مناهج التحقيق.. بين العرب والغرب
د.فيصل الحفيان
مدير معهد المخطوطات العربية بالقاهرة
كنت حاضرًا وشاهدًا على المؤتمر الكبير الذي عقدته جامعة زيان عاشور بولاية الجلفة (الجزائر) يومي 13 و14 أبريل الماضي، تحت عنوان «مناهج تحقيق المخطوطات بين العرب والغرب»، وقد حشـد مخـبر دراسة وترميم المخطوطات بالجلفة -الملحق بكلية الحقوق بالجامعة- للمؤتمر جهده، وجمع له عددًا كبيرًا من الباحثين، من عدد لا بأس به من البلاد العربية. 
هـذا المؤتمر هو الثاني، فقـد سبقه -العـام المـاضي- مؤتمر كان موضـوعه «علم المخطوطات».
وقد رأيت من منطلق حضوري وشهودي أن أقرأ فكرة المؤتمـر والأوراق التي قدمت فيه قراءة نقدية، ليس بمعنى العرض، وإنما بمعنى تقييد الملاحظات والمساءلة والنقد، وأيضًا التوقف عند بعض البحوث المهمة ذات الإضافات اللافتة.
المناهج تدور في فلك التعليم!
مما يؤسف له أن مسألة المنهج في تحقيق النصوص التراثية أصبحت تدور في فلك التعليم، لا في فلك العلم، وأعني أنه على الرغم من عشرات الكتب التي صدرت حتى الآن في التفكير النظري في التعامل مع النص فإنها تقريبًا كتاب واحد، أشبه بالمتون في العلوم المختلفة، ولذلك فإن الاختلاف بينها لا يعدو أن يكون في العناوين وطريقة التنظيم والترتيب والأمثلة، فمنذ كتاب هارون المؤسس (1954)، وصلاح الدين المنجد (1955)، ورمضان عبدالتواب (1985)، وعبدالله عسيلان (1994) وغيرهم، حتى فخر الدين قباوة (2007)، ونحن تقريبًا أمام مادة علمية واحدة!
إن أهم ما يلفت في هذه الوحدة التي قررناها هو غياب النظرة المنهجية التي تمد العين إلى منهج الآخر، نقصد المنهج الاستشراقي في تحقيق النصوص العربية، على الأقل، لضبط الفروق بين المنهجين، والاطمئنان إلى المسافة الحقيقية الفاصلة بينهما، ومدى أثرها على النصوص وتجلياتها عليها.
إشكالية العنوان
أول ملاحظة أتوقف عندها تتصل بالعنوان الذي وقعت فيه المقابلة بين العرب والغرب، وهي مقابلة لا تصح، فالعرب جنس أو قوم، والغرب مكان أو جهة في مقابل الشرق، وقد يكون الداعي لهذه المقابلة هو السجع وتوافق الفاصلة بين اللفظين، وذلك أمر ثانوي، يؤدي إلى نوع من التجاوز غير المرغوب فيه. كانت المقابلة أولى وأصح بين العرب والمستشرقين، أو بين الشرق والغرب.
ضعف هاجس الموازنة
وعلى الرغم من العنوان الذي قد يوحي بالنزعة الموازنة أو المقارنة فإن أكثر البحوث قد أفلتت من هذا الإطار؛ لتذهب في اتجاه واحد: اتجاه المنهج العربي والمنهج الغربي، كلّا على حدة، مما أضعف- من وجهة نظري- هاجس الموازنة الذي كان ينبغي أن يكون مسيطرًا تمامًا على البحوث جميعًا، وأفقد العنوان بريقه وقيمته الحقيقية، وجعل منه مجرد وعاء فضفاض لعناوين هدفت إلى استقصاء درس المنهج، مرتبطًا حينًا بعلم من أعلام التحقيق (محمد بن أبي شنب الجزائري)، وطائفة من المحققين العرب بصفة عامة حينًا ثانيًا، والمحققين المنسوبين إلى أحد البلاد العربية (العراق) حينًا ثالثًا، والمحققين الغربيين حينًا رابعًا.
واحد فقط من البحوث هو الذي انسجم مع هاجس الموازنة الأساس، وكان تحت عنوان «مناهج تحقيق المخطوطات لدى العرب والغرب: الاتفاق والافتراق» للباحث السوري د.محمود مصري من جامعة إستانبول.. والمفارقة أن هذا الباحث لم يحضر المؤتمر، لكن بحثه وصل، ورآه المشاركون.
وبعيدًا عن الانسجام بين العنوان والبحوث، يجدر أن نلتفت إلى مجموعة من البحوث التي انشغلت بعلم التحقيق في حال تعلقه بالحقل المعرفي للنص، فقد قدم بعض الباحثين رؤى تحقيقية موصولة بعلم القراءات، ونصوص تراجم النحاة، والنصوص التاريخية والجغرافية ونصوص الرحلات.
وهذه النظرة المركبة مهمة في الكشف عن خصوصية العلم (موضوع النص) من جهة التحقيق، فعلى الرغم من أن النص يظل- بغض النظر عن موضوعه- نصا لغويا، والتعامل معه هو في جوهره متجه إليه بهذه الصفة، فإن الموضوع يفرض نوعًا من التوجه التقني في صنعة التحقيق، سواء على مستوى الضبط أو التعليق أو التخريج أو التكشيف... إلخ.
بعض البحوث- وإن لم تكن مندرجة تحت هاجس الموازنة- كانت لافتة، ذلك أنها أثارت إشكاليات جديدة في عالم التحقيق، من مثل «النص التراثي وإشكال تعاقب التحقيقات» للباحث المغربي د.عبد الله الرشدي، من دار الحديث الحسنية (الرباط).
التحقيق.. قراءة
إن مقاربة هذا الإشكال تعد بداءة مقاربة جدية وجديدة في ظل ما نراه من نشر النص الواحـد أكثر من مـرة، على يد أكثر من محقق، ثم إن هـذه المقـاربة استطاعت أن تنظر إلى الإشكال من زاوية جديدة تمامًا، تقوم على أن التحقيق إنما هو نوع من القراءة بالمفهوم النقدي الحديث، القراءة التي تستلزم بالضرورة الاختلاف عند التعدد، فكل قراءة جديدة هي قراءة مختلفة بالنظر إلى اختلاف القارئ ورؤيته وغرضه.. كما تستلزم بالضرورة- أيضًا- الإنتاجية التي تعني توليد نص جديد.
لم تكن مقاربة الرشدي مقاربة نظرية، بل قامت على نموذج محدد هو كتاب «دلائل الإعجاز» لعبدالقاهر الجرجاني (ت471هـ)، أحد أهم العلماء في تاريخ البلاغة العربية، وصاحب نظرية النظم، فقد جرى تحقيق هذا النص في القرن الماضي أكثر من مرة، اختار منها الرشدي ثلاثة تحقيقات: تحقيق محمد عبده في مطالع القرن الماضي (1903)، وتحقيق محمد بن تاويت التطواني في أواسط الخمسينيات من القرن الماضي، وتحقيق محمود محمد شاكر الذي ظهر في مطالع القرن الحالي (2004).
أسئلة التحقيق- القراءة
إن النظر إلى التحقيق على أنه قراءة يكشف عن أن التحقيق الأول صدر عن هاجس التعليم، فمحمد عبده إنما حقق النص ليدرسه لطلبته في الأزهر، وقد انعكس ذلك على اهتمامه الشديد بتصحيح النص وشرح ألفاظه، وأعانه على ذلك تلميذه محمد رشيد رضا، ومحمد محمود الشنقيطي إمام اللغة والأدب في ذلك الوقت.
تحقيق التطواني كان مسكونًا بسؤال آخر هو سؤال التاريخ، فالمغاربة لم يكونوا يعرفون «الدلائل»، وجاء التحقيق ليلبي هذه الحاجة، ويبعث النص من جديد، وقد تجلى سؤال التاريخ هذا في المقدمة التي تصدرت الطبعة، وتركزت على التأريخ للبلاغة العربية، وأسس صاحبها لرؤية مستقبلية تدعو إلى تبني مشروع لإعادة كتابة هذا التاريخ، وضرورة إحياء النصوص اللازمة لذلك عن طريق نشر مخطوطاتها.
إن المستهدف عند التطواني هو النخبة، على حين كان عند عبده هو الطلبة، ولذلك اختلف منهج التحقيق (القراءة). ويبدو أن سيطرة سؤال التاريخ على التطواني كان وراء سقوط ركن أساسي في التحقيق، هو ركن النسخ التي لم تظهر أية إشارة إليها في المقدمة، وهو أمر مثير للدهشة حقا- كما يقول الرشدي- إذ كيف السبيل للحديث عن تحقيق علمي دون نسخ معتمدة؟
على أن سؤال التاريخ ما وجد تجليه إلا في المقدمة، مما يعني أن هذا العمل (القراءة/التحقيق) لم يرق إلى توليد رؤية جديدة للنص.
كان منطلق شاكر في قراءة «الدلائل» مختلفًا، فالرجل جعل وكده استبطان النص، صادرًا عن مشروعه الأساس في قراءة التراث الذي يقوم على ما أسماه المنهج التذوقي.
ومما يلفت في تحقيق شاكر أن سؤال الفهم لم يحجب لديه سؤال التعليم، لذلك استطاع أن يقدم لنا نصا صحيحًا إلى جانب تقديمه نصا مستبطنًا بعمق، فقـد أمكنه أن يكتشف أن العلاقة بين كتاب الجرجاني و«المغني» للقاضي عبدالجبار (ت 415هـ) المعتزلي هي علاقة المقابلة، فالجرجاني يرى الإعجاز في النظم، ويرد أقوال القاضي الذي يراه في اللفظ.
وقد انعكس سؤال الفهم على عملية التحقيق نفسها، فرأينا شاكرًا يعنى أيما عناية بتقسيم النص إلى فقر وترقيمها، وعنونتها، والربط بينها.
لا شك أن النظر إلى التحقيق على أنه قراءة سيفتح أمام الباحثين في التراث آفاقًا واسعة، وأول هذه الآفاق هو التأسيس لمشروعية تكرار التحقيق، دون أن يعني ذلك التضحية بالإجراءات الأساسية والمنهجية للتعامل مع النص، أو تجاوزها.
وأحسب أننا بحاجة إلى هذا النوع من البحوث التي تثير إشكاليات في عالم التعامل مع النص، ولا تكتفي بإعادة الصياغة وسوق الأمثلة، وهو ما يردنا إلى الفكرة الأساسية التي انطلقنا منها.
د.فيصل الحفيان
مدير معهد المخطوطات العربية بالقاهرة