لم يقرأ النبي صلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّم بالإمالة !
فمن أين جاءت الإمالة إلى الأئمة القراء.
الحمد لله رب العالمين, والصلاة السلام على من بعث بالشريعة السمحة رحمة للعالمين, وعلى الآل والصحب الكرام, وعلى كل محب للصدق متجرد للحق, أياً كان مصدره أو موطنه لا تأخذه في الله لومة لائم, متبرئ من كل أمر لا يؤيده الدليل ولا تعضده الحجة, ولا يهدي إليه سلطان ولا برهان.
أما بعد:
فهل قرأ النبي صلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّم بالإمالة ؟
وإن كان الجواب بالنفي فمن أين جاءت الإمالة إلى الأئمة القراء رحمة الله عليهم أجمعين.
هذان سؤالان عظيمان جليلان, والحاجة إلى الجواب عليهما ملحة متأكدة, لا سيما في هذا الزمان الذي بدأت تنتشر فيه القراءة بالإمالة في بلادنا عند طائفة من القراء, ليسوا هم ممن يميلون في لهجتهم, وليس من يستمع إليهم ممن يميل أو يفهم الإمالة أو يستسيغها.
وقد يأتي زمان تصبح فيه القراءة بالإمالة وشاحاً يتزين به بعض القراء, ليجلب إليه الأسماع والأبصار.
وقبل أن أجيب على هذا السؤال الكبير أذكر أمراً مهماً جليلاً جداً.
وهو أن مثل هذا الأمر - أعني القراءة بالإمالة - إذا كان قد وقع من لدن النبي محمد صلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّم فإنه يفترض أن يرد بكل وضوح, وبأدلة صريحة غير محتملة, فإن الهمم والدواعي متوفرة على نقل كل ما يتعلق بكيفية قراءة النبي صلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّم للقرآن, فكيف نقول: إن النبي صلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّم قد قرأ بالإمالة, ثم لا نجد أن أحداً من الصحابة يذكر ذلك ولا يشير إليه, ولا يدل عليه, ولا يقف معه, بل يتنكرون له ويعرضون جميعاً عن ذكره, مع أنه مخالف للهجتهم وما اعتادوا عليه, في الوقت الذي نقلوا فيه أشياء كثيرة في أمر القراءة وغيرها هي دون ذلك في الأهمية بكثير.
وقد أشار الهذلي المتوفى سنة (465) هـ في كتابه "الكامل" إلى أن هناك من القدماء من أنكر أن القرآن نزل بالإمالة كما سيأتي ذكره.
وأقول: الحقيقة أني لم أجد أي دليل صحيح يستدل به على أن النبي صلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّم قرأ بالإمالة, وقد ذكر بعض العلماء بعض الأدلة, وكلها أحاديث واهية, وإليك تخريجها مفصلاً.
أولاً: ما روي عن زر بن حبيش أنه قال: (قرأ رجل على عبد الله بن مسعود ïپ´ (طه) ولم يكسر, فقال عبد الله: (طه) وكسر الطاء والهاء, فقال الرجل: (طه) ولم يكسر فقال عبد الله (طه) وكسر الطاء والهاء فقال الرجل (طه) ولم يكسر, فقال عبد الله: (طه) وكسر الطاء والهاء, فقال الرجل: (طه) ولم يكسر, فقال عبد الله: (طه) وكسر, ثم قال: والله لهكذا علمني رسول الله r).
هذا الحديث قد أخرجه أبو عمرو الداني في "تاريخ القراء", وابن الجزري في "النشر" (2/31)
من طريق: محمد بن عبيد الله, عن عاصم, عن زر بن حبيش به.
قال ابن الجزري: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه".
وهذا الحديث ضعيف جداً.
فإن محمد بن عبيد الله هذا هو العرزمي, وهو متروك الحديث. انظر: "التهذيب" (9/322)
فلا يصح الاستدلال به لضعفه الشديد.
وأخرجه الفراء في "معاني القرآن" (2/174), والأزهري في "معاني القراءات" (2/141)
عن قيس بن الربيع, عن عاصم, عن زر به.
وهذا حديث لا أصل له, كما قال الإمام الكبير أبو حاتم.
قال ابن أبي حاتم في "العلل" (2/62): "سألت أبي عن حديث رواه السمري صاحب الفراء، عن الفراء، عن قيس بن الربيع، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله ïپ´ أن النبي صلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّم قرأ: {طه}مكسورة.
قال أبي: هذا الحديث لا أصل له" اهـ.
وقيس بن الربيع ضعفه وكيع, وأحمد, وعلي بن المديني, وابن معين, والنسائي, والجوزجاني, ويعقوب بن أبي شيبة, وابن سعد, والدارقطني, وغيرهم, وسئل ابن نمير عن قيس بن الربيع ؟ فقال: كان له ابن هو آفته, نظر أصحاب الحديث في كتبه فأنكروا حديثه, وظنوا أن ابنه قد غيرها, وقال أبو داود الطيالسي: إنما أتي قيس من قبل ابنه, كان ابنه يأخذ حديث الناس فيدخلها في كتاب أبيه, ولا يعرف الشيخ ذلك. انظر: "التهذيب" (8/391)
وقال ابن حجر في "التقريب" (2/128): صدوق تغير لما كبر، وأدخل عليه ابنه ما ليس من حديثه فحدث به.
وأخرجه الحاكم (2/245)
عن أبي بكر بن أبي دارم، عن عبيد بن غنام بن حفص بن غياث, عن عبيد بن يعيش, عن محمد بن فضيل، عن عاصم، عن زر به.
وهذا إسناد تالف.
أحمد بن محمد بن أبي دارم رافضي لا يوثق به, كما قال الحاكم. وقال الذهبي: كوفي رافضي كذاب. انظر: "الميزان" (1/139).
وعبيد بن غنام لم أجد أحداً ترجم له قبل الذهبي رحمه الله, فحاله غير معلومة, وإن وثقه الذهبي في "السير" (13/558), وقال فيه مرة: صدوق, كما في "العبر في خبر من غبر" (2/113), وقال: هو راوية الكتب عن أبي بكر بن أبي شيبة.
وعلى أي حال فلا يمكن الاعتماد في أمر خطير كنسبة الإمالة إلى النبي صلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّم على سند فيه رجل رافضي كذاب لا يوثق به, كما قال الحاكم نفسه والذهبي.
وقال الدارقطني كما في "أطراف الغرائب والأفراد" (4/352): (قرأ رجل طه...) الحديث.
غريب من حديث أبي بكر بن عياش, عن عاصم, عن زر.
تفرد به شيخنا أبو إسحاق إسماعيل بن يونس بن ياسين الكاتب, عن أبي هشام الرفاعي, عن أبي بكر بن أبي عياش" اهـ.
قلت: أبو هاشم الرفاعي هو محمد بن يزيد, وقد قال فيه البخاري: رأيتهم مجمعين على ضعفه, وقال ابن نمير: كان يسرق الحديث, وقال ابن نمير أيضاً: هو أضعفنا طلباً وأكثرنا غرائب. انظر: "الميزان" (4/68)
وإسماعيل بن يونس بن ياسين لا تعرف حاله. انظر: "لسان الميزان" (1/446)
ثانياً: حديث حذيفة بن اليمان t أنه سمع رسول الله r يقول: (اقرؤوا القرآن بلحون العرب وأصواتها, وإياكم ولحون أهل الفسق وأهل الكتابين).
قال الداني كما في "النشر" (2/30): "فالإمالة لا شك من الأحرف السبعة ومن لحون العرب وأصواتها" اهـ.
والحقيقة أن هذا الحديث منكر كما قال الذهبي في "الميزان" (1/553)
وقد أخرجه الطبراني في "الأوسط" (8/108) (7219), وابن عدي في "الكامل" (2/78), والبيهقي في "الشعب" (2/540), والجوزجاني في "الأباطيل" (723)، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" ( 1/ 118) (160)
من طريق: بقية بن الوليد، عن الحصين بن مالك الفزاري، عن أبي محمد، عن حذيفة ïپ´, عن النبي صلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّم.
وإسناده تالف.
قال الطبراني: "لا يروى هذا الحديث عن حذيفة إلا بهذا الإسناد، تفرد به بقية" اهـ.
وبقية بن الوليد يدلس تدليس التسوية, وهو شر أنواع التدليس, ولا بد أن يصرح بالتحديث في كل طبقات السند.
وشيخه حصين بن مالك مجهول, كما قال الجوزجاني.
وقال الذهبي في "الميزان" (1/553): ليس بمعتمد.
وأبو محمد وهو الراوي عن حذيفة مجهول أيضاً.
قال الجوزجاني: هذا حديث باطل, وأبو محمد شيخ مجهول، وحصين بن مالك أيضاً مجهول.
وقال ابن الجوزي: هذا حديث لا يصح، وأبو محمد مجهول، وبقية يروي عن الضعفاء ويدلسهم.
وقال السخاوي في "جمال القراء" ص (598)
روى صفوان بن عسال (أنه سمع رسول الله صلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّم يقرأ (يا يحيى) فقيل له: يا رسول الله تميل وليس هي لغة قريش؟ فقال: هي لغة الأخوال بني سعد).
وهذا الحديث لا أصل له, وقد ساقه السخاوي هكذا بلا سند.
ثم إن علامات الوضع والاختلاق تبرق وتلوح عليه. والله أعلم.
وكذلك ذكر السخاوي أن أبا عبد الرحمن السلمي قال: أقرأني على بن أبي طالب (رأى كوكباً). بالإمالة.
وهذا لا أصل له أيضاً, فقد ذكره السخاوي بلا سند أيضاً.
وروي عن إبراهيم النخعي كما في "النشر" (2/31) أنه قال: (كانوا يرون أن الألف والياء في القراءة سواء) قال: يعني بالألف والياء التفخيم والإمالة.
وكلام إبراهيم النخعي هذا فيه غموض, فما المراد بقوله: سواء ؟!
هل المراد أن القارئ مخير بقراءة الألف ياء فهما سواء.
أم المراد أن المعنى لا يتغير بالإمالة.
أم المراد أن الألف والياء في الكتابة سواء.
وأما قول بعضهم: إن الإمالة قد ثبتت بالتواتر, فلو لم يرد أي دليل عليها فالتواتر كاف في ثبوتها, وهو أقوى من ورود النصوص عليها.
فالجواب على ذلك أن القرآن لا شك أنه ثابت متواتر, ولا يشك في ذلك مسلم.
ولكن المتواتر هو القرآن, أما كثير من تفاصيل القراءات المختلف فيها وكيفيات الآداء كافة فليست كذلك, ولا يقول إنها متواترة إلا من لا يعرف التواتر, كما قال الإمام ابن الجزري في النشر.
ولن أطيل في هذه المسألة, فإني سوف أفرد لها وقفة أخرى إن شاء الله تعالى, وسوف أذكر بعد قليل بعض النقول المتعلقة بذلك.
كما سوف أذكر في بحث مستقل أيضاً المراد بما اشتهر عن السلف من قولهم: (إن القراءة سنة متبعة) وأبين بكل وضوح إن شاء الله أن المراد بذلك ما يتعلق بفرش الحروف والإعراب ونحو ذلك, وليس ما يتعلق بطريقة الأداء.
يتبع >>