وقال حفيده رحمه الله :
قوله : ( باب ما جاء في الرقى والتمائم ) .
أي : من النهي وما ورد عن السلف في ذلك .
قوله : " في الصحيح عن أبي بشير الأنصاري (أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره فأرسل رسولا : أن لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت ) هذا الحديث في الصحيحين .
قوله : " عن أبي بشير " بفتح أوله وكسر المعجمة ، قيل : اسمه قيس بن عبيد ، قاله ابن سعد ، وقال ابن عبد البر : لا يوقف له على اسم صحيح ، وهو صحابي ، شهد الخندق ، ومات بعد الستين . ويقال أنه جاوز المائة .
قوله : " في بعض أسفاره " قال الحافظ : لم أقف على تعيينه .
قوله : " فأرسل رسولا " هو زيد بن حارثة . روى ذلك الحارث بن أبي أسامة في مسنده ، قاله الحافظ .
قوله : " أن لا يبقين " بالمثناة التحتية والقاف المفتوحتين ، و" قلادة " مرفوع على أنه فاعل . و" الوتر " بفتحتين . واحد أوتار القوس .
وكان أهل الجاهلية إذا اخلولق الوتر أبدلوه بغيره ، وقلدوا به الدواب ، اعتقادا منهم أنه يدفع عن الدابة العين .
قوله : " أو قلادة إلا قطعت " معناه : أن الراوي شك هل قال شيخه : قلادة من وتر أو قال : قلادة ، وأطلق ولم يقيده ؟ ويؤيد الأول ما روي عن مالك : أنه سئل عن القلادة فقال : ما سمعت بكراهتها إلا في الوتر .ولأبي داود : " ولا قلادة " . بغير شك .
قال البغوي في شرح السنة : تأول مالك أمره عليه الصلاة والسلام بقطع القلائد على أنه من أجل العين ، وذلك أنهم كانوا يشدون تلك الأوتار والتمائم والقلائد ويعلقون عليها العوذ ، يظنون أنها تعصمهم من الآفات ، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عنها ، وأعلمهم أنها لا ترد من أمر الله شيئا .
|
(الجزء رقم : 15، الصفحة رقم: 51) |
|
قال أبو عبيد : كانوا يقلدون الإبل الأوتار ؛ لئلا تصيبها العين ، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإزالتها إعلاما لهم بأن الأوتار لا ترد شيئا . وكذا قال ابن الجوزي وغيره .
وقال الجاحظ : ويؤيده حديث عقبة بن عامر ، رفعه : ( من تعلق تميمة فلا أتم الله له ) رواه أبو داود ، وهي ما علق من القلائد خشية العين ونحو ذلك . انتهى .
قال المصنف : " وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن الرقى والتمائم والتولة شرك ) رواه أحمد وأبو داود " .
وفيه قصة ، ولفظ أبي داود : عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت : ( إن عبد الله رأى في عنقي خيطا ، فقال : ما هذا ؟ قلت : خيط رقي لي فيه . قالت : فأخذه ثم قطعه ، ثم قال : لأنتم آل عبد الله لأغنياء عن الشرك ، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول : إن الرقى والتمائم والتولة شرك . فقلت : لقد كانت عيني تقذف ، وكنت أختلف إلى فلان اليهودي فإذا رقى سكنت . فقال عبد الله : إنما ذاك عمل الشيطان ، كان ينخسها بيده ، فإذا رقى كف عنها ، إنما كان يكفيك أن تقولي كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أذهب الباس ، رب الناس ، واشف أنت الشافي ، لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما ) .ورواه ابن ماجه وابن حبان والحاكم وقال : صحيح وأقره الذهبي .
قوله : " إن الرقى " قال المصنف : ( هي التي تسمى العزائم ، وخص منه الدليل ما خلا من الشرك ، فقد رخص فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من العين والحمة ) يشير إلى أن الرقى الموصوفة بكونها شركا هي التي يستعان فيها بغير الله ، وأما إذا لم يذكر فيها إلا أسماء الله وصفاته وآياته ، والمأثور عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فهذا حسن جائز ، أو مستحب .
قوله : ( فقد رخص فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من العين والحمة ) كما تقدم ذلك في باب من حقق التوحيد . وكذا رخص في الرقى من غيرها ، كما في صحيح مسلم ، عن عوف بن مالك
( كنا نرقي في الجاهلية ، فقلنا : يا رسول الله ، كيف ترى في ذلك ؟ فقال : اعرضوا علي رقاكم . لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا )
وفي الباب أحاديث كثيرة .
قال الخطابي : وكان عليه السلام قد رقى ورقي ، وأمر بها وأجازها ؛ وإنما جاءت الكراهة والمنع فيما كان منها بغير لسان العرب ؛ فإنه ربما كان كفرا أو قولا يدخله شرك .
قلت : من ذلك ما كان على مذاهب الجاهلية التي يتعاطونها ، وأنها تدفع عنهم الآفات ويعتقدون أن ذلك من قبل الجن ومعونتهم ، وبنحو هذا ذكر الخطابي .
وقال شيخ الإسلام : كل اسم مجهول فليس لأحد أن يرقي به فضلا عن أن يدعو به ، ولو عرف معناه ؛ لأنه يكره الدعاء بغير العربية ، وإنما يرخص لمن لا يحسن العربية ، فأما جعل الألفاظ الأعجمية شعارا فليس من دين الإسلام .
وقال السيوطي : قد أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاثة شروط : أن تكون بكلام الله أو بأسمائه وصفاته ، وباللسان العربي وما يعرف معناه ، وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها بل بتقدير الله تعالى .
قوله : " والتمائم " قال المصنف : " شيء يعلق على الأولاد من العين " وقال الخلخالي : التمائم : جمع تميمة ، وهي ما يعلق بأعناق الصبيان من خرزات وعظام لدفع العين ، وهذا منهي عنه ؛ لأنه لا دافع إلا الله ، ولا يطلب دفع المؤذيات إلا بالله وبأسمائه وصفاته .
قال المصنف : " لكن إذا كان المعلق من القرآن فرخص فيه بعض السلف ، وبعضهم لم يرخص فيه ويجعله من المنهي عنه . منهم ابن مسعود " .
اعلم أن العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم اختلفوا في جواز تعليق التمائم التي من القرآن وأسماء الله وصفاته ، فقالت طائفة : يجوز ذلك . وهو قول عبد الله بن عمرو بن العاص ، وهو ظاهر ما روي عنعائشة ، وبه قال أبو جعفر الباقر وأحمد في رواية . وحملوا الحديث على التمائم التي فيها شرك .
|
(الجزء رقم : 15، الصفحة رقم: 53) |
|
وقالت طائفة : لا يجوز ذلك ، وبه قال ابن مسعود وابن عباس . وهو ظاهر قول حذيفة وعقبة بن عامر وابن عكيم ، وبه قال جماعة من التابعين ، منهم أصحاب ابن مسعود وأحمد في رواية اختارها كثير من أصحابه وجزم بها المتأخرون ، واحتجوا بهذا الحديث وما في معناه .
قلت : هذا هو الصحيح ؛ لوجوه ثلاثة تظهر للمتأمل . الأول : عموم النهي ولا مخصص للعموم ، الثاني : سد الذريعة ؛ فإنه يفضي إلى تعليق ما ليس كذلك ، الثالث : أنه إذا علق فلا بد أن يمتهنه المعلق بحمله معه في حال قضاء الحاجة والاستنجاء ونحو ذلك .
وتأمل هذه الأحاديث وما كان عليه السلف - رضي الله تعالى عنهم - يتبين لك بذلك غربة الإسلام ، خصوصا إن عرفت عظيم ما وقع فيه الكثير بعد القرون المفضلة من تعظيم القبور واتخاذ المساجد عليها والإقبال عليها بالقلب والوجه ، وصرف جل الدعوات والرغبات والرهبات وأنواع العبادات التي هي حق الله تعالى إليها من دونه ، كما قال تعالى : (وَلاَ تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ
(106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ )
ونظائرها في القرآن أكثر من أن تحصر .
قوله : " التولة " قال المصنف : هي " شيء يصنعونه يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها ، والرجل إلى امرأته " . وبهذا فسرها ابن مسعود راوي الحديث ، كما في صحيح ابن حبان والحاكم " قالوا : يا أبا عبد الرحمن ، هذه الرقى والتمائم قد عرفناها . فما التولة ؟ قال : شيء تصنعه النساء يتحببن به إلى أزواجهن " .
قال الحافظ : التولة - بكسر المثناة وفتح الواو واللام مخففا - شيء كانت المرأة تجلب به محبة زوجها ، وهو ضرب من السحر . والله أعلم .
|
(الجزء رقم : 15، الصفحة رقم: 54) |
|
وكان من الشرك لما يراد به دفع المضار وجلب المنافع من غير الله تعالى .
قال المصنف : " وعن عبد الله بن عكيم مرفوعا : ( من تعلق شيئا وكل إليه ) رواه أحمد والترمذي " ورواه أبو داود والحاكم . و عبد الله بن عكيم : هو بضم المهملة مصغرا . ويكنى أبا معبد الجهني الكوفي . قالالبخاري : أدرك زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا يعرف له سماع صحيح . وكذا قال أبو حاتم . قال الخطيب : سكن الكوفة وقدم المدائن في حياة حذيفة . وكان ثقة . وذكر ابن سعد عن غيره : أنه مات في ولاية الحجاج .
قوله : (من تعلق شيئا وكل إليه ) التعلق يكون بالقلب ويكون بالفعل ، ويكون بهما " وكل إليه " أي : وكله الله إلى ذلك الشيء الذي تعلقه ، فمن تعلق بالله وأنزل حوائجه به ، والتجأ إليه ، وفوض أمره إليه ، كفاه وقرب إليه كل بعيد ويسر له كل عسير ، ومن تعلق بغيره أو سكن إلى رأيه وعقله ودوائه وتمائمه ونحو ذلك ، وكله الله إلى ذلك وخذله ، وهذا معروف بالنصوص والتجارب ، قال تعالى (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ )
.
وقال الإمام أحمد : حدثنا هشام بن القاسم ، حدثنا أبو سعيد المؤدب ، حدثنا من سمع عطاء الخراساني قال : لقيت وهب بن منبه وهو يطوف بالبيت فقلت : حدثني حديثا أحفظه عنك في مقامي هذا وأوجز . قال : نعم ، أوحى الله تبارك وتعالى إلى داود : يا داود ، أما وعزتي وعظمتي ، لا يعتصم بي عبد من عبادي دون خلقي ، أعرف ذلك من نيته ، فتكيده السماوات السبع ومن فيهن ، والأرضون السبع ومن فيهن إلا جعلت له من بينهن مخرجا ، أما وعزتي وعظمتي لا يعتصم عبد من عبادي بمخلوق دوني ، أعرف ذلك من نيته ، إلا قطعت أسباب السماء من يده ، وأسخت الأرض من تحت قدميه ، ثم لا أبالي بأي أوديتها هلك .
قال المصنف : " وروى الإمام أحمد عن رويفع قال : قال لي رسول الله |
(الجزء رقم : 15، الصفحة رقم: 55) |
|
صلى الله عليه وسلم : (يا رويفع ، لعل الحياة ستطول بك ، فأخبر الناس أن من عقد لحيته أو تقلد وترا أو استنجى برجيع دابة أو عظم ، فإن محمدًا بريء منه ) .
الحديث رواه الإمام أحمد عن يحيى بن إسحاق والحسن بن موسى الأشيب كلاهما عن ابن لهيعة . وفيه قصة اختصرها المصنف . وهذا لفظ الحسن : حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا عياش بن عباس عن شييم بن بيتانقال : حدثنا رويفع بن ثابت قال : (كان أحدنا في زمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأخذ جمل أخيه على أن يعطيه النصف مما يغنم وله النصف ، حتى إن أحدنا ليصير له النصل والريش ، وللآخر القدح . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ) الحديث . ثم رواه أحمد عن يحيى بن غيلان ، حدثني الفضل ، حدثنا عياش بن عباس : أن شييم بن بيتان أخبره ، أنه سمع شيبان القتباني . الحديث . ابن لهيعة فيه مقال . وفي الإسناد الثاني : شيبان القتباني . قيل فيه : مجهول . وبقية رجالهما ثقات .
قوله : " لعل الحياة ستطول بك " فيه عَلَم من أعلام النبوة ؛ فإن رويفعا طالت حياته إلى سنة ست وخمسين فمات ببرقة من أعمال مصر أميرا عليها ، وهو من الأنصار . وقيل : مات سنة ثلاث وخمسين .
قوله : " فأخبر الناس " دليل على وجوب إخبار الناس ، وليس هذا مختصا برويفع ، بل كل من كان عنده علم ليس عند غيره مما يحتاج إليه الناس وجب إعلامهم به فإن اشترك هو وغيره في علم ذلك فالتبليغ فرض كفاية ، قاله أبو زرعة في شرح سنن أبي داود .
قوله : " أن من عقد لحيته " بكسر اللام لا غير ، والجمع لحى بالكسر والضم . قاله الجوهري قال الخطابي : أما نهيه عن عقد اللحية فيفسر على وجهين . أحدهما : ما كانوا يفعلونه في الحرب ، كانوا يعقدون لحاهم ، وذلك من زي بعض الأعاجم يفتلونها ويعقدونها . قال أبو السعادات : تكبرا وعجبا ، ثانيهما : أن معناه معالجة الشعر ليتعقد ويتجعد وذلك من فعل أهل التأنيث . قال أبو زرعة بن العراقي : والأولى حمله على عقد اللحية في الصلاة ، كما دلت عليه رواية محمد بن الربيع . وفيه " أن من عقد لحيته في الصلاة " .
|
(الجزء رقم : 15، الصفحة رقم: 56) |
|
قوله : " أو تقلد وترا " أي : جعله قلادة في عنقه أو عنق دابته . وفي رواية محمد بن الربيع : " أو تقلد وترا يريد تميمة " .
فإذا كان هذا فيمن تقلد وترا فكيف بمن تعلق بالأموات ، وسألهم قضاء الحاجات ، وتفريج الكربات ، الذي جاء النهي عنه وتغليظه في الآيات المحكمات ؟
قوله : (أو استنجى برجيع دابة أو عظم فإن محمدا بريء منه ) قال النووي : أي برئ من فعله ، وهذا خلاف الظاهر . والنووي كثيرا ما يتأول الأحاديث بصرفها عن ظاهرها ، فيغفر الله تعالى له .
وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا (لا تستنجوا بالروث ولا العظام ؛ زاد إخوانكم من الجن ) " وعليه لا يجزئ الاستنجاء بهما ، كما هو ظاهر مذهب أحمد ؛ لما روى ابن خزيمة والدارقطني ، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يستنجى بعظم أو روث ، وقال : إنهما لا يطهران .
قوله : " وعن سعيد بن جبير قال : (من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة ) . رواه وكيع " هذا عند أهل العلم له حكم الرفع ؛ لأن مثل ذلك لا يقال بالرأي ، ويكون هذا مرسلا ؛ لأن سعيد تابعي وفيه : فضل قطع التمائم ؛ لأنها شرك .
ووكيع : هو ابن الجراح بن وكيع الكوفي ، ثقة إمام صاحب تصانيف ، منها الجامع وغيره . روى عنه الإمام أحمد وطبقته . ومات سنة سبع وتسعين ومائة .
وقوله : " وله عن إبراهيم قال : كانوا يكرهون التمائم كلها من القرآن وغير القرآن " . وإبراهيم هو الإمام إبراهيم بن يزيد النخعي الكوفي ، يكنى أبا عمران ، ثقة من كبار الفقهاء . قال المزي : دخل على عائشة ، ولم يثبت له سماع منها ، مات سنة ست وتسعين ، وله خمسون سنة أو نحوها .
قوله : " كانوا يكرهون التمائم - إلى آخره " مراده بذلك : أصحاب عبد الله بن مسعود ، كعلقمة والأسود وأبي وائل والحارث بن سويد ، وعَبِيدة |
(الجزء رقم : 15، الصفحة رقم: 57) |
|
السلماني ومسروق والربيع بن خثيم وسويد بن غَفَلة وغيرهم ، وهم من سادات التابعين ، وهذه الصيغة يستعملها إبراهيم في حكاية أقوالهم ، كما بين ذلك الحفاظ كالعراقي وغيره .