قال الله تعالى : ( وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ) الزمر / 73
وقال في صفة النار ( حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ) الزمر / 71
قال ابن القيم/حادي الأرواح:
.....بقي أن يقال : فما السر في حذف الجواب في آية أهل الجنة و ذكره في آية أهل النار؟
فيقال : هذا أبلغ في الموضعين فإن الملائكة تسوق أهل النار إليها وأبوابها مغلقة حتى إذا وصلوا إليها فتحت في وجوههم فيفاجئهم العذاب بغتة , فحين انتهوا إليها فتحت أبوابها مغلقة حتى إذا وصلوا إليها فتحت في وجوههم فيفاجئهم العذاب بغتة , فحين انتهوا إليها فتحت أبوابها بلا مهلة فإن هذا شأن الجزاء المرتب على الشرط أن يكون عقيبة فإنها دار الإهانة والخزي فلم يستأذن لهم في دخولها ويطلب إلى خزنتها أن يمكنوهم من الدخول
وأما الجنة فإنها دار الله ودار كرامته ومحل خواصه وأوليائه , فإذا انتهوا إليها صادفوا أبوابها مغلقة فيرغبون إلى صاحبها ومالكها أن يفتحها لهم ويستشفعون إليه بأولي العزم من رسله وكلهم يتأخر عن ذلك حتى تقع الدلالة على خاتمهم وسيدهم وأفضلهم فيقول أنا لها
فيأتي إلى تحت العرش ويخر ساجداً لربه فيدعه ما شاء أن يدعه ثم يأذن له في رفع رأسه وأن يسأل حاجته فيشفع إليه سبحانه في فتح أبوابها فيشفعه ويفتحها تعظيماً لخطرها , وإظهاراً لمنزلة رسوله وكرامته عليه , وإن مثل هذا الدار التي هي دارُ ملك الملوك ورب العالمين إنما يدخل إليها بعد تلك الأهوال العظيمة التي أولها من حين عقل العبد في هذه الدار إلى أن انتهى إليها , و ما ركبه من الأطباق طبقاْ بعد طبق و قاساه من الشدائد شدة بعد شدة حتى أذن الله تعالى لخاتم أنبيائه ورسوله وأحب خلقه إليه أن يشفع إليه في فتحها لهم , وهذا أبلغ وأعظم في تمام النعمة وحصول الفرح والسرور مما يقدر بخلاف ذلك لئلا يتوهم الجاهل أنها بمنزلة الخان الذي يدخله من شاء
فجنة الله عالية غالية بين الناس , وبينها من العقبات والمفاوز والأخطار ما لا تنال إلا به , فما لمن أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني ولهذه الدار ؟
فليبعد عنها إلى ما هو أولى به , وقد خلق له وهيئ له .
وتأمل ما في سوق الفريقين إلى الدارين زمراً من فرحة هؤلاء بإخوانهم وسيرهم معهم كل زمرة على حدة , مشتركين في عمل متصاحبين فيه على زمرتهم وجماعتهم مستبشرين أقوياء القلوب كما كانوا في الدنيا وقت اجتماعهم على خير , كذلك يؤنس بعضهم بعضاً ويفرح بعضهم ببعض
وكذلك اصحاب الدار الأخرى يساقون إليها زمراً يلعن بعضهم بعضاً ويتأذى بعضهم ببعض وذلك أبلغ في الخزي والفضيحة و الهتيكة من أن يساقوا واحداً فلا تهمل تدبر قوله : ( زُمَرًا ) .
وقال خزنة أهل الجنة لأهلها ( سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ) فبدأوهم بالسلام المتضمن للسلامة من كل شر ومكروه أي سلمتهم فلا يلحقكم بعد اليوم ما تكرهون , ثم قالوا لهم : ( طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ) الزمر : 73 , أي سلامتكم ودخولها بطيبكم فإن الله حرمها إلا على الطيبين , فبشروهم بالسلامة والطيب والدخول والخلود .
وأما أهل النار فإنهم لما انتهوا إليها على تلك الحال من الهم والغم والحزن وفتحت لهم أبوابها وقفوا عليها وزيدوا على ما هم عليه توبيخ خزنتها وتبكيتهم لهم بقولهم :
( أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُ مْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا ) الزمر : 71
فاعترفوا وقالوا : (( بلى )) فبشروهم بدخولها و الخلود فيها وأنها بئس المثوى لهم .
وتأمل قول خزنة الجنة لأهلها (( ادخلوها ))
وقول خزنة النار لأهلها (( ادخلوا أبواب جهنم )) , تجد تحته سرا لطيفاً ومعنى بديعاً لا يخفى على المتأمل وهو أنها لما كانت دار العقوبة وأبوابها أفظع شيء و أشده حراً وأعظمه غماً يستقبل فيها الداخل من العذاب ما هو أشد منها ويدنو من الغم و الخزي والحزن والكرب بدخول الأبواب فقيل ادخلوا أبوابها صغاراً لهم وإذلالاً وخزياً , ثم قيل لهم لا يقتصر بكم على مجرد دخول الأبواب الفظيعة ولكن وراءها الخلود في النار
و أما الجنة فهي دار الكرامة والمنزل الذي أعده الله لأوليائه فبشروا من أول وهلة بالدخول إلى المقاعد و المنازل والخلود فيها .
وتأمل قوله سبحانه : ( جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ . مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ ) كيف تجد تحته معنى بديعاً وهو أنهم إذا دخلوا الجنة لم تغلق أبوابها عليهم بل تبقى مفتحة كما هي ,
وأما النار فإذا دخلها أهلها أغلقت عليهم أبوابها كما قال تعالى : ( إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ ) الهمزة : 8
أي مطبقة مغلقة ومنه سمي الباب وصيداً وهي ( مُؤْصَدَةٌ فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ ) الهمزة : 8 , 9
قد جعلت العمد ممسكة للأبواب من خلفها كالحجر العظيم الذي يجعل خلف الباب . قال مقاتل : يعني أبوابها عليهم مطبقة فلا يفتح لها باب ولا يخرج منها غم ولا يدخل فيها روح آخر الأبد.
وأيضاً فإن في تفتيح الأبواب لهم إشارة إلى تصرفهم وذهابهم وإيابهم وتبوئهم في الجنة حيث شاؤوا ودخول الملائكة عليهم كل وقت بالتحف و الألطاف من ربهم ودخول ما يسرهم عليهم كل وقت ,
وأيضاً إشارة إلى أنها دار أمن لا يحتاجون فيها إلى غلق الأبواب كما كانوا يحتاجون إلى ذلك في الدنيا .