قال ابن القيم - رحمه الله -:
وَقد جمعت هَذِه السُّورَة من أصُول الْإِيمَان مَا يَكْفِي ويشفي ويغني عَن كَلَام أهل الْكَلَام ومعقول أهل الْمَعْقُول فَإِنَّهَا تضمّنت تَقْرِير المبدأ والمعاد والتوحيد والنبوّة وَالْإِيمَان بِالْمَلَائِكَة ِ وانقسام النَّاس إِلَى هَالك شقي وفائز سعيد وأوصاف هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاء وتضمّنت إِثْبَات صِفَات الْكَمَال لله وتنزيهه عَمَّا يضاد كمله من النقائص والعيوب وَذكر فِيهَا القيامتين الصُّغْرَى والكبرى وَالْعَالمِينَ الْأَكْبَر وَهُوَ عَالم الْآخِرَة والأصغر وَهُوَ عَالم الدُّنْيَا وَذكر فِيهَا خلق الْإِنْسَان ووفاته وإعادته وحاله عِنْد وَفَاته وَيَوْم معاده وإحاطته سُبْحَانَهُ بِهِ من كل وَجه حَتَّى علمه بوساوس نَفسه وَإِقَامَة الْحفظَة عَلَيْهِ يُحصونَ عَلَيْهِ كل لَفْظَة يتَكَلَّم بهَا وَأَنه يوافيه يَوْم الْقِيَامَة وَمَعَهُ سائق يَسُوقهُ إِلَيْهِ وَشَاهد يشْهد عَلَيْهِ فَإِذا أحضرهُ السَّائِق قَالَ {هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} أَي هَذَا الَّذِي أمرت بإحضاره قد أحضرته فَيُقَال عِنْد إِحْضَاره {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عنيد} كَمَا يحضر الْجَانِي إِلَى حَضْرَة السُّلْطَان فَيُقَال هَذَا فلَان قد أحضرته فَيَقُول اذْهَبُوا بِهِ إِلَى السجْن وعاقبوه بِمَا يستحقّه
وتأمّل كَيفَ دلّت السُّورَة صَرِيحًا على أَن الله سُبْحَانَهُ يُعِيد هَذَا الْجَسَد بِعَيْنِه الَّذِي أطَاع وَعصى فينعمه ويعذّبه كَمَا ينعم الرّوح الَّتِي آمَنت بِعَينهَا ويعذّب الَّتِي كفرت بِعَينهَا لَا أَنه سُبْحَانَهُ يخلق روحا أُخْرَى غير هَذِه فينعمها ويعذبها كَمَا قَالَه من لم يعرف الْمعَاد الَّذِي أخْبرت بِهِ الرُّسُل حَيْثُ زعم أَن الله سُبْحَانَهُ يخلق بدنا غير هَذَا الْبدن من كل وَجه عَلَيْهِ يَقع النَّعيم وَالْعَذَاب وَالروح عِنْده عرض من أَعْرَاض الْبدن فيخلق روحا غير هَذِه الرّوح وبدنا غير هَذَا الْبدن وَهَذَا غير مَا اتّفقت عَلَيْهِ الرُّسُل ودلّ عَلَيْهِ الْقُرْآن والسنّة وَسَائِر كتب الله تَعَالَى وَهَذَا فِي الْحَقِيقَة إِنْكَار للمعاد وموافقة لقَوْل من أنكرهُ من المكذبين فَإِنَّهُم لم ينكروا قدرَة الله على خلق أجسام أخر غير هَذِه الْأَجْسَام يعذبها وينعمها كَيفَ وهم يشْهدُونَ النَّوْع الإنساني يخلق شَيْئا بعد شَيْء فَكل وَقت يخلق الله سُبْحَانَهُ أجساماً وأرواحاً غير الْأَجْسَام الَّتِي فنيت فَكيف يتعجّبون من شَيْء يشاهدونه عيَانًا وَإِنَّمَا تعجّبوا من عودهم بأعيانهم بعد أَن مزّقهم البلى وصاروا عظاما ورفاتا فتعجّبوا أَن يَكُونُوا هم بأعيانهم مبعوثين للجزاء وَلِهَذَا {قَالُوا أئذا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وعظاماً أئنا لمبعوثون} وَقَالُوا {ذَلِكَ رَجْعٌ بعيد} وَلَو كَانَ الْجَزَاء إِنَّمَا هُوَ لأجسام غير هَذِه ل يكن ذَلِك بعثا وَلَا رجعا بل يكون ابْتِدَاء وَلم يكن لقَوْله {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْض مِنْهُم} كَبِير معنى فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ جعل هَذَا جَوَابا لسؤال مقدّر وَهُوَ أنّه يُمَيّز تِلْكَ الْأَجْزَاء الَّتِي اخْتلطت بِالْأَرْضِ واستحالت إِلَى العناصر بِحَيْثُ لَا تتميّز فَأخْبر سُبْحَانَهُ أَنه قد علم مَا تنقصه الأَرْض من لحومهم وعظامهم وأشعارهم وَأَنه كَمَا هُوَ عَالم بِتِلْكَ الْأَجْزَاء فَهُوَ قَادر على تَحْصِيلهَا وَجَمعهَا بعد تفرّقها وتأليفها خلقا جَدِيدا وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُقرر الْمعَاد بِذكر كَمَال علمه وَكَمَال قدرته وَكَمَال حكمته فَإِن شُبه المنكرين لَهُ كلهَا تعود إِلَى ثَلَاثَة أَنْوَاع:
أَحدهَا اخْتِلَاط أجزائهم بأجزاء الأَرْض على وَجه لَا يتميّز وَلَا يحصل مَعهَا تميز شخص عَن شخص الثَّانِي أَن الْقُدْرَة لَا تتعلّق بذلك الثَّالِث أَن ذَلِك أَمر لَا فَائِدَة فِيهِ أَو إِنَّمَا الْحِكْمَة اقْتَضَت دوَام هَذَا النَّوْع الإنساني شَيْئا بعد شَيْء هَكَذَا أبدا كلما مَاتَ جيل خَلفه جيل آخر فأمّا أَن يُمِيت النَّوْع الإنساني كُله ثمَّ يحيه بعد ذَلِك فَلَا حِكْمَة فِي ذَلِك فَجَاءَت براهين الْمعَاد فِي الْقُرْآن مبينَة على ثَلَاثَة أصُول:
أَحدهَا: تَقْرِير كَمَال علم الرب سُبْحَانَهُ كَمَا قَالَ فِي جَوَاب من قَالَ من يحي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عليم وَقَالَ {وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} وَقَالَ: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُم}.