلات العزف تباح في مثل هذه المناسبات قياساً على الدف؟
الجواب: لا يصح؛ لأن التخصيص إذا ورد يجب أن يكون في الصورة المعينة التي ورد بها، ولا يمكن أن تقاس بقية المعازف على الدف؛ لأنها أشد تأثيرًا من الدف؛ وذلك لأصواتها ورناتها، والنفوس تطرب بها أكثر مما تطرب بالدف))اهـ([2]).
[1])) ذكرها الشيخ: (12/ 351).
[2])) ((الشرح الممتع)) (12/ 351، 352).
ما هو الضابط الذي يجعلنا يقول " الضرورات تبيح المحظورات وهذه حاجة وليست ضرورة فلا يُباح لها المحظور " ومتى يقال " الضرورات تبيح المحظورات وهذه حاجة والحاجة تنزل منزلة الضرورة ؟ " ؟
إذ أن هاتين القاعدتين يلزم منهما لا محالة أحد أمرين :
إما اختفاء وجه التفرقة بين الضرورة والحاجة وأن كلتاهما واحد
وإما أن التقسيم على التحقيق أربعة مراتب: ضرورة، حاجة تنزل منزلة الضرورة، حاجة لا تنزل منزلة الضرورة، تحسينيات.
فأيهما الصواب ؟