تغليب المذكر على المؤنث في الخطاب القرآني
دراسة في شبهة تمييز الرجل على المرأة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد،
فإن الغزو الفكري الاستشراقي، قد تمحور في أيامنا على مسائل كان من أخطرها: التشكيك بمكانة المرأة في التشريع الإسلامي.
وقد زحف هذا التشويه من طرق عدّة منها: تغليب المذكر على المؤنث في القرآن الكريم. فرأوا فيه وشم عبودية، ونظرة دينية دونية متخلفة ، تجعل من الذكر الفحل متسلطا على المرأة الأنثى المستضعفة المغلوبة!
وإظهارا للحقيقة، ولجمال هذا الفن البلاغي العربي القرآني قمت بدراسة هذا الموضوع من خلال مبحثين:
المبحث الأول: الجانب النظري
المبحث الثاني: الجانب التطبيقي
وتحت كل مبحث عناوين تخدمه مدْرجة في فهرس المحتويات.
ملخص البحث
يدرس هذا البحث من خلال منهج وصْفِي تحليلي، علما من علوم القرآن، وفنا من فنون بلاغته، ألا وهو التغليب. والذي يتناوله البحث على وجه التحديد من هذا الفن هو: تغليب المذكر على المؤنث.
وطرْق هذا الموضوع ليس على عمومه، بل هو ضمن حدود الرد على شبهة يثيرها منتقدو القرآن الكريم، مدعين أنه ظلم المرأة، وعاملها معاملة دونية، وحط من كرامتها وقدرها، عندما غلب المذكر على المؤنث.
ولتستبين الطريق وتتضح المعابر إلى فهم كتاب الله كما ينبغي أن له أن يفهم، وكما ينبغي لنا أن نكون معه، وليأخذ كتابُ الله مكانه اللائق به، مهيمنا على التشريعات والكتب والفلسفات، شرعت في هذا البحث، على أمل المشاركة في دراسة هذا الزعم؛ من خلال التنظير لفلسفة تغليب المذكر في اللغة والقرآن الكريم. ثم من خلال ضرب أمثلة تطبيقية، أشرقت من خلالها بلاغة القرآن الكريم بما لا يدع مجالا للشك، وتعرى القول المنتقص لجلاله مما يُعتد به من الأدلة في ميدان البحث العلمي الجاد.
المبحث الأول: الجانب النظري
تمهيد:
أطلعنا سبحانه بخبر من غيبه، على أمر ما كان لنا لنعرفه بعلومنا الوضعية، واجتهاداتنا العقلية، إنه خلق البشرية من نفس واحدة، بعد أن خلق سبحانه منها زوجها، فقال في محكم كتابه: )هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍوَجَعَ لَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا (([1]). وإنما الذي وعيناه بعلومنا ما تلا مرحلة النفس الواحدة، وهو خلق الإنسان من الذكر والأنثى، وقد أطبقت الأديان السماوية على ما جاء في هذه الآية.
قال القرطبي: قال جمهور المفسرين: المراد بالنفس الواحدة آدم، "وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ": يعني حواء ([2]). وبقي تأثير الرجل هو الأول في إيجاد المرأة من النطفة ، فقد قال تعالى: )وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى . مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (([3]). وأصبحت صفة توريث الجنس: (ذكر و أنثى) عن طريق الأب، وليس عن طريق الأم من الحقائق العلمية البدهية في زماننا.
وكون المرأة خلقت من الرجل لا يعني التسرع بالقول ـ كما يحلو للبعض ـ : نظرة دينية قاتمة، كما لا يعني أنها من أملاكه! وإنما لحكمة ذكرها سبحانه في الآية الكريمة " لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا" (([4]). فبين عظم الحكمة التي هي في مصلحة المرأة ، فجعلها مأوى للرجل، يأوي إليها ويهدأ عندها، لتحط عنه التعب والنصب والشقاء، وليجد فيها الراحة والسعادة والرقة والرحمة والعاطفة والهناء، والحكيم لا يخرب بيته سكنه بيده، والرجل مهما استغنى عن أشياء إلا أنه لا يستغني عن سكنه ومأواه! وكان من الممكن أن يكون هذا لو أنها لم تكن مأوى وسكنا له كما أرادها الله!
ولما كانت اللغة مرآة لمقاصد الناس وأفكارهم، ووعاء لثقافاتهم ومرادهم، تشكلت في لغة العرب تلك القسمة اللغوية الثنائية: ( مذكر، مؤنث ) ، لمجرد التعبير عن انقسام الجنس انقساما حيويا طبيعيا إلى ذكر وأنثى. ودرج العرب على إطلاق جمع المذكر السالم على جمع من المفرد المذكر، وللجمع المختلط من الجنسين على سبيل تغليب المذكر ([5]) للاختصار أوالخفة أو الشهرة أو أسباب أخرى ـ سيأتي تفصيلهاـ بغير تفاضل في الحكم بين الجنسين؛ لأن مبنى التغليب: أن يجتمع شيئان لتناسب بينهما بوجه من الوجوه، فيرجح أحد المعلومين على الآخر، ويطلق عليهما ([6]).
يقول أبو البقاء الكفوي: ومدار التغليب على جعل بعض المفهومات تابعا لبعض، داخلا تحت حكمه في التعبير عنهما بعبارة مخصوصة للمغلب، بحسب الوضع الشخصي أو النوعي، ولا عبرة في الوحدة والتعدد لا في جانب الغالب، ولا في جانب المغلوب ([7]).
ومن ثم إضافة أي علامة تأنيث على صيغة المذكر إنما تهدف إلى الخروج من العموم إلى الخصوص؛ لإفهام الآخر أن هذا الكلام إنما قصد به جنس (المؤنث) فقط، وليس عاما للجنسين. ولم يكن في خلد المتكلم ولا في وضع اللغة إعطاء نظرة دونية للمرأة، ولا تحيز ديني جنسي لصالح الرجل ([8]) ، وبالتالي لا مبرر لأن يُنظرَ إلى علامة التأنيث وكأنها وشم عبيدٍ أو ما شابه، مما يحب بعض المغرضين رمي الإسلام به.
ومن جهة أخرى كثيرا ما يخلط هؤلاء بين الذكر والمذكر، وبين الأنثى والمؤنث؛ ولا أدري ينسون أو يتناسون أن الذكر أو الأنثى إنما يعني وصفا للذات الآدمية أو الحيوانية، أما المذكر أو المؤنث فإنما هو مجرد وصف للفظ اللغوي الذي يشمل بدوره الإنسان والحيوان وغيرهما.
والنتيجة التي أخلص إليها من خلال هذا الكلام، أن الأصل في الخطاب العموم للذكر والأنثى دون تمييز، وما اللجوء إلى علامة التأنيث إلا لتخصيص المؤنث بشيء لا يشمل المذكر. ومثل هذا لا بد منه، ولا غبار عليه. إنما هي أدوات تفاهم بين الناس، وليست بوسائل تفاضل وتمايز.
ثم إن هذا الحال ليس من صنيعة الإسلام؛ وإنما هو اجتهاد واضعي اللغة، ولو كان الاصطلاح على العكس فيما يخص المذكر والمؤنث، لما كان هناك ما يؤبه له في المعنى، فالمهم التفاهم، ومعرفة قصد المتكلم.
ويبدو أن الذي ألجأهم إلى اختيار المذكر للعموم هو خفة اللفظ. وهذا ما نصّ عليه سيبويه بقوله: واعلم أن المذكر أخفّ عليهم من المؤنث؛ لأن المذكر أوّل، وهو أشدّ تمكنا، وإنما يخرج التأنيث من التذكير. ألا ترى أن ( الشيء ) يقع على كل ما أخبر عنه، من قبل أن يُعلم أذكر هو أو أنثى، و(الشيء) ذكر، فالتنوين علامة للأمكن عندهم والأخف عليهم، وتركه علامة لما يستثقلون ([9]).
وفي موضع آخر نقل قول ابن أبي إسحاق وأبي عمرو مؤيدا له: وإنمَّا كان المؤنث بهذه المنزلة ولم يكن كالمذكر لأنّ الأشياء كلَّها أصلها التذكير ثم تختصَّ بعد، فكل مؤنث شيء، والشيء يذكَّر، فالتذكير أوّل، وهو أشدّ تمكنّا، كما أنَّ النكرة هي اشدّ تمكنّا من المعرفة، لأنَّ الأشياء إنمَّا تكون نكرةً ثم تعرف فالتذكير قبل، وهو أشد تمكّنا عندهم. فالأول هو أشد تمكنا عندهم ([10]).
والقرآن الكريم كلام الله، نزله سبحانه على العرب بلسانهم، ليعلموا معانيه، ويتدبروا آياته، قال تعالى: " إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ " ([11]). والخطاب هنا وإن كان للعرب؛ فإن القاعدة أن العبرة بعموم اللفظ، بمعنى أن الفهم السليم لكتاب الله لا يكون بغير اللغة الأصل وهي العربية، لما حوته من التأصيل والتفريع والتقعيد، بحيث تساعد أهل العلم على استنباط درر إعجازه، وأنوار هدايته. فإن اللغة العربية من القوة والاستيعاب والدقة بمكان، على عكس ما يظن المخالفون.
قال البقاعي في الآية السابقة: وهذه الآية تدل على أن اللسان العربي أفصح الألسنة، وأوسعها وأقوامها وأعدلها؛ لأن من المقرر أن القول وإن خص بخطابه قوما، يكون عاما لمن سواهم ([12]).
وقال ابن كثير: ذلك لأن لغة العرب أفصح اللغات وأبينها وأوسعها، وأكثرها تأدية للمعاني التي تقوم بالنفوس؛ فلهذا أنزلَ أشرف الكتب بأشرف اللغات، على أشرف الرسل، بسفارة أشرف الملائكة، وكان ذلك في أشرف بقاع الأرض، وابتدئ إنزاله في أشرف شهور السنة وهو رمضان، فكمل من كل الوجوه ([13]).
ولو نزل القرآن الكريم بغير اللغة العربية لاختلطت المفاهيم، واختلت البلاغة، واحتاج الناس إلى تفصيل كبير، وهذا ما قاله أبو حيان عند تفسيره لهذه الآية: لعلكم تعقلون ما تضمن من المعاني، واحتوى عليه من البلاغة والإعجاز فتؤمنون، إذ لو كان بغير العربية لقيل: " لَوْلَا فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ " ([14])([15]).
وبالتالي فإن معرفة معاني القرآن الكريم، وفهم أسراره يقتضي معرفة لغة العرب، ومعرفة أساليبهم في التعبير، واللغة العربية التي يفهم بها القرآن الكريم إنما هي لغة العرب الأوَل، لأنه نزل عليهم وبلغتهم وفي زمانهم. ولم تكن تلك الطبقة من العرب تعدّ تغليب المذكر في اللغة من باب التفاضل، أو التحكم والسيطرة!
تغليب المذكر على المؤنث في المصطلح
التغليب: هو إعطاء الشيء حكم غيره. وقيل: ترجيح أحد المعلومين على الآخر وإطلاق لفظه عليهما إجراء للمختلفين مجرى المتفقين**([16]). وواضح من التعريف أنه متفق مع التعريف اللغوي، ولا يختلف معه. وبمعنى آخر: لا اصطلاح خاص بالتغليب في القرآن الكريم غير التعريف اللغوي.
وقد قسم الزركشي التغليب إلى عشرة أنواع ([17]):
الأول: تغليب المذكر على المؤنث: كقوله تعالى: " فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (([18]). وقوله عن مريم: " وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ " ([19]). والأصل في هذا أن يقال: (من الغابرات)، و(من القانتات)، لكنه عدل عن جمع المؤنث إلى جمع المذكر السالم، فعُدّت الأنثى في المذكر بحكم التغليب.
الثاني: تغليب المتكلم على المخاطب، والمخاطب على الغائب: فيقال: أنا وزيد فعلنا، وأنت وزيد تفعلان. ومنه قوله تعالى لإبليس: " اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا " ([20]) فأعاد الضمير بصيغة الخطاب وإن كان: " من تبعك" يقتضى الغيبة تغليبا للمخاطب، وجعل الغائب تبعا له، كما كان تبعا له في المعصية، والعقوبة، فحسن أن يجعل تبعا له في اللفظ، وهو من محاسن ارتباط اللفظ بالمعنى.
الثالث: تغليب العاقل على غير العاقل بأن يتقدم لفظ يعم من يعقل ومن لا يعقل، فيطلق اللفظ المختص بالعاقل على الجميع، كقوله تعالى: "قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ" ([21])، فجمعها جمع السلامة؛ ولم يقل: (طائعَين)، ولا (طائعات)؛ لأنه أراد: ائتيا بمن فيكما من الخلائق طائعين، فخرجت الحال على لفظ الجمع، وغلب من يعقل من الذكور.
الرابع: تغليب المتصف بالشيء على ما لم يتصف به: كقوله تعالى: " وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ" ([22]): قيل: غلب غير المرتابين على المرتابين.
الخامس: تغليب الأكثر على الأقل: بأن ينسب إلى الجميع وصفا يختص بالأكثر كقوله تعالى: " قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ" ([23]) أدخَل شعيب في قوله: " لَتَعُودُنَّ" بحكم التغليب إذ لم يكن في ملتهم أصلا حتى يعود إليها.
السادس: تغليب الجنس كثير الأفراد على فرد من غير هذا الجنس مغمور فيما بينهم، بأن يطلق اسم الجنس على الجميع كقوله: " فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ. إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ" ([24]): عد إبليس منهم مع أنه كان من الجن تغليبا؛ ولأن حمل الاستثناء على الاتصال هو الأصل، ويدل على كونه من غير الملائكة حديث أم المؤمنين عائشة ، قالت: قال رسول الله : «خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم» ([25]).
السابع: تغليب الموجود على ما لم يوجد: كقوله: " وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ" ([26])، إذ المراد المنزل كله، وإنما عبر عنه بصيغة المضي وإن كان بعضه مترقبا تغليبا للموجود على ما لم يوجد.
الثامن: تغليب الإسلام: كقوله تعالى: " أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ" ([27])؛ لأن الدرجات للعلو للمسلمين، والدركات للسفل، للكافرين، فاستعمل الدرجات في القسمين تغليبا.
التاسع: تغليب ما وقع بوجه مخصوص على ما وقع بغير هذا الوجه كقوله تعالى: " ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ" ([28]) ذكر الأيدي لأن أكثر الأعمال تزاوَل بها، فحصل الجمع بالواقع بالأيدي تغليبا.
العاشر: تغليب الأشهَر: كقوله تعالى: " حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ" ([29]) أراد المشرق والمغرب فغلب المشرق؛ لأنه أشهر الجهتين، وهو أكثر تفاؤلا؛ إذ يرمز إلى الحياة والبداية، والغروب يرمز إلى النهاية.
وما ذكرته هنا من تفاصيل التغليب وأنواعه، وإن كنت ذكرته من كتب علوم القرآن بسبب طبيعة البحث؛ إلا أنه لا يبعد عن أصله اللغوي ([30]).
والذي يهمنها في موضوع التمييز بين الرجل والمرأة هو الجانب التشريعي، ومدى تأثره بتغليب المذكر على المؤنث، وأصيغ الفكرة بشكل سؤال فأقول:
لو ورد في كلام الشارع الكريم صيغة جمع السلامة مثل: (المسلمين، والمؤمنين) مما وضع مرتبا على بنية (مسلم، و مؤمن) في الذكور عند الإطلاق، فهل تتناول هذه الصيغة عند إطلاقها النساء؟ هذا ما سنراه في العنوان القادم.
تغليب المذكر على المؤنث عند الأصوليين([31])
اختلف الأصوليون في كون جمع السلامة مثل: (المسلمين، المؤمنين) هل يشمل النساء عند الإطلاق أم لا؟ على قولين:
القول الأول: يرى أن اللفظ يتناول النساء، واستدلوا عليه بأدلة منها:
1-إجماع أهل اللسان العربي على تغليب الذكور على الإناث في الجمع.
2- قوله تعالى: "وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ" ([32]): فدخلت مريم ـ ـ في جمع المذكر السالم: " الْقَانِتِينَ " بنص القرآن الكريم؛ لأن الحديث عنها، ونص عليها بالاسم.
وبهذا قال الحنابلة والحنفية، وبعض الشافعية، والظاهرية.
القول الثاني: وهو الذي ارتضاه الشافعي، ومعظم أصحابه والجمهور. ونقله ابن برهان عن معظم الفقهاء، ونقله ابن القشيري عن معظم أهل اللغة. وهو أن مثل هذا اللفظ إذا ورد مطلقا فهو مخصص بالرجال في مورده، إلا أن تقوم دلالة تقتضي الاشتراك، والذي يحقق ذلك أن العرب فصّلت في منزلة الوحدان بين الذكر والأنثى، وكذلك في منزلة التثنية فقالت: مسلم، ومسلمان، ومسلمة، ومسلمتان. ثم خصصوا جمعهن بصيغة فقالوا: مسلمات. وكذلك خصصوا جمع المذكر فقالوا: مسلمين، والجمع إنما هو جمع الآحاد، فإذا اتضح التباين في صيغ الآحاد اتضح فيها بجمعها. واستدل أصحاب هذا الرأي بأدلة منها:
1- قوله تعالى: " يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ" ([33])! والمقصود بالآية الرجال دون النساء كما هو معلوم في فرضية الجهاد.
2- حديث أم سلمة ـ ـ قالت لرسول الله: «ما بال الرجال يسمَّون في القرآن دون النساء» فنزل قوله تعالى: " إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَات ِ وَالْمُؤْمِنِين َ وَالْمُؤْمِنَات ِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّق ِينَ وَالْمُتَصَدِّق َاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا" ([34]).
والذي يبدو لي أن التقريب بين القولين من الناحية العملية ليس بعسير، فكلاهما يقول بتغليب المذكر على المؤنث، وبشمول الحكم الشرعي للجنسين، إلا أن الرأي الثاني اشترط لشمول النساء بالحكم أن توجد قرينة دالة على ذلك. ولم يظهر هذا جليا عند أصحاب الرأي الأول، إلا أنه يفهم من كلامهم. فأصحاب الرأي الأول لم يقصدوا من قولهم أن المرأة تكون من مفردات جمع المذكر السالم، كما أنهم لم يفرضوا على المرأة ما فرض على الرجال بمجرد التغليب في جمع المذكر، ولذلك لم يقولوا بما أراد أن يلزمهم به أصحاب الرأي الثاني من فرض الجهاد على النساء، مع قولهم بالتغليب؛ لأن قرينة الشرع بعدم فرضية الجهاد على النساء ([35]) جاءت مخالفة لتغليب جمع المذكر.
وأما حديث أم سلمة ـ ـ فلا يلزم أصحاب الرأي الأول، ولا يصلح دليلا للرأي الثاني؛ لأن قصد الصحابيات هو أن يُظهر النص القرآني مزيدا من الاهتمام بالنساء بصريح العبارة، ولم يكن قصدهن بأن القرآن الكريم ينزل بالتكاليف للرجال فقط! بحجة أنه يستعمل الجمع المذكر السالم! ولم يُؤثر هذا الفهم عنهن ـ ـ كما لم يُؤثر أنهن تركن مسألة من مسائل التشريع لمجرد أنه لم يأت بصيغة المؤنث!
وهذا يعني أن أصحاب الرأي الأول قريبون من أصحاب الرأي الثاني، ولا بد أنهم اعتمدوا على قرينة العرف أو الشرع أو نحو ذلك، وليس على مجرد اللغة. إذ لا خلاف بين الأصوليين والنحاة في عدم تناول جمع المذكر السالم للمؤنث، وإنما ذهب بعض الأصوليين إلى ثبوت التناول؛ لكثرة اشتراك النوعين في الأحكام لا غير، فيكون الدخول عرفا، أو نحوه، لا لغة.