العرب مفيد نجم
[نُشر في 05/01/2014، العدد: 9429، ص(15)]


يواصل المركز العربي للأدب الجغرافي- ارتياد الآفاق بأبو ظبي مشروعه الثقافي الخاص بأدب الرحلة تحقيقا ودراسة وتأليفا بالتعاون مع نخبة كبيرة من الباحثين والأكاديميين العرب وتعد جائزة ابن بطوطه تتويجا سنويا لنشاط هذا المركز على هذا المستوى بغية الدفع بالكتاب والباحثين العرب لتقديم أفضل ما لديهم من الدراسات والتحقيقات والتأليف في مجال الرحلة المعاصرة.
ويعد كتاب رحلات البطريرك ديونيسيوس التلمحري في عهد الخليفتين العباسيين المأمون والمعتصم واحدا من الإضافات المهمة في مجال تحقيق المخطوطات قام بها الباحث تيسير خلف، ونال عليها جائزة ابن بطوطه للتحقيق لهذا العام.
أهمية هذه الرحلة تأتي من أنها تؤرخ لمرحلة مهمة من تاريخ الدولة العباسية من موقع الشهادة التي دوّن وقائعها البطريرك التلمحري على فترات متفاوتة من خلال ثلاث رحلات قام بها، وكانت الرحلة الأولى منها إلى بغداد والرحلتان الأخريان إلى مصر.

وإذا كانت رحلته إلى بغداد قد اتسمت بالتكثيف في السرد، فإن رحلتيه إلى مصر كانتا على خلاف ذلك، إذ أفاض فيهما في وصف الأماكن التي زارها هناك، وفي الحديث عن الكثير من العادات عند المصريين.
فلا يكتفي الرحالة بتدوين الوقائع التي كان شاهدا عليها وحسب بل يرسم بدقة بالغة صورا لعدد من الشخصيات التي أثرت في حركة التاريخ كالخليفة المأمون والخليفة المعتصم والأمير عبدالله بن طاهر وأهم القادة العسكريين في تلك الفترة أمثال الأفشين حيدر وعجيف بن عنبسة.
كذلك لم يتوقف عند وصف الخلفاء والقادة بل قدّم معلومات مهمة تخص الثائرين على الدولة العباسية أمثال المبرقع الكردي وتميم بن حرب وابن بيهس الدمشقي ونصر بن عقيل. ويمدنا الرحالة في كتاب رحلاته الذي وضعه في جزءين بمعلومات مهمة أيضا حول واقع الدولة البيزنطية وأخبار الكنيسة المسيحية في المشرق.
بدأ التلمحري رحلاته إلى بغداد من خلال بلاد الجزيرة سعيا وراء الحصول على فرمان اعتراف بسلطته الكنسية بمساعدة من الأمير طاهر بن حسين الخزاعي. وقد أعقبت رحلته الأولى إلى مصر تلك الرحلة وكانت برفقة شقيقه أثناسيوس مطران الرها للاحتجاج على هدم الكنائس حيث انطلقا من أنطاكيّة باتجاه دمشق ومنها إلى ميناء يافا الذي استقلا منه مركبا نحو منطقة الوجه البحري لا سيما مدينة الأسكندرية. أما الرحلة الثانية إلى بغداد فكانت في عهد الخليفة المأمون، وقد جاءت بسبب انقسام الكنيسة أيضا على إثر الفرمان الذي أصدره الخليفة بخصوص الطوائف والجاليات، والذي يسمح لكل عشرة أشخاص أن يقيموا عليهم رئيسا دون أن يكون بمقدور أحد معارضة ذلك.

الرحلة والثورات
استند الباحث خلف في تحقيق هذه الرحلة إلى مجموعة من النصوص السريانية الأصلية التي حصل على بعضها من المتحف البريطاني، إضافة إلى كتاب الإسناد للمستشرق يوحنا شابو بغية القيام بمقارنة ما جاءت به الطبعات المختلفة لهذه الكتب وذلك بغية الوقوف على ما جاء بها، وتصحيح بعض التسميات التي طمست منها بعض الحروف منها أو جرت عملية استبدال لها.

وقد استعان الباحث في تحقيق هذا الكتاب بمجموعة من القواميس العربية- السريانية إلى جانب كتب الجغرافيا وبلدانيات عربية وبعض كتب التاريخ التي تناولت أحداث تلك المرحلة التي يتحدث عنها كتاب الرحلة.
وبهدف الوصول إلى الدقة في أسماء الأعلام والأماكن عاد الباحث إلى النصوص التي تتحدث عن تلك المرحلة من تاريخ الطبري ليجد هناك تطابقا كبيرا بينها وبين نصوص التلمحري ما يؤكد بشكل كبير مصداقية نصوص الرحلة، التي قدمت الكثير من المعلومات الفريدة وفسرت الكثير من المعطيات الواردة في كتاب الطبري.
ويشير الباحث في مقدمة الكتاب إلى ما قام به من حيث إضافة خمس ملاحق إلى كتاب الرحلة تغطي جوانب مختلفة من تاريخ تلك المرحلة الهامة وأحداثها.

ويقدم لمحة واسعة في هذه المقدمة عن الثورات التي شهدها تاريخ الخلافة العباسية وفي المقدمة منها ثورات عرب الشام والجزيرة التي جاءت ردا على صعود طبقة الموالي في عهد تلك الخلافة واحتكارهم لوظائف الدولة الهامة ما أشعر العرب بالغبن ودفع بهم إلى الثورة على الدولة. وإلى جانب ثورات عرب الشام كانت هناك ثورة الكرد التي تروي رحلات البطريرك التلمحري معطيات جديدة تتعلق بثورة بابك الخرمي الكردي الذي كان ثالث زعماء هذه الثورة التي طغت عليها فكرة المهدية التي انتشرت آنذاك قبل ولادة الإمام الحادي عشر الحسن بن العسكري والد الإمام الغائب.
كذلك كانت هناك “ثورة القبط البيّاميين” التي تعرض الرحلة لأدق تفاصيلها وجميع أسبابها و”ثورة الزط” التي تكشف الرحلة فيها، على خلاف المصادر العربية الإسلامية، عن دور الأقباط في القضاء عليها ما زاد من حظوتهم عند الخليفة المعتصم.
الأهمية التاريخية

من خلال ما تقدم تظهر أهمية هذه الرحلة بالنسبة إلى المهتمين بتاريخ تلك المرحلة كون البطريرك التلمحري كان شاهدا على تلك الأحداث ومعايشا لها، وقد قام بتدوينها بعيدا عن أي تأثير وأي خلافات سياسية، كما حدث بالنسبة إلى الكثير من النصوص التاريخية والفقهية.
وتوضح الرحلة أيضا من موقع الشاهد على الحدث ما آلت إليه أوضاع الشام بعد تراجع دورها ومكانتها إثر تحولها من مركز للخلافة الأموية إلى مجرد ولاية تابعة للخليفة العباسي، يعيش فيها سريان مظلومون تمزقهم خلافاتهم الكنسية، في الوقت الذي كان فيه عرب الشام مطاردين من قبل مركز الخلافة باعتبارهم مجرد عصاة يبحثون عن مجدهم الزائل كما كانت تنظر إليهم.
ومن الوقائع التاريخية التي يقدم التلمحري روايته المفصلة حولها واقعة فتح عمورية التي يصحح الكثير مما وصل إلينا عنها من رواية قدمتها قصيدة أبي تمام الشهيرة التي حملت اسم المعركة ( فتح عمورية) والتي قيل فيها أنها كانت استجابة لنداء استغاثة من امرأة عربية موجه إلى الخليفة المعتصم( وا معتصماه) عند دخول الروم إلى تلك المدينة.
يسرد التلمحري في رحلته وقائع تفصيلية حول تلك المرحلة التي احتدمت فيها المعارك بين جيوش الروم وجيوش المسلمين، كاشفا عن حقيقة المأساة التي عاشتها المدينة بعد فتحها والذي تم بالتآمر مع أحد زعماء المدينة، الذي قدم مع وفد الروم للتفاوض مع جيش المسلمين ما يفند المزاعم التي استند إليها المؤرخون المسلمون في عهد المماليك حول واقعة( وا معتصماه)، وما حدث بعدها دون أن يغفل البطريرك بالمقابل الأعمال الوحشية من قتل وسبي وفتك وتقطيع للأعضاء والتي قام بها جنود الروم عند دخولهم إلى مدن المسلمين ( لقد احترق الذين كانوا مختبئين في البيوت وقلالي الكنيسة ثم جمعت غنائم المدينة في مكان واحد. ورأى الخليفة أن الناس ما زالوا كثرة فقتل أربعة آلاف رجل آخرين، واختُطِفَت كافة الأواني الذهبية والفضية والنحاسية بل خطف الجند الناس أيضا فارتفع عويل وبكاء الرجال والنساء والأطفال الذين كانوا يختطفون من أيدي آبائهم. فلما سمع الخليفة صوت العويل تأثر لأنه لم يأمر باختطاف الناس فنهض وقتل بيده ثلاثة رجال وهم يصطحبون عبيدا وأمر بإعادة الناس إلى حيث كانوا مجتمعين).