صفحة ضائعة من (كليلة ودمنة) :
قال الملك للفيلسوف : فهمت المثل الذي ضربته للصديق الأحمق والعدو العاقل ، أفلا ذكرت لي مثالا آخر يعينني على أن أميّز ما قتل من الحب , وما أفسد من دواعي الإصلاح ، وما أشعل الفتنة بيد مطفئيها ، وما عصَّى العامة على ولاتها بخطة من أراد أن يُلزمها الولاء والطاعة ؛ فإن الملوك يحتاجون ذلك أعظم احتياج .
فقال الفيلسوف : أطال الله بقاء الملك ، وزاده حكمة إلى حكمته ؛ فإن ما قادتك إليه فكرتك لهو الحكمة من معدنها ؛ وإني سأضرب لك على ذلك مثالا :
يُحكى أن أسدا كان يحكم غابة ، وكان محبوبا في رعيته ، هو يعرف ذلك منهم ، وهم يعرفون أنه يحفظ لهم حبهم له . فلا يعاملهم بالخوف منهم ، ولا يُخوّن الأمين خوفا من خيانة الخائن ، ولا يبطش بالبريء ليشرّد به من خلفه ممن قد تحدثه نفسه بالتهمة . بل كان يرحم المخطئ ، ؛ ليزداد حب المصيب إليه . ويحلم على العاصي ؛ لتقوى ثقة الطائع بنواله .
حتى قرب الأسد يوما الثور ، وجعله أحد مستشاريه . وكان الثور غيورا ، لا يرضى بأن ينافسه على مشورة الملك أحد . ومع ضرر ذلك الـخُلق على الملك ؛ إلا أن عدم انفراد الثور بالمشورة عند الملك ، هو ما كان قد خفّف من أضرار غيرته ، وإن لم يمنعها . فكان يصيب الملك من غيرة الثور بعض ما يعكر أمر الرعية ، لكنه لم يصل حد الإفساد !!
حتى تسامعت الغابة عن أسد آخر يحكم غابة أخرى ، له طريقة أخرى في الملك ، وسياسة مختلفة في الحكم . وتحدث رعايا الملك عن ذلك الأسد ، ومدحه بعضهم ، وغلا في حبه آخرون ؛ لكن لم يخطر ببال أحد منهم أن يجعله ندا لملكهم ، ولا ظنوا أن الملك يأبه لثنائهم على غيره ؛ لأنهم يثقون بحبه وبمعرفته بولائهم له .
لكن الثور لما سمع هذا الثناء على الأسد الآخر ، صغرت حدقة عينه من شدة الغيرة على ملكه ، وضاق صدره ، حتى كأنما يتنفس من ثقب إبرة ، وارتجف من شدة الغضب . ثم صار يشتم ذلك الأسد ، ويعيب حكمه ، ويكذب في ذكر نقائصه . ولا يكاد يتكلم عنه ؛ إلا ويبيض لسانه ، وترتعد شفتاه ، ويحفر الأرض بأظلافه ، ويحكها بقرنه ؛ من شدة الغيرة على الملك .
فما زال كذلك ؛ حتى توهم الناس أن غيرة الثور من غيرة الملك ، وظنوا أن ملكهم يغار من الأسد الآخر غيرة من يخشى منه على ملكه . وكانوا يظنونه أبعد من ذلك المكان ، وكانوا يُحلونه في محل من لا يخشى على حبه في قلوب رعيته . فحطته غيرة الثور من ذلك المحل الرفيع إلى محل دني ، فصار سفهاء رعيته يغايظونه بالأسد الآخر ، ويطالبونه بما يريدونه منه بمدح ذلك الأسد ، كما يفعل الأب سيء السياسة مع أبنائه ، والرئيس مع العمال تحته ، يثير حفيظتهم بمدح غيرهم ، ويظن ذلك سيدفعهم لزيادة الطاعة والجد !! ومع فشل هذه الخطة للوالد مع أبنائه ، وللرئيس مع مرؤوسيه ، فهي أشد فشلا إذا كانت من الأبناء مع والدهم ، ومن الرعية مع راعيهم !!
فأدرك الأسد خطأ الثور فيما فعل ، وأنه بغيرته تلك قد أفسد ما كان بينه وبين رعيته من الرفعة عن محل السوء ، وأوقعهم في خطور خواطر الفساد على قلوبهم .
لكن الملك عفا عن الثور ، وقال في الاعتذار له : إنه أخطأ من شدة الولاء ، إنه أخطأ من شدة الولاء ، إنه أخطأ من شدة الولاء . كما أخطأ ذلك الرجل الذي فقد راحلته في الصحراء ، وأيقن الهلاك ، فلما وجدها ، قال من شدة الفرح : أللهم أنت عبدي وأنا ربك !! أخطأ من شدة الفرح !!!
فكان هذا العفو أول زلة كبيرة لذلك الأسد ، فانقسمت رعيته إلى فسطاطين ، بعد أن كانوا أسرة واحدة : متزلفين له بالغيرة الشديدة ، ومغايظين له بإثارة غيرته !! فكانوا كنارين : يأكل بعضها بعضا !!
وكان حالهم في ذلك كحال الضبع وفراعله (صغاره) ، على ما سأذكره للملك (أطال الله بقاءه ) إذا أراد في مجلس آخر .
فقال الملك للفيلسوف : قد وعيت عنك ما أومأت إليه ، وسوف أستنطقك بقية خبر الضبع وفراعله في سمرنا القابل .

منقول عن الدكتور حاتم العوني (الصحفة الشخصية-فيس بوك).