هل يجوز إطلاق لفظة تبارك على غير الله تعالى ، مثل قول : تبارك علينا فلان ، أو تباركت الدابة ، ونحو ذلك ، وهل هو دعاء أو إخبار فلا يمنع منه ، أو صفة من الصفات فلا تطلق إلا على الله تعالى وحده ؟
يجيب الإمام شمس الدين ابن قيم الجوزية بأوضح عبارة وأتم بيان :
قال رحمه الله في بدائع الفوائد 2 / 410 - 413 :
فصل البركة المضافة :
وأما البركة فكذلك نوعان أيضا :
أحدهما : بركة هي فعله تبارك وتعالى والفعل منها بارك ويتعدى بنفسه تارة ، وبأداة على تارة ، وبأداة في تارة ، والمفعول منها مبارك ، وهو ما جعل كذلك فكان مباركا بجعله تعالى .
والنوع الثاني : بركة تضاف إليه إضافة الرحمة والعزة ، والفعل منها تبارك ، ولهذا لا يقال لغيره ذلك ولا يصلح إلا له عز وجل ، فهو سبحانه المبارك ، وعبده ورسوله كما قال المسيح عليه السلام ( وجعلني مباركا أينما كنت ) مريم 31 .
فمن بارك الله فيه وعليه فهو المبارك .
وأما صفته تبارك فمختصة به تعالى كما أطلقها على نفسه بقوله : ( تبارك الله رب العالمين ) الأعراف 54 . ( تبارك الذي بيده الملك ) ، ( تبارك الله أحسن الخالقين ) المؤمنون 14. ( وتبارك الذي له ملك السموات والأرض وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون ) الزخرف 85 . ( تبارك الذي نزل الفرقان على عبده الفرقان ) 1 ( تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك ) الفرقان 10. ( تبارك الذي جعل في السماء بروجا ) الفرقان 61 .
أفلا تراها كيف اطردت في القرآن جارية عليه مختصة به لا تطلق على غيره وجاءت على بناء السعة والمبالغة كتعالى وتعاظم ونحوهما فجاء بناء تبارك على بناء تعالى الذي هو دال على كمال العلو ونهايته فكذلك تبارك دال على كمال بركته وعظمها وسعتها وهذا معنى قوله من قال من السلف : تبارك : تعاظم .
وقال آخر : معناه: أن تجيء البركات من قبله فالبركة كلها منه وقال غيره : كثر خيره وإحسانه إلى خلقه وقيل : اتسعت رأفته ورحمته بهم وقيل تزايد عن كل شيء وتعالى عنه في صفاته وأفعاله ومن هنا قيل معناه تعالى وتعاظم وقيل تبارك تقدس والقدس الطهارة وقيل تبارك أي باسمه يبارك في كل شيء وقيل تبارك ارتفع والمبارك المرتفع ذكره البغوي وقيل تبارك أي البركة تكتسب وتنال بذكره
وقال ابن عباس : جاء بكل بركة . وقيل معناه : ثبت ودام بما لم يزل ولا يزال ذكره البغوي أيضا وحقيقة اللفظة أن البركة كثرة الخير ودوامه ولا أحد أحق بذلك وصفا وفعلا منه تبارك وتعالى .
وتفسير السلف يدور على هذين المعنيين وهما متلازمان لكن الأليق باللفظة معنى الوصف لا الفعل فإنه فعل لازم مثل تعالى وتقدس وتعاظم .
ومثل هذه الألفاظ ليس معناها أنه جعل غيره عاليا ولا قدوسا ولا عظيما هذا مما لا يحتمله اللفظ بوجه وإنما معناها في نفس من نسبت إليه فهو المتعالي المتقدس فكذلك تبارك لا يصح أن يكون معناها بارك في غيره وأين أحدهما من الآخر لفظا ومعنى هذا لازم وهذا متعد فعلمت أن من فسر تبارك بمعنى ألقى البركة وبارك في غيره لم يصب معناها وإن كان هذا من لوازم كونه متباركا فتبارك من باب مجد والمجد كثرة صفات الجلال والسعة والفضل وبارك من باب أعطى وأنعم ولما كان المتعدي في ذلك يستلزم اللازم من غير عكس فسر من فسر من السلف اللفظة بالمتعدي لينتظم المعنيين فقال مجيء البركة كلها من عنده أو البركة كلها من قبله وهذا فرع على تبارك في نفسه
وقد أشبعنا القول في هذا في كتاب الفتح المكي وبينا هناك أن البركة كلها له تعالى ومنه فهو المبارك ومن ألقى عليه بركته فهو المبارك ولهذا كان كتابه مباركا وبيته مباركا والأزمنة والأمكنة التي شرفها واختصها عن غيرها مباركة فليلة القدر مباركة وما حول الأقصى مبارك وأرض الشام وصفها بالبركة في أربعة مواضع من كتابه أو خمسة ، وتدبر قول النبي في حديث ثوبان الذي رواه مسلم في صحيحه عند انصرافه من الصلاة :" اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام ".
فتأمل هذه الألفاظ الكريمة كيف جمعت نوعي الثناء أعني ثناء التنزيه والتسبيح وثناء الحمد والتمجيد بأبلغ لفظ وأوجزه وأتمه معنى فأخبر أنه السلام ومنه السلام فالسلام له وصفا وملكا وقد تقدم بيان هذا في وصفه تعالى بالسلام وأن صفات كماله ونعوت جلاله وأفعاله وأسمائه كلها سلام وكذا الحمد كله له وصفا وملكا فهو المحمود في ذاته وهو الذي يجعل من يشاء من عباده محمودا فيهبه حمدا من عنده وكذلك العزة كلها له وصفا وملكا وهو العزيز الذي لا شيء أعز منه ومن عز من عباده فبإعزازه له
وكذلك الرحمة كلها له وصفا وملكا
وكذلك البركة فهو المتبارك في ذاته الذي يبارك فيمن شاء من خلقه وعليه فيصير بذلك مباركا فتبارك الله رب العالمين وتبارك الذي له ملك السموات والأرض وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون وهذا بساط وإنما غاية معارف العلماء الدنو من أول حواشيه وأطرافه وأما ما وراء ذلك فكما قال أعلم الخلق بالله وأقربهم إلى الله وأعظمهم عنده جاها :" لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ".
وقال في حديث الشفاعة الطويل :" فأخر ساجدا لربي فيفتح علي من محامده بما لا أحسنه الآن ".
وفي دعاء الهم والغم :" أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك ".
فدل على أن لله سبحانه وتعالى أسماء وصفات استأثر بها في علم الغيب عنده دون خلقه لا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل .
وحسبنا الإقرار بالعجز والوقوف عند ما أذن لنا فيه من ذلك فلا نغلو فيه ولا نجفو عنه وبالله التوفيق .أهــ كلامه رحمه الله .