إن اختلاف الناس سنة كونية لن تنتهي ما كان على الأرض اجتماع من الناس.
وهذا الاختلاف أحيانا يستدعي الحوار بين الأطراف المختلفة؛ وذلك محاولةً منهم للوصول إلى كلمة سواء بينهم يتفقون عليها.
وأحيانا يكون سبب الحوار من أحد الطرفين إظهار قوة حجته، وإفحام خصمه، ليظهر للناظر المتردد بين القولين أيهما يتبع، وإلى أيهما يميل.
وإن الحجج والأدلة والبراهين كثيرا ما تختلط، فلا تظهر الصادقة منها من الكاذبة، ولا سيما إذا كان المتكلم لسنا عليما واسع الحيلة يلبس الحق بالباطل.
وإن المتأمل لحال كثير من هؤلاء يظهر له بعض الحيل التي يتكرر استعمالها عندهم، وهذه الحيل أحيانا تكون صوابا، ولكن المكر يكون في كيفية استعمالها وتنزيلها على غير موقعها، ليحصل غرضه من ورائها.
وهناك حيل قديمة معروفة، مثل التحريف في النقل، والكذب وبتر النصوص، والإحالة على ما لا يمكن الرجوع إليه، وغير ذلك، وليس من غرضي بيان ذلك في هذا الموضوع.
وإنما غرضي بيان بعض الحيل النفسية والكلامية، وفي ذلك فائدة من وجهين:
الوجه الأول: التنبه لهذه الحيل عند مناقشة أهل الباطل والضلالات.
الوجه الثاني: استعمال هذه الحيل معهم أيضا لإظهار عوارهم وبوارهم عند المترددين.
فأولى هذه الحيل أن يأتي مناظرك في أي مسألة من المسائل فيقول لك: ( عَرِّفْ لي ما تريد النقاش فيه )، مع أن المسألة المطروحة للنقاش معروفة عندك وعنده وعند جميع الناس، ولكنه يريد منك أن تذكر تعريفا أو حدا نصيا، ليكون ذلك سبيلا للطعن في صحة كلامك، بالطعن في هذا الحد؛ لأن الحدود لا يسلم معظمها من الدخل والخلل؛ إذ إنها موضوعة بحسب طاقة البشر، فإذا جاء إلى الحد أو التعريف الذي ذكرته، فتراه يورد عليه بعض أوجه الإبطال، حتى إذا استقام له ما يريد حار عليك بقوله : ظهر الآن أن تعريفك المذكور باطل أو فاسد، وهذا يدل على أنك لا تعرف ما نتناقش فيه أصلا، فكيف تريد أن تناقش في شيء لا تعرفه ؟
والطريقة التي أراها صحيحة في الجواب عن مثل هذه الشبهة أن يقال:
لماذا تريد مني تعريف هذا الشيء؟ هذا الأمر نحن نعرفه جميعا، وليس نقاشنا الآن في تعريفه، إنما نقاشنا في مسألة جزئية، فإن كنت تريد مني تعريفه لأن ذلك سينبني عليه شيء يفيد النقاش، فاذكر لي هذا الشيء حتى أتدبره في التعريف، وإن لم يكن سينبني عليه شيء فلا معنى لطلب شيء لا يفيد في النقاش.
وهناك طريقة أخرى في الجواب عن هذه الشبهة، وهي أن يقال:
- ماذا تقصد بالحد والتعريف؟ عرِّف الحد أو التعريف ( ثم تورد على تعريفه الاعتراضات نفسها التي أوردها على تعريفك )
- وهل يشترط في فهم الكلام معرفة حده وتعريفه؟
- وهل كل كلمة نتكلم بها ونتفاهم بها نعرف حدها وتعريفها؟
- وهل استقام حد أو تعريف لشيء من الأشياء فخلا من الاعتراضات أصلا؟
والطريقة الأولى ينصح بها عند خطاب المنصف أو من يرجى قبوله للحق، والثانية تكون مع المبطل المعاند.
ومن الحيل المستعملة في النقاش أيضا أن يقول لك مناظرك: ( عرفني بنفسك لو تكرمت؛ لأن هذا العلم دين، ولا يؤخذ العلم عن مجاهيل، وأما عن نفسي فأنا فلان بن فلان حاصل على ماجستير في كذا ودكتوراه في كذا ومعي إجازة من علماء الشام واليمن والهند والمغرب ... إلخ )
وهذه الحيلة لا تنفع مع أهل العلم، ولكن مراد صاحبها بها أن يضل العوام الذين يقرءون النقاش؛ إذ من المحتمل أن لا يفهموا كثيرا من الكلام، فحينئذ يكون اطمئنانهم أكثر إلى هذا الحاصل على الشهادات المجاز من كثير من العلماء، أما أهل العلم فلا يغرهم مثلُ هذا الكلام؛ لأنهم يعلمون أن كثيرا من هذه الشهادات والإجازات مثل العدم.
والجواب عن هذه الشبهة أن يقال: ( إنما يطلب هذا الكلام إن أراد العامي أن يستفتيني، وأنا لست في مقام الإفتاء هاهنا، وإنما في مقام المناظرة، ومعنى المناظرة أن تدفع الحجة بالحجة، والدليل بالدليل، ولم يشترط أحد مطلقا أن يكون المتناظران في درجة واحدة من العلم؛ لأن ذلك لو اشترطناه لما ساغت المناظرة أصلا؛ إذ لا يخلو المتناظران من تفاوت في العلم بينهما، وكم من عالم أخطأ وأرشده من هو أقل منه علما، ولا يعني هذا رفع المفضول عن الفاضل، وإنما يعني أن الفاضل في الجملة لا يشترط أن يكون فاضلا في التفصيل ).
وهذا الجواب يكون مع المنصفين، أما الضلال المبطلون، فيكون الجواب معهم ببيان عوارهم وبوارهم في مصنفاتهم مثلا أو في كتبهم أو في جهلهم بأيسر مسائل الشرع، ثم يستفاد من ذلك في الدلالة على أن شهاداتهم مزورة أو لا يستحقونها، أو أن كثيرا من مشايخهم الذين أجازوهم صوفية أو طرقية أو غير ذلك؛ فهذه هي الطريقة التي تنفع العوام عند المناظرة.
ويمكن أن يضاف أيضا ما يلي:
ليس مقياس العلم والصواب بشهرة الإنسان، فكم من مغمور هو أكثر علما من كثير من المشاهير، ( ثم تضرب له أمثلة بكثير من المشاهير الذين لا يفرقون بين الكوع والكرسوع )، وإذا كنت ترى أني لا أحسن المناظرة أصلا، فهذه حيدة منك؛ إذ كيف تناظر من لا يحسنها.
وإن كنت ترى أني أحسنها، فهذه شهادة منك لي تكفيني في هذا المقام، فلا معنى لسؤالك حينئذ.
ويمكن أن يضاف أيضا ما يلي:
دعنا من شهاداتك وشهاداتي الآن، ولنحتكم إلى من هو أعلم مني ومنك ( وهذا أفضل شيء في المناظرات أن يكون هناك حاكم بينكما ) ليكون مرجعنا إليه في المناظرة ليس ليرجح قولا على قول، وإنما ليحكم على كلام كل من يدلي بدلوه بأنه حجة صحيحة أو جهل صريح.
ومن الحيل المستعملة أيضا في النقاش والمناظرات:
أن يقول لك صاحبك: ( أنا كلامي واضح، ولكن المشكلة في فهمك، فأعد النظر في الكلام حتى يتبين لك وجهه ).
وهذه حيلة العاجز الذي تلزمه أن كلامه فاسد من عدة أوجه فلا يستطيع ردا، ولا يمكنه الفكاك، فيحتال بهذه الحيلة التي لا تنفع مع أهل العلم، ولكنها تفيده مع العوام الذين يحسنون به الظن.
وللجواب عن هذه الشبهة يقال:
( الكلام إما أن يكون مفهوما وإما أن لا يكون مفهوما، فإن لم يكن مفهوما فكلامك باطل، وقد سقط احتجاجك، وإن كان مفهوما، فلا بد أن يكون بعض الناس قد فهمه؛ لأنه لا معنى لكون الكلام مفهوما ولا يوجد أحد من البشر يفهمه )
ثم تدعو الحاكم على المناظرة أو أحد القراء المنصفين للمناظرة ليقرر ما إذا كان يفهم الكلام أو لا يفهمه، فإن لم يفهمه أحد كان دليلا على صحة كلامك، وإن فهمه أحد فحينئذ تطلب منه أن يفهمك إياه.
فإذا عبر عنه بعبارة أخرى، فحينئذ إما أن يظهر ما في الكلام من خلل فيتضح عوار مخالفك وبواره، وإما أن يحاول الإفهام فلا يستطيع.
وفي كلا الحالين تخرج من هذه الشبهة.
ولا جرم هناك حالة أخرى وهي أن يكون الكلام مفهوما وله معنى صحيح ولكني لم أذكر هذه الحالة لأنه لا ينبغي أن تعترض عليها أصلا.
.............. يتبع إن شاء الله تعالى، وأرجو من الإخوة المشاركة.