بسم الله الرحمن الرحيم
هذا مقالٌ مفيد نُشر في مجلة " الأصالة " ( العدد 41 ) في الرد على واحدة من دعاوى العصرانيين ؛ وهي زعمهم أن أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ، لا يُحتج بها في الشؤون الطبية ! معممين قوله صلى الله عليه وسلم : " أنتم أعلم بأمور دينكم " ، على مسائل كثيرة لم تقبلها عقولهم ، أو لم تتلاءم بزعمهم مع العصر ، أخرجوها من مجال التشريع ؛ للشبهة السابقة ، التي أجاب عنها الشيخ سليم . وقد أحببتُ نقله ؛ لينتشر ويُستفاد منه في الرد على شبهتهم السابقة .
مدى الاحتجاج بالأحاديث النبوية
في الشؤون الطبية والعلاجية
للشيخ سليم بن عيد الهلالي
*
اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:
الأول: من جعل جميع أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم حجة شرعية على العباد إن ثبتت.
الآخر: من جعل أقواله وهديه حجة في ما كان متصلاً بأمور الدين -حسب- ؛كالإيمان ؛ بالله وأسمائه وصفاته، والإيمان بالملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر, والأحاديث المبينة لأحكام الحلال والحرام والفرائض والتعبدات والمعاملات وغيرها من أمور الدين والشريعة.
أما الأمور الدنيوية؛ فلا يلزم أن تكون اعتقاداته وأقواله فيها مطابقة للواقع؛ لأنه لا صلة لهذا الأمر بمقام النبوة.
بل قد يقع الخطأ في ذلك الاعتقاد قليلاً أو كثيراً ، بل قد يصيب غيره حيث لا يصيب هو صلى الله عليه وسلم.
وزعموا: أن هذا القول ليس فيه حط من منصب النبوة الذي أكرمه الله به؛ لأنه منصب يدور على العلم بالأمور الدينية.
قال ابن خلدون في "المقدمة" ( ص493 ) : " الطب المنقول في الشرعيات من هذا القبيل ، وليس من الوحي في شيء، وإنما هو أمر كان عادياً للعرب، ووقع في ذكر أحوال النبي صلى الله عليه وسلم من نوع ذكر أحواله التي هي عادة وجبلة *، لا من جهة أن ذلك مشروع على ذلك النحو من العمل، فإنه صلى الله عليه وسلم إنما بعث ليعلمنا الشرائع، ولم يُبعث لتعريف الطب ولا غيره من العاديات. وقد وقع له في شأن تلقيح النخل ما وقع، فقال: "أنتم أعلم بأمور دنياكم..."؛ فلا ينبغي أن يُحمل شيء من الطب الذي وقع في الأحاديث المنقولة على أنه مشروع، فليس هناك ما يدل عليه، اللهم إذا استعمل على جهة التبرك وصدق القصد الإيماني، فيكون له أثر عظيم النفع ، وليس ذلك في الطب المزاجي. "
*وقال القاضي عياض في "الشفا بتعريف حقوق المصطفى" (2 /183- 185) : " فصل: فأما أحواله صلى الله عليه وسلم في أمور الدنيا؛ فنحن نسبرها على أسلوبها المتقدم بالعقد والقول والفعل؛ أما العقد منها، فقد يعتقد في أمور الدنيا الشيء على وجه ويظهر خلافه، أو يكون منه على شك أو ظن بخلاف أمور الشرع .. - ثم ذكر حديث تأبير النخل - ثم قال : وهذا على ما قررناه فيما قاله من قبل نفسه في أمور الدنيا وظنه من أحوالها لا ما قاله من قبل نفسه واجتهاده في شرع شرعه وسنة سنها..فمثل هذا وأشباهه من أمور الدنيا التي لا مدخل فيها لعلم ديانة ، ولا اعتقادها ولا تعليمها ، يجوز عليه فيها ما ذكرناه، إذ ليس في هذا كله نقيصة ولا محطة، وإنما هي أمور اعتيادية يعرفها من جربها وجعلها همه وشغل نفسه بها، والنبي صلى الله عليه وسلم مشحون القلب بمعرفة الربوبية ، ملآن الجوانح بعلوم الشريعة، مقيد البال بمصالح الأمة الدينية والدنيوية، ولكن هذا إنما يكون في بعض الأمور ، ويجوز في النادر فيما سبيله التدقيق في حراسة الدنيا واستثمارها *، لا في الكثير المؤذن بالبله والغفلة.
وقد تواتر بالنقل عنه صلى الله عليه وسلم من المعرفة بأمور الدنيا ودقائق مصالحها وسياسة فرق أهلها ما هو معجز في البشر *، مما قد نبهنا عليه في باب معجزاته من هذا الكتاب ".
قلت: وكل من جاء بعدهما - غفر الله لهما- لا يخرج كلامه عن فحوى كلامهما أو استدلالهما، والجواب على ذلك من وجوه:
1- أن الطب النبوي صادر عن الوحي ومشكاة النبوة وكمال العقل، ومما يحتج به في هذا الباب قوله –تعالى *) وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى ( ؛ فإن قوله: ( وما ينطق عن الهوى ) عموم شامل بمقتضى اللغة لكل ما يخرج من فم النبي صلى الله عليه وسلم ، من القول سواء ما يتعلق بأمور الدين أو أمور الدنيا، فكل ذلك وحي أوحاه الله إليه لا مجال فيه لخطأ، ولا مدخل فيه لزلل؛ لقوله -تعالى-: ) *إن هو إلا وحي يوحى ) ،*وهذا مذهب المحدثين بعامة، ففي صحيح البخاري -مثلاً-: "باب السعوط"، "باب أي ساعة يحتجم"،"باب الحجامة في السفر"، و"باب الحجامة من الشقيقة والصداع"، وفي "السنن" -الأخرى- تجد كتباً مفردة عن الطب.
2- أن اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم ليس كاجتهاد المجتهدين؛ لأنه لا يُقر على خطأ ألبتة ؛ سواء أكان في أمور الدين أو الدنيا.
ولعل قائلاً يقول: إن كون السنة وحي من الله ينافي كون الرسول صلى الله عليه وسلم مجتهداً على قول القائلين بذلك.
والجواب: إن مسألة اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم مسألة أصولية خلافية.
ولكن جمهور الأصوليين ذهب إلى جواز وقوع ذلك منه صلى الله عليه وسلم عقلاً وشرعًا .
ولا يوجد ما ينفي ذلك إلا أفهامُ قوم قصُروا عن إدراك الحق؛ فلم يستطيعوا الجمع بين الحقائق الشرعية الصحيحة؛ لأن في المسألة نكتة لطيفة لم يقع عليها إلا المحققون في هذا الفن؛ وهي:
3- أن اجتهاده صلى الله عليه وسلم ينـزل منـزلة الوحي.
4-وبالتالي فإن اجتهاده صلى الله عليه وسلم ليس له حكم اجتهاد غيره.
*قال العلامة الشوكاني -رحمه الله- في "إرشاد الفحول" ( ص 256) راداً على قول من قال: إن الاجتهاد فيه صواب وخطأ،فأجاب -رحمه الله-: "فقد أجيب عنه بمنع كون اجتهاده يكون له حكم اجتهاد غيره؛ فإن ذلك إنما كان لازماً لاجتهاد غيره لعدم اقترانه لما اقترن به اجتهاده صلى الله عليه وسلم من الأمر باتباعه " .
وقال الشيخ علي بن سلطان محمد القاري في "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح " (1/237) : " ثم من قال بأنه -عليه الصلاة والسلام- كان مجتهداً، ينـزل اجتهاده منزلة الوحي؛ لأنه لا يخطىء، وإذا أخطأ ينبه عليه ، بخلاف غيره " .
ومن قبلهما الإمام الشاطبي فقد حقق المسألة تحقيقاً عميقاً ووثقها توثيقاً دقيقاً؛ فقال -رحمه الله- في "الموافقات" (4 /21 ) : "فإن الحديث: إما وحي من الله صرف، وإما اجتهاد من الرسول صلى الله عليه وسلم معتبر بوحي صحيح من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى كلا التقديرين لا يمكن فيه التناقض مع كتاب الله؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- ما ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى، وإذا فرع على القول بجواز الخطأ في حقه، فلا يقر عليه ألبتة، فلا بد من الرجوع إلى الصواب " .
قلت: هذا هو الحق اللباب والصواب العجاب؛ فإن الوقائع الصحيحة تؤكده، وبهذا القيد الدقيق تقيده؛ فإن الرسول اجتهد؛ كما في قصة أسارى بدر، وفي الإعراض عن الأعمى: عمرو بن أم مكتوم -رضي الله عنه-، وفي الإذن للمخلفين؛ فسرعان ما تنـزَّل الوحي يريه الحق حقاً ويرشده لاتباعه.
وبهذا يكون الخلاف بين الفريقين خلافاً لفظياً شكلياً؛ لأن النتيجة واحدة ، بحيث لا يُقر النبي صلى الله عليه وسلم على خطأ؛ لأنه مؤيد بالعصمة، وبذلك يكون أمر السنة؛ كما قال الشاطبي في "الموافقات" ( 4/80 ) : "كل ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من خبر؛ فهو كما أخبر، وهو حق وصدق، معتمد عليه فيما أخبر به وعنه ، سواء انبنى عليه في التكليف حكم أم لا، كما أنه إذا شرع حكماً أو أمر أو نهى؛ فهو كما قال -عليه الصلاة والسلام- لا يفرق في ذلك بين ما أخبره به الملك عن الله ، وبين ما نُفث في روعه وألقى في نفسه ، أو رآه رؤية كشف واطلاع على مغيب ، على وجه خارق للعادة ، أو كيف ما كان؛ فذلك معتبر يُحتج به ، وينبني عليه في الاعتقادات والأعمال جميعاً؛ لأنه صلى الله عليه وسلم مؤيد بالعصمة وما ينطق عن الهوى " .
قلت: وفي مسألة تأبير النخل شفاء للعي؛ فدونك تحقيقها:
أخرج الإمام مسلم ( 15/116- نووي )، وابن ماجه ( 2470 ) ، وأحمد ( 1/ 162) عن سماك: أنه سمع موسى بن طلحة بن عبيد الله يحدث عن أبيه قال: مررت مع النبي صلى الله عليه وسلم بقوم على رؤوس النخل، فقال: "ما يصنع هؤلاء ؟" قالوا: يلقحونه يجعلون الذكر في الأنثى فيلقح، قال: "ما أظن يغني ذلك شيئاً" فأخبروا بذلك، فتركوه، فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: "إن كان ينفعهم؛ فليصنعوه؛ فإني إنما ظننتُ ظناً؛ فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً؛ فخذوه؛ فإني لن أكذب على الله -عز وجل".
وأخرج مسلم (15 /117 ) من حديث رافع بن خديج قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يأبرون النخل، يقولون يلقحون النخل، فقال: "ما تصنعون"؟ قالوا: كنا نصنعه. قال : "لعلكم لو لم تفعلوا كان خيراً، فتركوه، فنفضت أو فنقصت. قال: فذكروا ذلك له، فقال: "إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم؛ فخذوا به وإذا أمرتكم بشيء من رأيي؛ فإنما أنا بشر".
قال عكرمة: أو نحو هذا. قال المَعْقِرِي : فَنَفَضَت ولم يشك.
وأخرج مسلم ( 15/117- نووي ) وابن ماجه ( 2471) وأحمد (6 / 123) عن حماد حدثنا ثابت عن مالك بن أنس، وهشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بقوم يلقحون، فقال: "لو لم تفعلوا؛ لصلح" فخرج شيصاً، فمر بهم، فقال: "ما لنخلكم؟" قالوا: قلتَ: كذا، قال: "أنتم أعلم بأمر دنياكم".
لقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن ظنه، وكذلك كان ظنه، فالخبر صدق قطعاً، أما بالنسبة لهم فلم يكن خبراً، وإنما كان ظناً؛ كما بينته الروايات الصحيحة؛ لذلك؛ فهو ليس من باب اجتهاده صلى الله عليه وسلم الذي يراه شرعاً؛ فهذا يجب العمل به، ومع ذلك؛ فلم يُقر الخطأ.
قال النووي - رحمه الله- في "شرح صحيح مسلم" ( 15/116-117 ): "…قال العلماء: قوله صلى الله عليه وسلم: "من رأيي"؛ أي: في أمر الدنيا ومعاشها لا على التشريع، فأما ما قاله باجتهاده صلى الله عليه وسلم ورآه شرعاً يجب العمل به وليس أبار النخل من هذا النوع بل من النوع المذكور قبله.
مع أن لفظة ( الرأي ) إنما أتى به عكرمة على المعنى؛ لقوله في آخر الحديث: قال عكرمة: أو نحو هذا، فلم يخبر بلفظ النبي محققا.قال العلماء: لم يكن هذا القول خبراً وإنما كان ظناً؛ كما بينه في هذه الروايات .. " .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" ( 18/ 12): "...وهو لم ينههم عن التلقيح، لكن هم غلطوا في ظنهم أنه نهاهم؛ كما غلط من غلط في ظنه أن الخيط الأبيض والخيط الأسود هوالحبل الأبيض والأسود".
5- الطب فعل من أفعال المكلفين، وإنما جاء الشرع الحنيف ليضبط أفعال المكلفين ويحكمها ببيان ما يوجبه الله منها وما يحرمه ، أوما يستحبه أو يكرهه أو يجيزه. وهذه هي الأحكام التكليفية الخمسة؛ فلا يخرج عنها أي فعل من أفعال المكلفين. ولذلك جاءت أحاديث تأمر بالتداوي، وأحاديث تصف بعض الأدوية، وأخرى تُحرم قسماً آخر...إلخ.
6- الله -سبحانه- أنزل الداء والدواء ، علمه من علمه وجهله من جهله، وما يتعلق بأمور الداء والدواء الموجودة في السنة النبوية؛ إنما هو بتعليم الله لرسوله صلى الله عليه وسلم : ) علمه شديد القوى( ؛ ولأن الرسول لم يتلق علماً من عند غير الله، إذاً لارتاب المبطلون ( وما كنت تتلوا من كتاب من قبله ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون ) .
7- أن الحقائق العلمية والطبية الواردة في السنة اشتملت على أدلة دامغة أيدها العلم الحديث، وأكدها الطب الجديد، مما يدل دلالة لا لبس فيها، ولا غموض يعتريها: أن الذي أوحاها لرسول الله صلى الله عليه وسلم هو رب العالمين -سبحانه وتعالى - . *والله الموفق ) .
شبهات عصرانية أخرى مع ردها
http://www.alkashf.net/shobhat/5/