تجويد المنشاوي (دراسة وتحليل)
ملخص البحث
تناولت في هذا البحث سيرةَ المقرئ الشَّيخ محمَّد صدّيق المنشاوي وتلاوته لكتاب الله، ولم يكن القصد هو السَّرد التقليدي؛ بل لأجْل الاعتبار والتذْكِرة، وجعل الشيخ - رحمه الله - أنموذجًا للقارئ المثالي المرتِّل لكتاب الله حقَّ تلاوته، وقد تناولت ضِمْن البحث منهجَ الشيخ في تلاوته لكتاب الله - الترتيل والتجويد، والأداء والأسلوب - وتوسَّعت فيه؛ إذ كان هذا هو المقصود من هذا البحث، وقد قسمت البحث إلى أحدَ عشرَ فصلاً، تناولتُ في كلِّ فصلٍ موضوعًا مستقلاًّ، ومن ذلك: طريقة وأسلوب الشَّيخ في تلاوته للقرآن، وبعده عن أسلوب التِّلاوة عن طريق تعلُّم النَّغَم والموسيقى ممَّا لا يليق وعظمةَ كِتاب الله، وهو الفصْل السَّابع والثَّامن، وقبل ذلك تناولتُ بداية الشَّيخ ونبوغه، ثمَّ تربيته المثالية لأبنائِه، ثم أقاربه إلى العالم أجمع من خِلال تجويده للقرآن، وتناولت صبرَه على حسَّاده، ثمَّ صرامته في الحق، ثمَّ رحلته وتطْوافه في العالم الإسلامي، وهو الفصل التَّاسع، وختمت البحث بِجملة آداب ووصايا تنفع العالِم والمتعلِّم، إلى غير ذلك من المواضيع والفوائِد التي تخلَّلت البحث، أرجو من الله أن يتقبَّلها منِّي، ويجعلَها خالصةً لوجهِه الكريم، ولا يجعل لأحدٍ فيها شيئًا، وبالله التوفيق ومنْه نستمدُّ العوْن والمدَد.
المقدمة
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على خاتَم الأنبِياء والمرسلين محمَّد بن عبدالله، وعلى آله وصحْبِه إلى يوم الدّين.
وبعد:
كنتُ قدِ اقترحتُ على روَّاد أحد المنتديات الإسلاميَّة أن يتبنَّى أحدٌ منهم الكِتابةَ عن تُراث الشَّيخ المقرئ محمَّد صدِّيق المنشاوي - رحمه الله -وقبل ذلك أن يتبنَّى أحدٌ من طلاب الجامعات ممَّن له اهتِمام بعلوم القرآن والقراءات، أو علم التَّاريخ وما يتعلَّق به من تراجم لأعلامِ الفكر والأدَب والثَّقافة والدين - الكتابةَ عن حياة القرَّاء، أمثال المنشاوي والحصري[1] وغيرهما، على شكْل أطروحة أو رسالة، ووفق خطَّة واضحة المعايير، تتوفَّر فيها كلّ متطلَّبات الرَّسائل الجامعيَّة، فطال انتظاري ولم أرَ أيَّ إجابة!
بيْنما الأقلام تتبارى وتتنافس في الكتابة عن الفنَّانين والفنَّانات - أهل الطرَب والغناء - وتفاصيل حياتِهم، أقلُّ ما يقال فيها أنَّها تافهة، لاتُسمن ولا تغني من جوع، بل ضرُّها أكثر من نفعِها، ممَّن لا يستحقُّون أن يسطر فيهم قلم، أو يكتب لهم ترجمة على ورق، وهذا لعمري ممَّا يُدْمِي القلب ويُحْزِن النَّفس، وذلك ممَّا دفعني إلى خوْض هذا المضمار، والدُّخول في تلكم الحلبة، ومع ما في جعْبتي من معلومات عن الشَّيخ المنشاوي - رحمه الله- جمعتُها من محبِّيه، كنت قد دوَّنتُ بعضًا منها في مجموعة من المنتديات، يُضاف إلى ذلك حبِّي للشَّيخ منذ الصِّغَر، فعزمت على الشُّروع في المقصود، والدُّخول في التَّفاصيل تَحت عدَّة عناوين ومسمَّيات متنوِّعة، وبِما يتناسب مع الموضوع، مع جُملةٍ من الفوائد والفرائد تنفع العالم والمتعلِّم، كلّها أدخلْتُها تحت عنوان كبير أسميته "منهج المنشاوي في تلاوته للقُرآن - الأسلوب والأداء"، ليس المقصود منها السَّرد التاريخي التقليدي المجرَّد، بل لأجل العبرة والعِظة، ولم أتناول حياة مقرئٍ آخر لأن القصد جعل الشَّيخ المنشاوي - رحِمه الله - أنموذجًا للقارئ المثالي يُحتذى به، مع أنِّي متأكِّد أنَّ هناك قرَّاء مثل المنشاوي - كالبنَّا والحصري والبهتيمي وغيرهم- هم في مستواه أو دونه، وقد أدْرجت هذه الومضات ضمن فصول، كل فصل تناول موضوعًا مستقلاًّ، وقد تناولت في تلك الفصول: منهجَ الشَّيخ في تلاوته للقرآن، وطريقة أسلوبِه وأدائه في تلاوتِه لكتاب الله - التَّجويد والتَّرتيل[2] - وبُعْده عن أسلوب التلاوة عن طريق النغَم والموسيقى ممَّا لا يتَّفق مع عظمة كتاب الله وإجْلاله.
وقبل ذلك تناولتُ بداية الشيخ ونبوغه، ثم تربيته المثالية لأبناءِ أسرته ثم أقاربِه إلى العالم أجمع، وتناولت كذلِك صبرَه على حسَّاده ومُناوئيه، ثم صرامته في الحق، ثم رحلته وتطوافه إلى العالم الإسلامي، وشهرته وصيته، وأخيرًا آداب ووصايا لحمَلَة كتاب الله، ومن يتْلون كتاب الله ويرتِّلونه، إلى غير ذلك من المواضيع الهامَّة قد لا تَجِدها مدوَّنة في كتاب أو مجموعة في بَحث، وبالله التَّوفيق وأرجو أن يكون عملي ذلك خالصًا لله - تعالى سبحانه - وأن ينفع به مَن شاء من عباد الله، إنَّه وليُّ التَّوفيق.
الفصل الأوَّل
(التربية والنشأة)
تتَّفق المؤسَّسات التربوية على اختِلاف مناهجها وطرُقِها على أهميَّة دور الأسرة[3] في التَّربية وتنشئة الأجيال، فهي المحضن الأوَّل في تكْوين شخصيَّة الإنسان؛ ولذا أوْلى الإسلامُ عنايةً خاصَّة بتكوين الأُسرة على أساس معرِفة المبادئ الإسلاميَّة التي تكون الأسرة الصَّالِحة، ولا تُعَدُّ الأسرة مؤسَّسة تربويَّة إلاَّ إذا روعي في أبنائِها التَّوجيهات التِي حدَّدها الإسلام، ومن ضِمْنِها أن يكون نواة الأسرة وما يتفرَّع منهما - وهما الأب والأم -على المنهج القويم، والثاني: أن تكون الأسرة على معرِفة ودراية بالتَّربية الحقَّة، والتي من خلالها يُمكن صياغة المسلم الصَّالح؛ ولذا اهتمَّ دينُنا الحنيف بمراحل بناء الأسرة اهتِمامًا بالغًا؛ لأنَّها هي عماد المجتمع وأساس بنائه، ومن تَماسُكها يستمد المجتمع قوَّته، وفي ظلالها يتربَّى الفرد الصَّالح، وتنمو المَشاعر الصَّالحة، مشاعر الأبوَّة والأمومة والبنوَّة والأخوَّة، ويتعلَّم النَّاس التعاوُن على الخير وعلى البِرِّ.
وهذا ينطبق تمامًا على الشَّيخ محمَّد المنشاوي وأسرته، فهي ابتداءً أسرة تربَّت على رسالة الإسلام وتعاليمه وحدوده، وأخذت على عاتِقها حَمْلَ رسالة القرآن وتعاليمه إلى النَّاس كافَّة، فوالد الشَّيخ صدّيق المنشاوي[4] - رحمه الله - كان قارئًا ذاع صِيته في مصر معلِّمًا ومربِّيًا وموجِّهًا قبل أن يكون قارئًا، وأنت تقرأ سيرة العائِلة المباركة فلا تجِد أحدًا ممَّن له صلةٌ بهذه الشَّجرة إلاَّ وله نصيبٌ وحظٌّ من العلم والفقه والدين والتَّقوى، وفي هذا الجوِّ والمحيط خرجت تلكم النَّبتة المباركة، والَّتي أضحتْ فيما بعد لها الرِّيادة والدَّور البارز في تَخريج الأجْيال على هدي القرآن وتعاليمه، والتأثُّر بالقرآن الكريم من خلال الاستِماع إلى تلاوته وتجويده.
بداية نبوغ الشيخ:
تبدأ القصَّة من حين التِحاق الشيخ محمد صديق المنشاوي بكتَّاب القرية، والتي يتولاَّها عادة معلِّم يقوم بتعليم الصِّبْيان تعاليم الإسلام وتلْقينهم سور القرآن وآياته، ليتمكَّنوا بعدها من الالتِحاق بالمدارس الدينيَّة، والتي تعلِّمهم العلوم الإسلاميَّة المختلفة، كالفِقْه والنَّحْو وعلوم الحديث والقرآن، التحق الشَّيخ في سنٍّ مبكِّرة وعمره أرْبع سنين، فرأى شيخُه أبو مسلم[5] مَخايل الذَّكاء والموهبة من سُرْعة الحفظ، وحلاوة الصَّوت، والجدّ والمثابرة على حضور الدَّرس، فكان يقوم بتشْجيعه ويهتمُّ به كثيرًا، وهذا يذكِّرنا بالعلماء الربَّانين الَّذين شهِد لهم معلِّموهم بالذَّكاء والتفوُّق أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية، فقد كان أعجوبة زمانِه في الحفظ، وقد حُكِي أنَّ بعض مشايخ حلب قدِم دمشق لينظُر إلى حفظ الشَّيخ، فسأل عنه فقيل: الآن يَحضُر، فلمَّا حضر ذَكَرَ له أحاديثَ فحفِظَها من ساعتِه، ثمَّ أملى عليْه عدَّة أسانيد انتخَبَها ثمَّ قال: اقرأ هذا، فنظر فيه كما فعل أوَّل مرَّة، فقام الشَّيخ الحلبي وهو يقول: إن عاش هذا الفتى ليكوننَّ له شأن عظيم، فإنَّ هذا لم يُرَ مثله، وقال الشَّيخ شرف الدّين: أنا أرْجو بَرَكَتَه ودُعاه وهو صاحبي وأخي، ذكر ذلك البرزالى في تاريخه[6]، مع الفرْق بين العالِم والمقرئ.
والمنشاوي هو معلّم وموجّه لكن من خلال تلاوتِه لكتاب الله، والموهبة لا تقتصِر على نوع معيَّن من العلوم، بل تشمل التَّفكير والصَّوت والكلام، والمسائل المعنويَّة، من صبرٍ وحِلْمٍ وشجاعةٍ وأدبٍ وبيان وغير ذلك، والموْهِبة - كما يقولون - عبارةٌ عن: تفوُّق في قدُرات الشَّخص الذهنيَّة والعقليَّة.
لقد ظهرتْ مواهب جمَّة في الإسلام بفضْل تعاليم الإسلام وتوْجيهات الرَّسول -صلى الله عليه وسلم-والَّذي كان يقوم بنفسِه باكتشاف المواهب ورعايتِها وتوجيهها، فقدِ اكتشف الرَّسولُ موْهِبة الأشعري في الصَّوت وهو يترنَّم بالقرآن ويتغنَّى به، وكان -صلى الله عليه وسلم- يُصْغي إليه بل ويشجِّعه، فقد روى أبو موسى الأشعري - رضي الله عنْه - أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: ((لوْ رأيتَني وأنا أستمِع لقراءتِك البارحة، لقد أوتيتَ مزمارًا من مزامير آل داود))[7]،وينصت إلى قراءة أبي موسى؛ لأنَّه كان حسن الصَّوت، جيِّد التلاوة، وفي بعض الرِّوايات قال أبو موسى: "أما إنّي لو علِمت أنَّك تسمعني لحبَّرته لك تَحبيرًا"[8]؛ أي: لزدت في الإتْقان وفي حسن الصَّوت وجَمال التِّلاوة.
وما ذلك إلاَّ إقرارٌ من الرَّسول على أهميَّة موهبة الصَّوت في النفوس، وأنَّ لها تأثيرًا بالغًا ومؤثِّرًا في النَّفس.
لقد كان والِد الشَّيخ المنشاوي ومعلِّمه - الأسرة والمدرسة - لهما الأثر في رِعاية موهبة الشَّيخ الصَّوتيَّة، بل في التفوُّق والحفظ، حتَّى أتمَّ حِفْظ القرآن كاملاً وهو في سنّ الثَّامنة من عمرِه، وهذا يدلُّنا على أنَّ الأب والأسرة لهم القُدرة على تفجير الطَّاقة الكامنة في الطّفل، والموهبة كما يقولون[9] كالنبْتة والبرعم الصَّغير الذي يجب رعايتُه بحذَر مرَّة بالسقاية والرِّعاية، ومرَّة بِحفظه وحمايتِه من غوائل الرياح والآفات، وإلاَّ ذبلت تلْكم الأزْهار، ومن هُنا يَجب على الأسرة أن تتعرَّف على مواهب أبنائِها، ثمَّ دراستِها محاوِلةً توْجيهها وفهمها، ومن هُنا بدأَ والِد المنشاوي -رحمه الله - بعد أن عرف موهِبته يوجِّهه للسَّفر بصحبة عمِّه إلى القاهرة لاستِكْمال بقيَّة الدَّرب، من خلال تعلُّم العلوم والمعارف الإسلاميَّة، من فقهٍ وتفْسيرٍ ولغة، وغير ذلك.