مُقَدِّمَةٌ لَا بُدَّ مِنْهَاالْحَمْدُ للهِ, وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ.
وَبَعْدُ،،
فَإِنَّ التَّفَقُّهَ فِي دِينِ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنْ أَجَلِّ الْعِبَادَاتِ, وَأَعْظَمِ الْقُرُبَاتِ الَّتِي يَتَقَرَّبُ بِهَا الْعَبْدُ إِلَى رَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, وَالتَّفَقُّهُ فِي دِينِ اللهِ تَعَالَى عَلَامَةٌ عَلَى إِرَادَةِ اللهِ تَعَالَى الْخَيْرَ بِهَذَا الْإِنْسَانِ الْمُتَفَقِّهِ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ([1])».
وَالتَّفَقُّهُ فِي دِينِ اللهِ تَعَالَى لَهُ طُرُقٌ وَسُبُلٌ سَلَكَهَا أَهْلُ الْعِلْمِ وَأَئِمَّتُهُ الْأَوَائِلُ مِنْهُمْ وَالْأَوَاخِرُ؛ فَمَنْ أَرَادَ التَّفَقُّهَ فِي دِينِ اللهِ تَعَالَى فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْلُكَ طَرِيقَ هَؤُلَاءِ, وَيَلْزَمَ غَرْزَهُمْ, وَيَتَّبِعَ سَبِيلَهُمْ؛ فَإِنْ هُوَ فَعَلَ ذَلِكَ – مَعَ إِخْلَاصِ النِّيَّةِ للهِ تَعَالَى - أَنْجَحَ وَأَفْلَحَ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، وَإِنْ هُوَ عَدَلَ عَنْ طَرِيقِهِمْ, وَانْحَازَ عَنْ سَبِيلِهِمْ, صَارَ جَامِدًا فِي مَكَانِهِ لَا يَتَقَدَّمُ, وَقَدْ يَتَأَخَّرُ.
وَمَنْ سَأَلَ: كَيْفَ هِيَ طَرِيقَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي تَحْصِيلِ الْعِلْمِ؟
قَلْنَا: طَرِيقَتُهُمْ مَعْرُوفَةٌ مَعْلُومَةٌ؛ وَهِيَ أَنْهُمْ كَانُوا يَبْدَؤنْ بِالْمُخْتَصَرَ اتِ فِي الْفَنِّ الَّذِي يُرِيدُونَهُ، فَإِنْ أَتْقَنُوا فِيهِ مُخْتَصَرًا رَقَوْا إِلَى مَا هُوَ أَوْسَعُ مِنْهُ، وَهَكَذَا؛ حَتَّى يَصِلُوا إِلَى الْمُطَوَّلَاتِ فِي هَذَا الْفَنِّ.
فَتَجِدَهُمْ فِي الْفِقْهِ – مَثَلًا - يَدْرُسُونَ مَتْنًا مُخْتَصَرًا فِي الْمَذْهَبِ, لَا يَذْكُرُ هَذَا الْمَتْنُ إِلَّا وَجْهًا وَاحِدًا فِي الْمَذْهَبِ, ثُمَّ يَنْتَقِلُونَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى مَتْنٍ مُتَوَسِّعٍ فِي ذِكْرِ الْمَسَائِلِ, ثُمَّ يَنْتَقِلُونَ إِلَى مَتْنٍ يَعْتَنِي بِذِكْرِ الْوُجُوهِ وَالِاخْتِلَافَ اتِ فِي نَفْسِ الْمَذْهَبِ, ثُمَّ بَعْدَ إِتْقَانِ ذَلِكَ يَنْتَقِلُونَ إِلَى الْكُتُبِ الْمُطَوَّلَاتِ الَّتِي تَذْكُرُ الْخِلَافَ الْعَالِي بَيْنَ الْمَذَاهِبِ, وَهُوَ مَا يُسَمَّى بِالْفِقْهِ الْمُقَارَنِ.
وَهَذِهِ الطَّرِيقَةِ عَلَى عَكْسِ مَا عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَعَلِّمِي نَ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ؛ حَيْثُ يَبْدَؤُنَ فِي الدِّرَاسَةِ بِالْمُطَوَّلَا تِ طَمَعًا فِي نَيْلِ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ, فَتَجِدَهُمْ يَقْضُونَ الْأَيَّامَ وَالسِّنِينَ وَالسَّاعَاتِ, وَلَا يَجْنُونَ شَيْئًا إِلَّا تَضْييعَ الْأَوْقَاتِ.
قَالَ الْعَلَّامَةُ عَبْدُ الْقَادِرِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ بَدْرَانَ الْمُتَوَفَّى (1346 ه) فِي كِتَابِهِ ((الْمَدْخَلُ إِلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ)):
((اعْلَمْ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَقْضُونَ السِّنِينَ الطِّوَالَ فِي تَعَلُّمِ الْعِلْمَ, بَلْ فِي عِلْمٍ وَاحِدٍ وَلَا يَحْصُلُونَ مِنْهُ عَلَى طَائِلٍ وَرُبَّمَا قَضَوْا أَعْمَارَهُمْ فِيهِ وَلمْ يَرْتَقُوا عَنْ دَرَجَةِ الْمُبْتَدِئِين َ؛ وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: عَدَمُ الذَّكَاءِ الْفِطْرِيِّ وَانْتِفَاءُ الْإِدْرَاكِ التَّصَوُّرِيِّ وَهَذَا لَا كَلَامَ لَنَا فِيهِ وَلَا فِي عِلَاجِهِ.
وَالثَّانِي: الْجَهْلُ بِطُرُقِ التَّعْلِيمِ وَهَذَا قَدْ وَقَعَ فِيهِ غَالِبُ الْمُعَلِّمِينَ , فَتَرَاهُمْ يَأْتِي إِلَيْهِمُ الطَّالِبُ الْمُبْتَدِئُ لِيَتَعَلَّمَ النَّحْوَ – مَثَلًا - فَيَشْغَلُونَهُ بِالْكَلَامِ عَلَى الْبَسْمَلَةِ, ثُمَّ عَلَى الْحَمْدَلَةِ أَيَّامًا, بَلْ شُهُورًا ليِوُهِمُوهُ سَعَةَ مَدَارِكَهُمْ, وَغَزَارَةَ عِلْمِهِمْ, ثُمَّ إِذَا قُدِّرَ لَهُ الْخَلَاصُ مِنْ ذَلِكَ أَخَذُوا يُلَقِّنُونَهُ مَتْنًا أَوْ شَرْحًا بِحَوَاشِيهِ وَحَوَاشِي حَوَاشِيهِ, وَيَحْشُرُونَ لَهُ خِلَافَ الْعُلَمَاءِ, وَيَشْغَلُونَهُ بِكَلَامِ مَنْ رَدَّ عَلَى الْقَائِلِ وَمَا أُجِيَبَ بِهِ عَنِ الرَّدِّ, وَلَا يَزَالُونَ يَضْرِبُونَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ الْوَتَرِ حَتَّى يَرْتِكِزَ فِي ذِهْنِهِ أَنَّ نَوَالَ هَذَا الْفَنِّ مِنْ قَبِيلِ الصَّعْبِ الَّذِي لَا يَصِلُ إِلَيْهِ إِلَّا مَنْ أُوتِيَ الْوَلَايَةَ وَحَضَرَ مَجْلِسَ الْقُرْبِ وَالِاخْتِصَاصِ ([2]))).
وَقَالَ أَيْضًا رَحِمَهُ اللهُ: وَحَيْثُ إِنَّ كِتَابِي هَذَا مَدْخَلٌ لِعِلْمِ الْفِقْهِ أَحْبَبْتُ أَنْ أَذْكُرَ مِنَ النَّصَائِحَ مَا يتَعَلَّقُ بِذَلِكَ الْعِلْمِ؛ فَأَقُولُ: لَا جَرَمَ أَنَّ النَّصِيحَةَ كَالْفَرْضِ وَخُصُوصًا عَلَى الْعُلَمَاءِ؛ فَالْوَاجِبُ الدِّينِيُّ عَلَى الْمُعَلِّمِ إِذَا أَرَادَ إِقْرَاءَ الْمُبْتَدِئِين َ أَنْ يُقْرِئَهُمْ أَوَّلًا كَتَابَ ((أَخْصَرِ الْمُخْتَصَرَات ِ)) أَوِ ((الْعُمْدَةِ)) للشَّيْخِ مَنْصُورٍ([3])؛ إِنْ كَانَ حَنْبَلِيًّا, أَوِ ((الْغَايَةِ)) لِأَبِي شُجَاعٍ([4]), إِنْ كَانَ شَافِعِيًّا, أَوِ ((الْعَشْمَاوِيَ ّةِ([5]))), إِنْ كَانَ مَالِكِيًّا, أَوْ ((مِنْيَةِ الْمُصَلِّي([6]))), أَوْ ((نُورِ الْإِيضَاحِ([7]))), إِنْ كَانَ حَنَفِيًّا.
وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَشْرَحَ لَهُ الْمَتْنَ بِلَا زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانَ؛ بِحَيْثُ يَفْهَمُ مَا اشْتَمَل عَلَيْهِ, ويَأْمُرُهُ أَنْ يُصَوِّرَ مَسَائِلَهُ فِي ذِهْنِهِ, وَلَا يَشْغَلُهُ مِمَّا زَادَ عَلَى ذَلِكَ([8]))).
[1])) متفق عليه: أخرجه البخاري (71)، ومسلم (1037), من حديث معاوية رضي الله عنه.
[2])) المدخل إلى مذهب أحمد (485), ط الرسالة, تحقيق الشيخ عبد المحسن التركي.
[3])) يقصد متن ((عمدة الطالب لنيل المآرب)) للشيخ منصور بن يونس البهوتي المتوفي سنة (1051) من الهجرة, صاحب ((الروض المربع شرح زاد المستقنع)), وصاحب ((كشف القناع عن متن الإقناع)), وصاحب ((دقائق أولي النهى لشرح المنتهى)), شرح فيه متنًا من أهم متون الحنابلة، ألا وهو ((منتهى الإرادات في الجمع بين المقتع والتنقيح وزيادات)) لتقي الدين محمد بن أحمد الفتوحي، الشهير بابن النجار (972).
ويعد ((عمدة الطالب)) من أنفس المتون الفقهية في المذهب الحنبلي؛ لكون صاحبه من محققي المذهب المتأخرين.
[4])) يقصد متن ((الغاية والتقريب)) في الفقه الشافعي, للقاضي أبي شجاع أحمد بن حسين بن أحمد الأصفهاني, المتوفى (593) من الهجرة.
[5])) يقصد متن ((العشماوية)) في الفقه المالكي, لعبد الباري العشماوي. قال السخاوي في ((الضوء اللامع)) (4/ 23): ((عبد الْبَارِي بن أَحْمد بن عبد الْغَنِيّ بن عَتيق بن الشَّيْخ سعيد بن الشَّيْخ حسن أَبُو النجا العشماوي القاهري الْأَزْهَرِي الْمَالِكِي, مِمَّن سمع مني بِالْقَاهِرَةِ)) .
ومتن العشماوية متن مختصر, اقتصر فيه مصنفه على أحكام الطهارة والصلاة والصيام فقط.
[6])) قال حاجي خليفة في ((كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون)) (1886): ((منية المصلي وغنية المبتدي)) للشيخ، الإمام، سديد الدين، الكاشغري, هو: محمد بن محمد, المتوفى: سنة 705.
أوَّله: (الحمد له رب العالمين ... الخ), وهو: كتاب معروف، متداول بين الحنفية.
[7])) يقصد متن ((نور الإيضاح)) في الفقه الحنفي, للعلامة الشيخ حسن بن عمار أبي الإخلاص المصري الشُّرُنْبُلالي - نسبة لشُبْرَابْلُولة , بلد تجاه منوف العليا بإقليم المنوفية بمصر- الفقيه الحنفي الوفائي, ولد سنة (994), وتوفي سنة (1069) من الهجرة.
[8])) ((المدخل إلى مذهب الإمام أحمد)) (487).