نعم برأيي أن هذا المنظّـر الكبير للفكر الشيوعي قد صدق في هذه العبارة وأصاب، لأنَّه في الحقيقة لم يكن يعرف من الدين سوى ذلك الدين الذي ارتضى الأسلوب القمعي أسلوباً له، وارتضى أن يحجر التحصيل العلمي والعملية الفكرية على ثلّة ممن ينتسبون للدين المسيحي الكاثوليكي فحسب.
في عهد هذا المفكر كان الدين المسيحي الكاثوليكي في أسوأ حالاته على الإطلاق، باعتبار عقد القران غير الشرعي بين رجال الكنيسة ورجال السلطة الحاكمة في أوروبا القرون الوسطى، فكان رجال السياسة يفعلون كلَّ ما بدا لهم من قمعٍ وحجرٍ وإيذاءٍ وتخلفٍ تحت مظلة الدين التي هي بدورها كانت تتسع باتساع هذه الأفعال.
ومَنَع رجالُ الدين في ذلك الوقت كلَّ من أراد البحث العلمي والبحث الفكري، وكلنا يعلم ما حصل للعالم الفيزيائي جاليليو حينما أوصله تحصيله العلمي إلى أنَّ الأرض تدور، فما كان بعد ذلك إلا أن قامت الدولة بإعدامه بعد محكمةٍ تزعمها البابا "لوريني" على الرغم من كون هذا البحث مجرّد نظريَّة فحسب لا تعود بالضرر الصريح على رجال الدين أو رجال الدولة ولكن يبقى هذا الفعل دليلاً تاريخياً على المستوى الرهيب الذي وصل إليه ذلك القمع العلمي والفكري.
ومِن الأساليب التي كانت تُتخذ لمنع الشعب من الوصول إلى العلم، ما كان يفعله رجال الكنيسة مِن منع ترجمة الإنجيل والعمل على إبقائه على لغةٍ لا يعقلها إلا رجالُ الدين كي يحتكروا فهمه، ويصدروا الفتاوى التي تروق بطبيعة الحال لرجال السلطة وتبرّر أفعالهم.
وفي هذه الفترة ظهر بعضُ المصلحين وحاولوا عبَثاً القيام ببعض الإصلاحات ومن أبرزهم المصلح مارتن لوثر، وقد دعا هذا المصلحُ _إن لم يكن أول من دعا في ذلك الوقت - لترجمة القرآن الكريم لمَا رأى فيه سبيلاً لنهاية الظلام وبداية النور، وحاول هذا المصلح جاهداً أن يبطل النظام اللاهوتي للكنيسة ونادى بوجوب كون العلاقة بين الإنسان وربه علاقة مباشرة ليس بينها وسائط من قسٍّ وغيره.
وبقي النَّاسُ حائرين في ذلك ما بين ظلم الحكام الطغاة وتبريرات رجال الدين لها، حتى استفحل الأمرُ وبلغ مبلغه فقامت ثورة الشعب وردد القائمون على هذه الثورة تلك العبارة المشهورة وهي "سنشنق رقبة آخر ملك بأمعاء آخر قسيس" لينتهي بعد ذلك عهد العصور الظلامية التي عاشها الأوربيون دهراً طويلاً.
في هذا السياق جاء قول المفكر ماركس "الدين أفيون الشعوب" ونحن نقول: نعم الدين أفيون الشعوب.
ولكن ليقف إلى هنا ذهن القارئ الكريم ولينظر نظر المنصفين هل كان الدين الإسلامي كذلك حتى يقال عنه ذات العبارة "الدين أفيون الشعوب"؟!
أُعجب في زماننا بعضُ مَنْ ينتسبون إلى ديننا الإسلامي ممَّن يُسمّون "مجازاً" مفكرين بهذه النظرية وأرادوا انتزاعها من سياقها وبالتالي جرّ هذه النظرية على ديننا الإسلامي وعلى واقعنا نحن المسلمين.
ولكننا نقول لهؤلاء المعجبين: إذا كان دينهم في ذلك العصر قد مَنَعهم من العلم وتحصيله فديننا الإسلامي قد أوجب التحصيل العلمي على أتباعه، فمن العلوم ما أوجبها على سبيل العينية ومنها ما أوجبها على سبيل الكفاية، وحث في آيات أكثر من أن تدخل في إطار الحصر على السعي في تحصيل العلم وكذلك التعليم، فتارةً نجد القرآن الكريم يرفع قدر العالم إلى كونه شاهداً مع الملائكة على وحدانية الله تعالى، وتارة يحصر خشية الله تعالى في العلماء، وقد وردت الأخبار الكثيرة في السنة النبوية على صاحبها أفضل صلاةٍ وسلام تحث على طلب العلم والسعي إليه ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام:"من سلك طريقاً يلتمس به علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة".
ولاحظ هنا أنَّ لفظ "علماً " نكرة قد جاء في سياق الشرطية، وقد قال علماء الأصول إنَّ النكرة في سياق الشرط تفيد العموم، فهذا الفضل يشمل كلَّ علم شريطة أن يكون هذا العلم نافعاً في ذاته وأن ينوي به الساعي إليه نَفع الأمة والمشاركة في تقدمها.
وثمّة أخبار أُخر تغني شهرتها عن ذكرها هنا.
وإذا كان الدين المسيحي آنذاك كان يحجب وصول حكم الله تعالى إلى الناس من خلال إبقاء الإنجيل على لغةٍ لا يعقلها إلا هم فقد كان الوضع في ديننا مغايراً تماماً، حيث قال نبيُّ الهدى صلى الله عليه وسلّم في الحديث الذي رواه أبو هريرة:"من سئل عن علم فكتمَهُ ألجم يوم القيامة بلجام من نار" رواه الترمذي وأبوداود.
انظر إلى عِظم العقوبة المترتبة على ترك العلم والتعليم في ديننا ثم انظر تارة أخرى إلى عظم العقوبة لمَن صرَّح بالعلم في دينهم !!
وإذا دينهم كان يمنع الصلة المباشرة بين العبد وربّه فإن ديننا الإسلامي كان على النقيض من ذلك تماماً، فالدين الإسلامي يُحرّم أن يتخذ العبدُ واسطة بينه وبين ربه، بل إنه ما نقم على قريش وغيرهم إلا جعلهم الوسائط بينهم وبين الإله.
بعد ما سلف من أسطر نسألُ من ألبس هذه النظرية ثوب الإعجاب: هل الأمران سواء؟
وكتبَهُ
الخلال