من أوهام المعاصرين : تضعيف صيغة السماع بدعوى مخالفتها للعنعنة :
من الأخطاء الحديثية الكبيرة التي رأيتها قد شاعت بين كثير من الباحثين المعاصرين : معاملة روايات التصريح بالسماع مع روايات العنعنة على أنه خلاف في الرواية ، فيجرون عليها أحكام الاختلاف : فيرجحون ما رواه الأحفظ أو الأكثر عددا ، ويعدون رواية الأقل عددا أو المنفرد أو المقبول الأدنى في الضبط روايةً مرجوحة ( شاذة : كما يعبرون ) .
وهذا خطأ كبير ، لم يسبقهم إليه المتقدمون ولا المتأخرون من أهل الحديث !
فلا كان أئمة النقد الأوائل يعلون السماع بمجرد ورود العنعنة ، ولا فعل ذلك الأئمة المتأخرون : كالذهبي وابن حجر العسقلاني . بل مازال الحفاظ والعلماء يدفعون توهم التدليس والإرسال في حديث معنعن بمجرد وروده مرويا بالتصريح بالسماع في رواية من الروايات ، لا يشترطون فيها إلا الثبوت ، ولو من رواية مقبول واحد ، في مقابل عدد من الثقات ، وكثيرا ما يكون في آحادهم من هو أشد إتقانا من راوي التصريح .
وأمثلة ذلك في الصحيحين وغيرهما وفي كلام العلماء المتأخرين ( كابن حجر ) كثيرة ، لا تخفى على طالب .
مما يبين أن هؤلاء المعاصرين : لا اتبعوا منهج أئمة النقد وأهل الاجتهاد المطلق في علوم الحديث ، ولا تقلدوا أئمة الحديث المتأخرين !
ولذلك فقد وجدتهم بتقعيدهم المبتدع هذا يضعفون ما صححه الشيخان ، وما صححه الأئمة . كحديث الحسن البصري عن أبي بكرة رضي الله عنه مرفوعا : (( إن ابني هذا سيد ، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين )) الذي صححه البخاري وشيخه علي بن المديني والترمذي والعجلي وابن حبان والحاكم وغيرهم ، وجاء بعض المعاصرين ليعله بهذه الإعلال المخترع !!
وأما الأئمة : فإنهم لا يعلون صيغة السماع بالصيغ المحتملة بمجرد الاختلاف ، ولكنهم يفعلون ذلك عند وجود قرائن تدل على وهم من ذكر صيغة السماع :
- كتصريح بعدم السماع .
- أو قوة قرائن عدم السماع القوة الكفيلة برد الصيغة ، حتى لو لم تأت رواية بالعنعنة .
- أو لوجود نكارة في الرواية تشكك في اتصالها .
ونحو ذلك من قرائن الضعف .
وأما تفسير هذا التعامل ، وبيان سبب عدم تطبيق قواعد الاختلاف بين الرواة في اختلافهم بذكر السماع وعدم ذكره ، فمرجعه إلى أمر قد غفل عنه هؤلاء المعاصرون : وهو أن رواية العنعنة ( ونحوها من الصيغ الموهمة ) لا تخالف رواية التصريح بالسماع أصلا ! فالعنعنة تحتمل السماع وعدم السماع ، فكيف تكون مخالفة لصيغة حددت أحد احتماليها . فالعنعنة كالإجمال ، والتصريح بالسماع إذا ورد يكون هو بيانه ، والبيان ليس مخالفا للإجمال .
فكيف إذا تذكرنا أن العنعنة ( غالبا ) ليست هي من لفظ الراوي في حكاية الرواية ، وإنما هي من لفظ الراوي عنه ( كما هو معروف عند أهل الاختصاص ) ، وأن المحدثين كانوا كثيرا ما يختصرون صيغ السماع والإداء بذكر العنعنة ، كما نص على ذلك يحيى القطان والخطيب وغيرهما .
لذلك لا يصح لغة واصطلاحا أن نعد رواية التصريح بالسماع مخالفة لرواية عدم التصريح الواردة بالصيغ المحتملة للسماع ولعدم السماع ، كالعنعنة ؛ لأن صيغ السماع لا تخالفها أصلا ؛ إلا إذا جاءت قرينة تقوي القول بعدم السماع ، غير مجرد دعوى الاختلاف.
كتبه الدكتور حاتم بن عارف العوني.