قوله: (وَمَائِعٌ مُسْكِرٌ، وَمَا لَا يُؤْكَلُ مِنْ طَيْرٍ وَبَهَائِمَ مِمَّا فَوْقَ الْهِرِّ خِلْقَةً، وَلَبَنٌ وَمَنِيٌّ مِنْ غَيْرِ آدَمِيٍّ، وَبَوْلٌ، وَرَوْثٌ، وَنَحْوُهَا مِنْ غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ نَجِسَةٌ): ذكر المصنف رحمه الله هنا بعض الأعيان النجسة، فقال:
(وَمَائِعٌ مُسْكِرٌ)؛ كالخمر والنبيذ إذا تخمر وكان مسكرًا؛ وكل ما تخمر وأصبح مسكرًا، فهو نجس في المذهب.
قال ابن قدامة رحمه الله: ((والخمر نجس؛ لقول الله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90]، ولأنه يحرم تناوله من غير ضرر، فكان نجسًا كالدم، والنبيذ مثله؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» رواه مسلم، ولأنه شراب فيه شدةٌ مطربة، أشبه الخمر([1])))اهـ.
فالمذهب على أن الخمر نجسة، وهو قول جمهور العلماء؛ ولكن الصحيح أنه ليس هناك دليل على نجاستها.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ((جمهور العلماء ومنهم الأئمَّة الأربعة، واختاره شيخ الإِسلام أنَّها نجسة، واستدلُّوا بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90] . والرِّجس: النَّجَس؛ بدليل قوله تعالى: {قُلْ لاَ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145]، ولا مانع من أن تكون في الأصل طيِّبة؛ ثم تنقلب إِلى نجسة بعلَّة الإِسكار؛ كما أن الإِنسان يأكل الطَّعام وهو طيِّب طاهر ثم يخرج خبيثًا نجسًا.
واستدلُّوا أيضًا بقوله تعالى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإِنسان: 21] يعني في الجَنَّة، فدلَّ على أنه ليس كذلك في الدُّنيا.
والصَّحيح: أنها ليست نجسة، والدَّليل على ذلك ما يلي:
1- حديث أنس رضي الله عنه: «أنَّ الخمرَ لمَّا حُرِّمت خرج النَّاس، وأراقوها في السِّكك»، وطُرقات المسلمين لا يجوز أن تكون مكانًا لإِراقة النَّجاسة، ولهذا يَحرُم على الإِنسان أن يبولَ في الطَّريق؛ أو يصبَّ فيه النَّجاسة.
2- أنَّه لما حُرِّمت الخمر لم يؤمروا بِغَسْل الأواني بعد إِراقتها، ولو كانت نجسة لأُمروا بِغَسْلها، كما أُمروا بِغَسْل الأواني من لحوم الحُمُر الأهليَّة حين حُرِّمت في غزوة خيبر.
3- ما رواه مسلم أن رجلًا جاء براوية خمر فأهداها للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فقال: «أما علمتَ أنَّها حُرِّمت؟» فَسَارَّةُ رجلٌ أنْ بِعْها، فقال النبيُّ صلّى الله عليه وسلَّم: «بِمَ سارَرْتَهُ؟» ، قال: أمَرْتُهُ ببيعِهَا، فقال النبيُّ صلّى الله عليه وسلَّم: «إِن الذي حَرَّمَ شُرْبَها حَرَّمَ بَيْعَها» ، ففتح الرجلُ المزادة حتى ذهب ما فيها. وهذا بحضرة النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ولم يَقُلْ له: اغْسلِها، وهذا بعد التَّحريم بلا ريب.
4- أنَّ الأصل الطَّهارة حتى يقوم دليل النَّجاسة، ولا دليل هنا. ولا يلزم من التحريم النجاسة؛ بدليل أن السُمَّ حرام وليس بنجس.
والجواب عن الآية: أنَّه يُراد بالنَّجاسةِ النَّجاسةُ المعنويَّة، لا الحسِّيَّة لوجهين:
الأول: أنها قُرِنَت بالأنصاب والأزلام والميسر، ونجاسة هذه معنويَّة.
الثاني: أن الرِّجس هنا قُيِّد بقوله: {مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} فهو رجسٌ عمليٌّ، وليس رجسًا عينيًّا تكون به هذه الأشياء نجسة.
فإِن قيل: كيف تخالف الجمهور؟.
فالجواب: أن الله تعالى أمر عند التَّنازع بالرُّجوع إلى الكتاب والسُّنَّة، دون اعتبار الكثرة من أحد الجانبين، وبالرُّجوع إلى الكتاب والسُّنَّة يتبيَّن للمتأمِّل أنه لا دليل فيهما على نجاسة الخمر نجاسة حسيَّة، وإِذا لم يَقُم دليل على ذلك فالأصل الطَّهارة، على أننا بيَّنَّا من الأدلَّة ما يَدُلُّ على طهارته الطَّهارة الحسيَّة([2])))اهـ.
قال: (وَمَا لَا يُؤْكَلُ مِنْ طَيْرٍ وَبَهَائِمَ مِمَّا فَوْقَ الْهِرِّ خِلْقَةً)؛ كَصَقْرٍ، وَبُومٍ، وَعُقَابٍ، وَحَدَأَةٍ، وَنَسْرٍ، وَغُرَابٍ؛ وَكَبَغْلٍ، وَحِمَارٍ، وَأَسَدٍ، وَنَمِرٍ، وَفَهْدٍ، وَذِئْبٍ، وَكَلْبٍ، وَخِنْزِيرٍ، وَدُبٍّ وَقِرْدٍ، وَسِمْعٍ: هُوَ وَلَدُ ضَبُعٍ مِنْ ذِئْبٍ، وَعِسْبَارُ: وَلَدُ ذِئْبَةٍ مِنْ ضَبُعٍ. والمقصود نجاسة جسدها ولحمها وما يتولد منها حال حياتها؛ وأما حال موتها فهي نجسة بالاتفاق؛ واستدلوا على نجاسة هذه الأشياء بحديثِ ابْنِ عُمَرَ ب, عند أحمد وأصحاب السنن، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ه سُئِلَ عَنِ الْمَاءِ وَمَا يَنُوبُهُ مِنَ الدَّوَابِّ وَالسِّبَاعِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الْخَبَثَ([3])».
والصحيح عدم نجاسة هذه الأشياء إلا الكلب والخنزير، وأما ما سواهما فليس هناك دليل صريح على نجاستها، وأما حديث ابن عمر المذكور، فقد أجاب عنه الشوكاني رحمه الله بقوله: ((وَيُمْكِنُ حَمْلُ حَدِيثِ الْقُلَّتَيْنِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ وُرُودَهَا عَلَى الْمَاءِ مَظِنَّةٌ لِإِلْقَائِهَا الْأَبْوَالَ وَالْأَزْبَالَ عَلَيْهِ ([4])))اهـ.
وأما طهارة الهرة فما دونها، فدليله حديث كَبْشَةَ بِنْتِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ - وَكَانَتْ تَحْتَ ابْنِ أَبِي قَتَادَةَ - أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ، دَخَلَ فَسَكَبَتْ لَهُ وَضُوءًا، فَجَاءَتْ هِرَّةٌ فَشَرِبَتْ مِنْهُ، فَأَصْغَى لَهَا الْإِنَاءَ حَتَّى شَرِبَتْ، قَالَتْ كَبْشَةُ: فَرَآنِي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: أَتَعْجَبِينَ يَا ابْنَةَ أَخِي؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ، إِنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَات ِ([5])».
فكان هذا نصًّا في الهرة، وقياسًا على غيرها بجامع التطواف ومشقة التحرز.
وقوله: (وَلَبَنٌ وَمَنِيٌّ مِنْ غَيْرِ آدَمِيٍّ)؛ ومن غير مأكول اللحم - فهذا قيد آخر لا بد منه، لَمْ يذْكرْه المصنف –: نجس كبوله وروثه.
ويُفهم منه أن لبن ومني الآدمي وما يؤكل لحمه طاهر، وهو المشهور في المذهب.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله – مقررًا طهارة مني الآدمي -: ((ولنا في تقرير طهارته ثلاث طُرُق:
1- أنَّ الأصل في الأشياء الطَّهارة، فَمَن ادَّعى نجاسة شيء فَعَلَيْه الدَّليل.
2- أن عائشة رضي الله عنها كانت تَفرُك اليابس من مَنِيِّ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وتَغْسِل الرَّطب منه ، ولو كان نَجِسًا ما اكتفت فيه بالفَرْكِ، فقد قال النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ في دَمِ الحيض يُصيب الثَّوب، قال: «تَحُتُّه، ثمَّ تَقْرُصُه بالماء، ثمَّ تَنْضِحُه، ثمَّ تصلِّي فيه». فلا بُدَّ من الغَسْل بعد الحتِّ، ولو كان المنيُّ نجسًا كان لا بُدَّ من غَسْله، ولم يُجْزِئ فَرْكُ يابِسِه كدَمِ الحيض.
3- أن هذا الماء أصل عِبَاد الله المخلصين من النَّبيين، والصِّدِّيقين، والشُّهداء، والصَّالحين، وتأبى حكمة الله تعالى، أن يكون أصل هؤلاء البَررة نَجِسًا.
ومرَّ رجل بعالمين يتناظران، فقال: ما شأنكما؟ قال: أحاول أن أجعل أَصْلَه طاهرًا، وهو يحاول أن يجعل أصْلَه نجِسًا؛ لأن أحدهما يرى طهارة المنيِّ، والآخر يرى نجاسته.
فإن قيل: لماذا لا يُقال: بأنه نجس كفَضَلات بني آدم من بول، وغائط؟
فالجواب:
1- أنه ليس جميع فضلات بني آدم نجسة، فَرِيقُهُ، ومخاطه، وعَرَقُه كلُّه طاهر.
2- أنَّ هناك فَرْقًا بين البول، والغائط، والمنيِّ؛ فالبول والغائط، فَضْلَةُ الطَّعام والشَّراب، وله رائحة كريهة مستخْبَثَة في مشامِّ الناس ومناظِرِهم، فكان نجسًا، أما المنيُّ فبالعكس فهو خلاصة الطَّعام والشَّراب، فالطَّعام والشَّراب يتحوَّل أولًا إِلى دَمٍ، وهذا الدَّم يسقي الله تعالى به الجسم، ولهذا يمرُّ على الجسم كلِّه، ثم عند حدوث الشَّهوة يتحوَّل إِلى هذا الماء الذي يُخلَق منه الآدميُّ، فالفرق بين الفضْلَتَين من حيثُ الحقيقةُ واضح جدًّا، فلا يمكن أن نُلحِق إِحداهما بالأخرى في الحكْم، هذه فضلة طيِّبَة طاهرة خلاصة، وهذه خبيثة مُنْتِنَة مكْروهة([6])))اهـ. مختصرًا.
وقد ذهب إلى طهارة مني الآدمي كثير من العلماء؛ منهم ابن قدامة، وابن تيمية رحمهما الله.
وقوله: (وَبَوْلٌ، وَرَوْثٌ، وَنَحْوُهَا مِنْ غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ نَجِسَةٌ)؛ أي: ونحو المني واللبن والبول والروث، كالمذي والودي، فهي نجسة إن كانت من غير مأكول اللحم، من حيوان أو إنسان.
فأما الدليل على نجاسة عَذِرَة الإنسان، فهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالاستنجاء والاستجمار منها، وقد أجمع العلماء على نجاسة عَذِرَة الإنسان.
وأما الدليل على نجاسة بوله، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَائِطٍ مِنْ حِيطَانِ المَدِينَةِ، أَوْ مَكَّةَ، فَسَمِعَ صَوْتَ إِنْسَانَيْنِ يُعَذَّبَانِ فِي قُبُورِهِمَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ» ثُمَّ قَالَ: «بَلَى، كَانَ أَحَدُهُمَا لَا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ، وَكَانَ الآخَرُ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ([7])».
وفي لفظ لمسلم: «لَا يَسْتَنْزِهُ عَنِ الْبَوْلِ».
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي طَائِفَةِ المَسْجِدِ، فَزَجَرَهُ النَّاسُ، فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا قَضَى بَوْلَهُ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ فَأُهْرِيقَ عَلَيْهِ([8]).
وقد أجمع العلماء على نجاسة بول الإنسان.
وأما المذي، فهو ماء لزج رقيق يخرج عقيب الشهوة، على طرف الذكر، وظاهر المذهب أنه نجس([9]). ودليل نجاسته، حديث عَلِيٍّ رضي الله عنه، قَالَ: كُنْتُ رَجُلًا مَذَّاءً، وَكُنْتُ أَسْتَحْيِي أَنْ أَسْأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَكَانِ ابْنَتِهِ، فَأَمَرْتُ الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: «يَغْسِلُ ذَكَرَهُ وَيَتَوَضَّأُ([10])».
قال ابن قدامة رحمه الله: ((وَأَمَّا الْوَدْيُ، فَهُوَ مَاءٌ أَبْيَضُ يَخْرُجُ عَقِيبَ الْبَوْلِ خَاثِرٌ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْبَوْلِ سَوَاءً؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ مَخْرَجِ الْبَوْلِ، وَجَارٍ مَجْرَاهُ([11])))اهـ.
وقد نُقل الإجماع على نجاسة المذي والودي.
قال النووي رحمه الله: ((أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى نَجَاسَةِ الْمَذْيِ وَالْوَدْيِ([12]))).
ولكن الصحيح أن فيهما خلاف يسير.
قال ابن قدامة رحمه الله: ((مَا خَرَجَ مِنَ السَّبِيلَيْنِ، كَالْبَوْلِ، وَالْغَائِطِ، وَالْمَذْيِ، وَالْوَدْيِ، وَالدَّمِ، وَغَيْرِهِ؛ فَهَذَا لَا نَعْلَمُ فِي نَجَاسَتِهِ خِلَافًا، إِلَّا أَشْيَاءَ يَسِيرَةً([13])))اهـ.
قلت: والخلاف فيه هو رواية عن أحمد رحمه الله، قال ابن قدامة رحمه الله: ((المذي نجس؛ لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في المذي -: «اغْسِلْ ذَكَرَكَ» ولأنه خارج من الذكر لا يخلق منه الولد، أشبه البول، وعنه: أنه كالمني: لأنه خارج بسبب الشهوة، أشبه المني([14])))اهـ.
وقال ابن رجب رحمه الله: ((وعن أحمد رواية أن المذي طاهر كالمني([15]))).
وقال برهان الدين ابن مفلح رحمه الله: ((وَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ الْوَدْيَ، وَهُوَ مَاءٌ أَبْيَضُ يَخْرُجُ عَقِيبَ الْبَوْلِ نَجِسٌ، وَأَنَّهُ لَا يُعْفَى عَنْهُ مُطْلَقًا، وَصَرَّحَ بِهِ الْأَصْحَابُ، وَعَنْهُ: هُوَ كَالْمَذْيِ([16]))).
وأما روث وبول ما لا يؤكل لحمه، فقد قال ابن قدامة رحمه الله: ((وبول ما لا يؤكل لحمه، ورجيعه نجس؛ لأنه بول حيوان غير مأكول، أشبه بول الآدمي؛ إلا بول ما لا نفس له سائلة، فإن ميتته طاهرة فأشبه الجراد([17])))اهـ.
ويُفهم من كلام صاحب المتن أن الخارج من مأكول اللحم؛ كاللبن والمني والبول والروث طاهر؛ وهي رواية عن أحمد، قال عبد الله رحمه الله: ((سَأَلت أبي: مَا يُستنجس من الابوال؟ فَقَالَ: الأبوال كلُّهَا نَجِسَةٌ إِلَّا مَا يُؤْكَل لَحْمه([18]))).
وفي رواية أخرى أنه نجس أيضًا.
قال ابن قدامة رحمه الله: ((وبول ما يؤكل لحمه ورجيعه طاهر، وعنه أنه كالدم؛ لأنه رجيع، والمذهب الأول؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «صَلُّوا فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ([19])» حديث صحيح، وكان يصلي فيها قبل بناء مسجده([20])، وقال للعرنيين: «انْطَلِقُوا إِلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ فَاشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا ([21])» متفق عليه([22])))اهـ.
قوله: (وَيُعْفَى عَنْ يَسِيرِ طِينِ شَارِعٍ عُرْفًا؛ إِنْ عُلِمَتْ نَجَاسَتُهُ، وَإِلَّا فَطَاهِرٌ)؛ قال البهوتي رحمه الله: ((وَطِينُ شَارِعٍ ظُنَّتْ نَجَاسَتُهُ طَاهِرٌ، وَكَذَا تُرَابُهُ، عَمَلًا بِالْأَصْلِ، فَإِنْ تَحَقَّقَتْ نَجَاسَتُهُ عُفِيَ عَنْ يَسِيرِهِ([23]))).
وقال الرحيباني رحمه الله: ((وَيُعْفَى أَيْضًا عَنْ يَسِيرِ طِينِ شَارِعٍ تَحَقَّقَتْ نَجَاسَتُهُ؛ لِعُسْرِ التَّحَرُّزِ مِنْهُ، وَمِثْلُهُ تُرَابٌ، قَالَ فِي ((الْفُرُوعِ)): وَإِنْ هَبَّتْ رِيحٌ فَأَصَابَ شَيْئًا رَطْبًا غُبَارٌ نَجِسٌ مِنْ طَرِيقٍ أَوْ غَيْرِهِ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْمَسْأَلَةِ([24])))اهـ.
قال ابن قدامة رحمه الله: ((وَاحْتَجَّ – أي: أحمد - بِأَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّابِعِينَ كَانُوا يَخُوضُونَ الْمَطَرَ فِي الطُّرُقَاتِ، فَلَا يَغْسِلُونَ أَرْجُلَهُمْ، لَمَّا غَلَبَ الْمَاءُ الْقَذِرُ؛ وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ خَاضَ طِينَ الْمَطَرِ، وَصَلَّى، وَلَمْ يَغْسِلْ رِجْلَيْهِ، عُمَرُ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا؛ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: كُنَّا لَا نَتَوَضَّأُ مِنْ مَوْطِئٍ، وَنَحْوُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ بِذَلِكَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَعَلْقَمَةُ وَالْأَسْوَدُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَعْقِلِ بْنِ مُقَرِّنٍ وَالْحَسَنُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَعَوَامُّ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ، فَلَا تَزُولُ بِالشَّكِّ([25])))اهـ.
[1])) ((الكافي)) (1/ 158).
[2])) ((الشرح الممتع)) (1/ 430- 432).
[3])) أخرجه أحمد (4605)، وأبو داود (63)، والترمذي (67)، والنسائي (52)، وصححه الألباني في ((الإرواء)) (23).
[4])) ((نيل الأوطار)) (1/ 54).
[5])) أخرجه أحمد (22580)، وأبو داود (75)، والترمذي (92)، والنسائي (68)، وصححه الألباني في ((الإرواء)) (173).
[6])) ((الشرح الممتع)) (1/ 454، 455).
[7])) متفق عليه: أخرجه البخاري (216)، ومسلم (292).
[8])) متفق عليه: أخرجه البخاري (221)، ومسلم (284).
[9])) ((المغني)) (2/ 64).
[10])) متفق عليه: أخرجه البخاري (269)، ومسلم (303).
[11])) ((المغني)) (2/ 64).
[12])) ((المجموع)) (2/ 552).
[13])) ((المغني)) (2/ 64).
[14])) ((الكافي)) (1/ 154).
[15])) ((فتح الباري)) له (1/ 306).
[16])) ((المبدع في شرح المقنع)) (1/ 216).
[17])) ((الكافي)) (1/ 154).
[18])) ((مسائل عبد الله)) (34).
[19])) عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنهما، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَأَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ؟ قَالَ: «إِنْ شِئْتَ فَتَوَضَّأْ، وَإِنْ شِئْتَ فَلَا تَوَضَّأْ» قَالَ أَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ؟ قَالَ: «نَعَمْ فَتَوَضَّأْ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ» قَالَ: أُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ؟ قَالَ: «نَعَمْ» قَالَ: أُصَلِّي فِي مَبَارِكِ الْإِبِلِ؟ قَالَ: «لَا». رواه مسلم.
[20])) عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي، قَبْلَ أَنْ يُبْنَى المَسْجِدُ، فِي مَرَابِضِ الغَنَمِ. متفق عليه.
[21])) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَدِمَ أُنَاسٌ مِنْ عُكْلٍ أَوْ عُرَيْنَةَ، فَاجْتَوَوْا المَدِينَةَ فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِلِقَاحٍ، وَأَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا؛ فَانْطَلَقُوا . . . الحديث. متفق عليه.
[22])) ((الكافي)) (1/ 154، 155).
[23])) ((شرح منتهى الإرادات)) (1/ 109).
[24])) ((مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى)) (1/ 237).
[25])) ((المغني)) (2/ 71).