الأنبار .. كُنوز لم تكتشف ومواقع غارقة في القدم
ذُكرت الأنبار في العديد من كتب التأريخ بأنها أول البلدان التي اِنطلقت منها اللغة العربية، فقد حكا ابنُ قتيبة في المعارف أن أولَ من كتب بالعربية هو مُرامرُ بنُ مرَّة من أهل الأنبار، وحكى المدائني أن أول من كتب بها مُرامرُ بنُ مُرَّة، وأسلمُ بنُ سَدرَة، وعامر بنُ حَدرَة، فمُرامر وضعَ الصور، وأسلم فصلَ ووصل، وعامر وضَعَ الاعجام, ومعروفٌ أن الكتابة أساسُ الحضارة الاِنسانية، وأينما وجدَ الاِبداع في الكتابة وجدت الحضارة، ولعلَ محافظة الأنبار تزخرُ بالعشرات من المواقع الأثرية تحت أطنانٍ من التراب، التي لازالت تنتظر من يكشف النقاب عنها، وهي تزخر بالكنوز التي تحكي حقباً مرت على بلاد الرافدين، من عهد حمورابي ونبوخذ نصر حتى يومنا هذا، وقد حاول الكثير من المثقفين ممن ينشطون في مجال الآثار والتراث لفت عناية المسؤولين الى هذا الجانب، الذي وصفه الكثيرون بأنه مهملٌ وبحاجةٍ إلى عناية فائقة لإنعاشه بعد سباتٍ طويل، تلك الآثار تبدأ من مدينة الفلوجة شرق الأنبار بما تحتها من بقايا آثار (بالوكات) و(تل جوخة) ثم شمالاً إلى الصقلاوية، حيثُ أول عاصمة للخلافة العباسية، ومن ثمَ نحو الرمادي ذهاباً باِتجاه الغرب إلى هيت، التي أشار بعض المؤرخين إلى أن هذا الاِسم (ايتو) ورد في المراجع التي بينت عُمقها التاريخي، وما بقي من آثارها اليوم منارة هيت الشهيرة وقلعة هيت التاريخية المعروفة، ومنها إلى حديثة مدينة الجمال والنواعير، التي فيها الكثير من أسرار التاريخ التي لم تكشف بعد، منها العديد من الكهوف الغارقة في القدم والتي تخفي في بواطنها أسراراً كثيرة، حيث استغل أهالي المدينة بعض هذه الكهوف لغرض الخزن وكأماكن لمبيت مواشيهم وحيواناتهم الأليفة في الصيف والشتاء، وقد حاول العديد من المؤرخين والباحثين الولوج إلى داخل هذه الكهوف لدراستها ومعرفة عمقها التاريخي لكن الكثير من الأسرار لازالت لم تكشف بعد، فضلاً عن عدد من المواقع الأثرية الدارسة، حيث لم يبق منها سوى بعض الأطلال هنا وهناك، والمتجول في مدينة حديثة يجد الكثير مما يثير الغرابة من مواقع غارقة في القدم لا يعرف لها تاريخ محدد، وهي عبارة عن تجاويف كبيرة جداً داخل الأرض وبأعماق كبيرة جداً، يحيطها الكثير من الغموض، يسميها أهالي حديثة ( الخسفة)، وهم اسم يطلقونه على هذه التجاويف الأرضية مثل (خسفة سلمان) و(خسفة أم الجماجم)، وهي إلى جانب كهوف حديثة من الأماكن التي لم تكتشف إلى الآن، ويحكى أن مدينة حديثة أصيب أهلها بداء الطاعون في قديم الزمان فكان الفرد من العائلة إذا أصيب بالطاعون أُلقيَ في هذه الخسفة بعد وفاته، ومن المختصين من أشار إلى أن هذه الخسفات كانت قديماً مجرى لعيون الماء التي تمتد إلى الأودية القريبة منها، وفي موسم الأمطار تمتلئ هذه الخسفة بالمياه وتطفو الجماجم على سطحها، لذا سماها أهالي حديث بخسفة أم الجماجم, أما الكهوف في حديثة فيلفها الكثير من الغموض، ويروى عنها كثير من القصص التي يلفها شيء من الخيال لكثرتها وتنوع أشكالها، والداخل إليها يرى طيور الخفاش وهي معلقة بأعلى الكهف وكأنه في أحد أفلام الرعب، غير أن فيها شيئاً من الجمالية واِستهواء المستكشفين، وقد نسجت عن هذه الكهوف الكثير من الروايات والقصص تفيد بأنها مسكونة من قبل الجن، وأنَ فيها أفاعي عملاقة، واِن كان بعض السكان أكدوا أنهم رأوا في بعض هذه الكهوف أفاعي كبيرة جداً، غير أن عدم وجود بعثات اِستكشافية متخصصة في هذه الكهوف يبقيها في بئر بلا قرار من الأسرار المتراكمة.
مدرسة أبي علي النحوي
خالد الصكر عضو مجموعة الدفاع عن آثار الأنبار قال في حديثٍ للصباح الجديد « تمتلك الأنبار كنوزاً لا يستهان بها من الآثار الغارقة في القدم، ابتداءً من مدينة الفلوجة إلى هيت وحديثة وعنه وراوة، وانتهاءً بالقائم الحدودية، وقد ذكرت العديد من المواقع الأثرية التي تضمها مدن الأنبار في كثير من المراجع والمصادر التاريخية، غير أن هذه المواقع بحاجة إلى تأهيل واهتمام من قبل الجهات المعنية كونها تمثل حقب تاريخية قديمة جداً من تاريخ وحضارة وادي الرافدين، ومن هذه المواقع التاريخية مدرسة أبي علي النحوي (900 _ 987 م) أحد أئمة وأعمدة اللغة العربية وهو الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي الأصل، دخل بغداد سنة 307 للهجرة وتجول في عدة بلدان، وقدم حلب سنة 341 للهجرة، فأقام مدة من الزمن عند سيف الدولة الحمداني ثم عاد إلى بلاد فارس، فصحب عضد الدولة ابن بويه، وتقدم عنده، فعلمه النحو وصنف له كتاب (الإيضاح) في قواعد اللغة العربية، ثم رحلَ إلى بغداد وأقام فيها حتى توفي فيها، وله شعرٌ قليل، ومن كتبه (التذكرة) في علوم اللغة العربية بعشرين مجلداً، وكتاب (تعاليقُ سيبويه) و (الحجة) و( جواهر النحو) و( الاِغفال فيما أغفله الزجاج من المعاني ) و ( المقصور والممدود) و ( العوامل في النحو) «.
وأضاف الصكر « لازالت آثار مدرسة أبي علي النحوي شاخصةً إلى يومنا هذا في مدينة آلوس التابعة لقضاء حديثة، وهي من الشواخص التاريخية المهمة التي تدون أزمنة قديمة في تلك المنطقة؛ التي كانت زاخرة بالعلوم والآداب والفنون آنذاك، وقد كانت لنا، نحن مجموعة الدفاع عن آثار الأنبار، جولة موسعة في المناطق الغربية من المحافظة، ابتدأنا بها من مدينة هيت والبغدادي إلى آلوس وحديثة، وتجولنا في العديد من تلك المواقع الأثرية فوجدنا ضرورة الاِهتمام بها بشكل أكبر من خلال التعريف بهذه الآثار وأهميتها التاريخية والسياحية في المستقبل.
التل الأحمر في الفلوجة
الباحث التاريخي محمد الدليمي أشار إلى أن « محافظة الأنبار فيها الكثير من المواقع الأثرية التي لازالت تحت أطنان من التراب، وقد يكون أهمها في مدينة الفلوجة حيث (التل الأحمر) الذي يعود إلى الحقبة السومرية، وموقع آخر داخل مدينة الفلوجة عبارة عن آثار لحملة العشرة آلاف جندي التي قادها حمورابي لإسقاط إحدى الممالك في المناطق الغربية، وهذا الموقع الآن تحت عدد من المنازل والشوارع، ومن ثمَ باتجاه الغرب حيث (بالوكات) و( أرابقيوم) وهذان الموقعان يعودان إلى عهد نبوخذ نصر، غير أنهما الآن تحت أكوام من التلال التي لا يكاد يبين منها شيء».
وتابع الدليمي « بسبب الظروف التي يمر بها البلد، وخاصةً الأمنية منها، لم يكن سهلاً متابعة اِستكشاف هذه المواقع المهمة الغارقة في القدم، والتي تشكل جزءاً مهماً من تأريخ حضارة وادي الرافدين، وقد عثر على الكثير من القطع الأثرية في مدينة الفلوجة أثناء أعمال مد أنابيب شبكات الصرف الصحي، حيث عثر على أكثر من عشرين قطعة أثرية؛ تنوعت بين التماثيل الصغيرة والجرار الفخارية، وبعد الفحص والتدقيق تبين أنها تعود للحقبة السومرية، علماً أنها وجدت وسط مدينة الفلوجة، وهذا دلالة واضحة على وجود الكثير من الكنوز والآثار تحت الأرض، وربما يسأل سائل لماذا لا توجد شواخص لهذه الآثار كالتي في محافظات أخرى، أو بلدان أخرى، ونُجيب على هذا السؤال بأن الآثار المؤشرة في الأنبار غارقة في القدم، وتعود لأزمنة تاريخية قديمة جداً، وتعرضت الى التخريب والنبش من قبل البعض في فترات ماضية، ولم يكن من السهل في العقود الماضية التنقيب فيها، خاصةً وأن البلد مر بكثير من الظروف الحرجة».
الصقلاوية عاصمة العباسيين
الناشط علاء الدليمي بين أن « محافظة الأنبار فيها ما يزيد عن 400 موقع أثري تعود لمختلف الأزمنة، غير أن الكثير من هذه المواقع إما أن تكون درست ولم يبقَ منها إلا بعض أطلال وإما أن تكون مطمورة تحت أكوام من التراب والتلال المترامية, وفي الفترات الأخيرة بدأت مجموعات من الشباب المهتمين بهذا الجانب بتنظيم سفرات بحثية إلى عدد من هذه المواقع، إلى جانب عدد من المواقع التي تحمل في طياتها الكثير من الغرابة، مثل الكهوف وعدد من التجاويف الأرضية الكبيرة التي يطلق على إحداها الـ (الخسفة )، كالتي في مدينة حديثة لمحاولة الوقوف على كيفية تأهيل هذه المواقع ولفت النظر إليها من قبل المعنيين «.
وأضاف الدليمي « كما توجد محاولات لإعادة الحياة للعديد من الشواخص التراثية، مثل النواعير التي عرفت بها محافظة الأنبار، وهي تصنف من ضمن التراث والآثار القديمة جداً في المحافظة، والتي اندثر الكثير منها نتيجة الإهمال والظروف غير الملائمة التي مر بها بالبلد».
وبين أن « من المواقع الأثرية المهمة هي مدينة الأنبار القديمة التي كانت أول عاصمة للخلافة العباسية، والتي أسسها أبو العباس السفاح، تقع إلى الشمال من مدينة الفلوجة في ناحية الصقلاوية، ولا تزال آثارها شاخصةً، وبعض قطع الجرار الفخارية متناثرة على أطراف أسوارها التي بقي منها الأطلال فقط «.