محمد حامد الفقي
من ضمن مقالات الشيخ محمد حامد الفقي
في تفسير القرآن الحكيم
لقد جاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم والعرب على حالة من اتباع الهوى والافتراق والتنافر والتباغض وسوء الأخلاق ، تستدعي الرحمة والإشفاق ، فرفع بينهم صلى الله عليه وسلم منار القرآن وشرع لهم من عذب موارده وتلا عليهم من محكم آياته ، ما رفع عن قلوبهم حجب الجهل وظلمات الهوى ، وأحلهم من العلم دار كرامته وهدايته ، وطهر أخلاقهم وزكاها حتى أصبحت المثل الأعلى للسجايا الكريمة ، والآداب الفاضلة ، ورقق من قلوبهم ، ما كان كالحجارة أو أشد قسوة ، حتى أصبحوا بحمد اللَّه رحماء بينهم تراهم ركعًا سجدًا يبتغون فضلًا من اللَّه ورضوانًا ، وسل من قلوبهم سخيمة العداوة ، وأطفأ نيران البغضاء ، وألف بينهم فأصبحوا بنعمة اللَّه إخوانًا ، وكانوا على شفا حفرة من النار فأنقذهم منها .
فبنور ذلك العلم وكرم هذه الأخلاق ، ورقة تلك القلوب ، وتآلف هذه الأرواح ، تبوأت الأمة العربية من العز والسلطان والسعادة مقعدًا لا يناله إلا من جعل القرآن له إمامًا وهاديًا .
القران خير واعظ ، وأفضل معلم ، تغلغل في نفس العربي الذي لم يكن يعلم من الحياة إلا غنمه يرعاها . والجبال والقفار يرتادها ، والحروب الأهلية يوقد نارها ، فتكسبه جفاء في طبعه وغلظة في نفسه ، وشراسة في أخلاقه ، فخرج القرآن من ذلك البدوي جنديًّا باسلًا وقائدًا محنكًا ، وسياسيًّا مجربًا ، ومهندسًا دقيقًا ، وحاكمًا رفيقًا ، وعالمًا ضليعًا ، ومؤمنًا قوّامًا بالليل صوامًا بالنهار ، وواعظًا محركًا للقلوب ، وأخيرًا خرجت جامعة الإسلام من تلك الأمة العربية البدوية سعاة إلى الحياة على جواد طرقها ، وبناة لصروح المدنية والحضارة النافعة على أمتن وأنفع أسسها ، وأساتذة للأمم في كل فن من فنون الحياة الطيبة .
ولم لا تخرج جامعة القرآن الكريم أولئك الهداة المفلحين وبانيها وواضع نظمها الحكيم العليم اللطيف الخبير ، وأستاذها الأعظم والقائم على تنفيذ أساليبها وتشريع مناهلها هو أشرف الخلق روحًا وأبرهم قلبًا وأزكاهم نفسًا وأرحبهم صدرًا وأهداهم سبيلًا (محمد بن عبد الله) صلى اللَّه عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا .
مِن ثَمَّ كان أوضح المناهج إلى الإصلاح ، وأقرب الطرق إلى الفلاح ، وأعذب الموارد لمادة حياة الأرواح ، هو ذلك القرآن الكريم والتنزيل الحكيم الذي نزل به الروح الأمين على قلب أشرف الأنبياء وأكرم والمرسلين ؛ هدى ورحمة وبشرى للمؤمنين .
فكان حقًّا على كل ساع إلى إرشاد الأمة الإسلامية وإخراجها من ظلمات الجهل ، وضلالات العوائد الوثنية والعقائد الشركية ، أن يقودها بالقرآن ويسوقها بسنن من تنزل عليه الفرقان من قوله المؤيد ، وعمله الموفق الذي حفظه لنا خيار هذه الأمة ، وعلماؤها في كتبهم التي بذلوا قيم حياتهم ، ونفيس أوقاتهم في تهذيبها وتخليصها من إلحاد الملحدين ، وتحريف المبطلين ، وغلو الجاهلين ، فإذا استطاع الداعي الناصح أن يكون كذلك على بصيرة من أمره ، ووفق أن يضع في يد أمته هذا السبب الأقوى فهو الذي تكتب للأمة على يده آية الفلاح وينادي عليها منادي الحق .
وهذه الصحيفة (صحيفة الإصلاح) لا هم لها إلا نشر شرائع الإسلام وتقريبها لمتناول الناس على أحسن وجه ومن أخصر طريق ، وسبيلها في ذلك سبيل أشرف الأئمة وخير المهتدين صلوات اللَّه وسلامه عليه ، متأسية في ذلك بسلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين والأئمة الراشدين رضوان اللَّه عليهم أجمعين .
فنحن بمشيئة اللَّه تعالى وحسن معونته جاعلون لتفسير القرآن الحكيم من هذه الصحيفة أوسع مجال وأرحب مكان ؛ ابتغاء أن ينتشر نوره في قلوب إخواننا ليهتدوا به إلى مثل ما اهتدى به سلفنا الصالح ؛ فتنهض الأمة من كبوتها وتقال العقول من عثرتها ويتهيأ للمسلمين من حياة العز والسعادة ما تفضل اللَّه به على آبائنا الأولين رحمة اللَّه عليهم أجمعين .
والتفسير الذي ستقوم الصحيفة بنشره هو فهم القران من حيث هو دين يرشد الناس إلى ما فيه سعادتهم في حياتهم الأولى والآخرة .
وطريقنا إلى ذلك أن نستخلص من كلام سلف الأئمة مثل ابن جرير وابن كثير والبغوي وغيرهم ممن يصل إلى يدنا تفسيرهم خلاصة بعيدة عن الحشو والتكرار والمباحث اللفظية غير المجدية التي كثيرًا ما تصرف القارئ عما في الآية من حكمة وعظة ، وتبعده عما تنزل القرآن له من هداية وتبصرة ، متوخين في ذلك الأسلوب السهل والمنهج المألوف الذي يتيسر به الانتفاع من ذلك التفسير ، مجتهدين قدر طاقتنا في تطبيق مواعظ القرآن وعبره على حوادث زمننا وما عليه الناس اليوم من تقدم وتأخر وهدى وضلالة ، آخذين من العلوم الكونية الحديثة ما تدعو إليه الحاجة الماسة في إيضاح آيات اللَّه ، مجانفين من ذلك ما لا يتفق مع نصوص القرآن ولا يكون لنا فيه سلف من خيار علمائنا المهتدين ، ناظرين إلى ما في كثير من التفاسير من قصص وإسرائيليات نظر الاعتدال والإنصاف ، وازنين لها بميزان المحدثين في الجرح والتعديل ، لا يميزان الهوى والرأي . فما صح سنده سقناه ، وما لم يصح سنده نبذناه ، وهذا في الحقيقة لا فائدة فيه ولا حاجة بنا إلى معرفته ، معتمدين على حسن معونة اللَّه تعالى ، راجين من علمائنا وإخواننا ، بل معاهدين لهم أن يردونا عما نقع فيه من خطأ ، وأن يبينوا لنا وجه الحق والصواب في ذلك ؛ قيامًا منهم بواجب التعاون على البر والتقوى وخروجًا عن إثم السكوت عن باطل ينتشر في الناس فيكون شره مستطيرًا ، فإنه ما أصيب المسلمون إلا من سكوت عارف الحق عن بيان حقه ورد المبطل عن باطله ، والتهاون في ذلك هو الداء الذي قتل علومنا وقضى على حياتنا وأخلاقنا ، وشر منه أن لا يرجع المبطل عن باطله وأن يصر عليه استكبارًا وعنادًا بعد أن قامت عليه الحجة التي لم تبق له من عذر مقبول .
وإننا بمشيئة اللَّه تعالى نعاهد إخواننا أن يكون مبدؤنا الذي لا نحيد عنه قيد شعرة (الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل) وقدوتنا في ذلك أبو بكر رضي اللَّه تعالى عنه حيث يقول في خطبته : (فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني) ، وأن نقبل النصح والحق من الصغير قبل الكبير ما دام معتمدًا على برهان من قول اللَّه أو قول رسوله ، متأسين في ذلك بعمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه الذي قال : (أصابت امرأة وأخطأ عمر)(1) .
وإن في هؤلاء لخير أسوة وأحسن قدوة وفي اتباعهم الكرامة والعزة والفضل الذي لا يعدل عنه إلا الجاهلون .
ولنقدم بين يدي ذلك بعض ما ورد في فضل القرآن العظيم وتفسيره ناقلين ذلك عن الإمام الشوكاني رحمة اللَّه عليه ، قال :
اعلم أن الأحاديث في فضائل القرآن كثيرة جدًّا ، ولا يتم لصاحب القرآن ما يطلبه من الأجر الموعود به في الأحاديث الصحيحة حتى يفهم معانيه ، فإن ذلك هو الثمرة من قراءته . قال القرطبي : ينبغي له أن يتعلم أحكام القرآن فيفهم عن اللَّه مراده ، وما فرض عليه فينتفع بما يقرأ ويعمل بما يتلو ، فما أقبح بحامل القرآن أن يتلو فضائله وأحكامه عن ظهر قلب وهو لا يفهم معنى ما يتلوه ، فكيف يعمل بما لا يفهم معناه ، وما أقبح به أن يسأل عن فقه ما يتلوه ولا يدريه ، فما مثل من هذه حالته إلا كمثل الحمار يحمل أسفارًا .
وينبغي له أن يعرف المكي من المدني ليفرق بين ما خاطب اللَّه به عباده في أول الإسلام ، وما ند بهم إليه في آخر الإسلام ، وما فرض عليهم في أول الإسلام ، وما زاد عليهم من الفرائض في آخره .. وقال أيضًا : قال علماؤنا : وأما ما جاء في فضل التفسير عن الصحابة والتابعين فمن ذلك أن علي بن أبي طالب ذكر جابر بن عبد اللَّه ووصفه بالعلم فقال له رجل : جعلت فداك ، تصف جابرًا بالعلم وأنت أنت ؟ فقال إنه كان يعرف تفسير قوله تعالى : ُ( ) * « ، * . /ِ [القَصَص: الآية 85] .
وقال مجاهد : أحب الخلق إلى اللَّه أعلمهم بما أنزل اللَّه . قال الحسن : واللَّه ما أنزل اللَّه آية إلا أحب أن تعلم فيمن نزلت وما يعني بها .
وقال الشعبي : رحل مسروق في تفسير آية إلى البصرة ، فقيل له : إن الذي يفسرها رحل إلى الشام ، فتجهز ورحل إلى الشام حتى علم تفسيرها .
وقال إياس بن معاوية : مثل الذين يقرؤون القرآن ولا يعلمون تفسيره كمثل قوم جاءهم كتاب من عند مليكهم ليلًا وليس عندهم مصباح فتداخلتهم روعة ولا يدرون ما في الكتاب ، ومثل الذي يعرف التفسير كمثل رجل جاء هم بمصباح فقرأوا ما في الكتاب .
وقال صديق حسن خان في تفسيره «فتح البيان» :
وعن عثمان رضي اللَّه عنه قال : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : «خيركم من تعلم القرآن وعلمه» .
وعن عائشة رضي اللَّه عنها قالت : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران» .
وقد وردت في ذلك الباب أي فضائل القرآن أحاديث كثيرة . فأما أحاديث فضائل القرآن سورة سورة ، فلا خلاف بين من يعرف الحديث أنها موضوعة مكذوبة ، وقد أقر بذلك واضعها أخزاه اللَّه . وليس بعد الإقرار شيء ولا اغترار بذكر الزمخشري لها في آخر كل سورة وهو قد نقلها عن تفسير الثعلبي .
وقد أخطأ من قال إنه يجوز التساهل في الأحاديث الواردة في فضائل الأعمال ، وذلك لأن الأحكام الشرعية متساوية الإقدام لا فرق بين واجبها ومحرمها ، ومسنونها ومكروهها ومندوبها ، فلا يحل إثبات شيء منها إلا بما تقوم به الحجة وإلا فهو من التقول على اللَّه بما لم يقل ، ومن التجرئ على الشريعة بـإدخال ما لم يكن منها فيها . وقد تواتر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار» . انتهى ببعض تصرف .
أقول : إن الضعيف ليس كله في درجة واحدة ، فكلام الشيخ صديق إنما يصدق على ما كان شديد الضعف لأن في إسناده من يرمى بالكذب ، وأما ما كان في درجة الحسن فلا شك في صحة الاستدلال به .